وسط تشاؤم عربي، ودولي سبّبته أزمة الشرق الأوسط التي غيّرت في السنوات الأخيرة توزيع القوى على الخارطة العالمية، يصدح صوت الباحث، المفكّر الفرنسي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة باريس للعلوم والآداب، جيل كيبيل، بتحليلات تضمن الخروج السياسي من هذه الفوضى المتأزمة، وفقاً لمعطيات استطاع أن يراقبها على أرض الواقع أثناء سفره لشمال أفريقيا، ودول الشرق الأدنى، والأوسط.
قدّم كيبيل وهو من أبرز المتخصصين بشؤون العالم العربي والإسلامي، آراءه المقترحة في كتابه الأخير "بعيداً عن الفوضى، الأزمات في منطقة البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط" الذي صدر في سبتمبر (أيلول) 2018 عن دار "غاليمار" في فرنسا بما يفوق 500 صفحة. وقد حاول فيه أن يرسم صورة شاملة لمجموعة حقائق افترشت ذاكرة التاريخ في العقود السابقة ضمن تصنيفاتها السياسية، العسكرية، والاقتصادية، والدينية، أو الثقافية.. وخصّص لبلاد الشام وتحديداً سوريا، أكثر الصفحات، حيث يبدو له أنه في هذه المنطقة تبلورت، وولدت ذروة أزمات البحر الأبيض المتوسط، والشرق الأوسط.
كذلك يقدّم سرداً استعادياً شاملاً للانتفاضات العربية التي بدأت في العام 2011 من تونس وصولاً إلى سوريا. ثم يلقي الضوء على الخيارات الهامة، والحاسمة التي يجب أن يتخذها كل من إيمانويل ماكرون، ودونالد ترمب، وفلاديمير بوتين بالتزامن مع خيارات شعوب المنطقة ومعطياتهم.
ثلاثة فصول
قُسّم الكتاب إلى ثلاثة فصول، يركّز الأول وعنوانه "البرميل والقرآن" ـ حيث استخدم مفردة "البرميل" في إشارة إلى النفط ـ على البروز التدريجي للإسلام السياسي بين عامي (1973 ـ 2010). وفيه يرى أن ما حصل في تلك المنطقة من تطورات طيلة العقود الأربعة الماضية، كان لسببين اثنين شكّلا محور الصراعات والأزمات، وهما، النفط، والإسلام السياسي، وأن الحلول اللازمة للوضع الراهن يجب أن تأخذهما بعين الاعتبار في ظل المتغيرات على الساحة الدولية أخيراً.
ويشير في ذات الفصل إلى تعزيز فكرة "الجهاد الدولي" مع اندلاع الثورة الإيرانية عام 1979، وحرب أفغانستان ضد السوفيات عندما هزم ما يسمى "الجهاد الإسلامي" الشيوعية ثم انهزم هو الآخر بوصول الولايات المتحدة الأميركية إلى الشرق الأوسط، وتركيز وجودها على سواحل البحر الأبيض المتوسط. ثم يتحدث كذلك عن تحول الجهاد إلى العولمة، وتجاوزه الحدود التقليدية للمنطقة العربية المسلمة ليثبت نفسه خارجها، ويضرب بدءاً من عام 2001 الولايات المتحدة وأوروبا، وآسيا، وأفريقيا؛ ما غذّى صعود المحافظين الجدد في أميركا، واليمين المتطرف في أوروبا، وبالتالي خلقت تدخلات عسكرية في مواجهته (مثلما حدث في أفغانستان، والعراق) عملت على تغذية الفكر الجهادي من جديد.
ولا ينكر كيبيل أن السياسة والاقتصاد لعبا دوراً هاماً في تحفيز، وتفجير الفكر الجهادي، أو ما يمكن تسميته بالأصولية الإسلامية، لكنه في الوقت نفسه لا ينفي وجودها كمشكلة فكرية، وثقافية لها جذورها الاجتماعية، والتاريخية.
ويتناول الفصل الثاني "من الربيع العربي إلى الخلافة والجهاد" كيف نتج الفكر الجهادي من حراك "الربيع العربي" وسط فوضى عارمة تسببت في تقلص النضال الثقافي الفكري، وسمحت لـ "الخلافة" التي نصّبت نفسها تحت قيادة العديد من الحركات الإسلامية الراديكالية، بالظهور بقوة على ساحة الصراعات الإقليمية.
كما يوضح كيبيل كيف أن ما جرى في تونس، ومصر، وليبيا، واليمن أدّى إلى بروز حركة الإخوان المسلمين التي أخلّت بالتوازنات الإقليمية. وهنا كان لا بد من الوقوف عند الخيار القاسي الذي واجه القادة الغربيين في الدفاع عن الديمقراطية، وبالتالي ازدياد الفوضى بسبب وصول الإخوان إلى الحكم، أو دعم الثورة المضادة المدبرة لاحتواء الفوضى وإسقاط الحكم الإخواني.
وخصّص كيبيل الفصل الأخير من الجزء الثاني في محاولة تفسير حقيقة ما يحدث في سوريا، حيث تحوّلت الانتفاضة إلى حرب أهلية جرى تدويلها بسرعة نتيجة لتضارب المصالح بين مراكز القوى العالمية.
يركز الجزء الثالث، الأخير "بعد داعش"، على كسر الكتلة السنية، ومنها الإصلاحات التي يقوم بها ولي عهد السعودية، وما يحصل في اليمن، ولبنان إلى جانب الهزيمة السنية في العراق. ويحذّر من خلاله أن دولة الخلافة الإسلامية "داعش"، على الرغم من هزيمتها وانكسارها، قد يحدث وتستطيع تجميع شتاتها مرة أخرى، وتعود من جديد قوية، ومرعبة كما كانت.
بديهيات الخروج من فوضى المنطقة
يطرح كيبيل كثيراً من الأسئلة في هذا الكتاب، معتمداً على حقيقة توازنات القوى في منطقة الشرق الأوسط. فيقول متسائلاً "كيف سيكون مستقبل الجهادية والسلفية، وتفكك الكتلة السنية والاضطرابات الجارية في شبه الجزيرة العربية؟ هل ستضمن إيران الهيمنة على منطقة الهلال الشيعي، أم أن مواجهتها مع أميركا دونالد ترمب ستحول دون ذلك؟ ما هي المعطيات التي ستجعل روسيا فلاديمير بوتين قوة عظمى مرة أخرى من خلال تورطها في القضية السورية؟"
ويبدو أن سؤاله، هل ستتغلب أوروبا على نفسها، وتؤكّد نفسها مجدداً كبطل جيوسياسي؟ يخفي في إجاباته الحل البديهي كما يرى كيبيل. فـ"الخروج من الفوضى لن يكون إلا من خلال إعادة إعمار سوريا والعراق، وإيجاد حل سياسي شامل يمنح الأمل للسكان المنبوذين والمهجّرين. وهذا يعني بالضرورة أن تتخذ أوروبا دورها الهام في أزمة الشرق الأوسط، وألا تتخلى عنه لصالح أي من الدول الأخرى". مؤكداً أن إعادة الصلة بين أوروبا، والشرق الأوسط واستمراريتها مستقبلاً هو أحد السبل التي يجب توضيحها لتجنب فوضى السنوات السابقة.
وبرأيه فإن أوروبا ارتكبت كثيراً من الأخطاء في هذه الأزمة، حيث شاهد الأوربيون ما يحدث في الثورات العربية بطريقتهم الخاصة، معتقدين أن الرجال والنساء الذين كانوا في ساحات وميادين العواصم العربية هم ذاتهم الذين كانوا في مايو (أيار) 1968، وأن الربيع العربي يشبه إلى حد ما ربيع براغ، أو الربيع الأوروبي في القرن التاسع عشر. ويلمّح إلى أن هذا الشبه موجود بالفعل، لكن المشكلة أن خلف الربيع العربي وقفت الإسلامية الجهادية التي سمح لها انهيار الأنظمة الاستبدادية بالتسلل لتحل مكانها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهة أخرى وجدت أوروبا نفسها ملجأ للاجئين، وللإرهابيين أيضاً، وشهدت بلا حول ولا قوة توجهاً نحو الأحزاب اليمينية المتطرفة. ويشير إلى أن عدم اهتمام أميركا كقوة عظمى بالأزمة حيث أنها أصبحت الآن منتجاً رئيساً للنفط الصخري، والغاز كسياسة اتبعها باراك أوباما، وخليفته دونالد ترمب، وأجبرت أوروبا على تحمل مسؤولياتها على أرض الواقع، وتحمّل تدفق الهاربين من الحرب، وحدها.
أما روسيا فمن الواضح أن لديها معرفة سياسية، وجغرافية جيدة ومدروسة بعناية بالمنطقة، وهو ما سمح لها باستخدام الوسائل الاقتصادية، والعسكرية في القضية السورية لتصبح قوة عظمى في الوقت الراهن، حيث أخذت القيادة الروسية بكثير من آراء المستشرقين الروس أصحاب المعرفة الواسعة بما حدث ويحدث في الشرق الأوسط. إلا أن روسيا على الرغم من سيطرتها على الوضع حالياً، ما زالت برأي كيبيل، غير قادرة وحدها على إعادة إعمار بلاد الشام، ولا بد من التدخل الأوروبي، وتحديداً فرنسا التي ينتظرها مكان خاص على الساحة.
في النهاية يعود كيبيل إلى التأكيد على أن تحول مجريات الأحداث نحو الحل يضمنه اليوم أمران مهمان، الأول هو انحسار أهمية النفط في ساحة صراع الشرق الأوسط. فاستغلال النفط الصخري والاستفادة منه، عدا عن اكتشاف، واعتماد مصادر طاقة بديلة، أضعف أهمية النفط في العلاقات الدولية، ما يعني أن الشرق الأوسط لم يعد منطقة جذب هامة كما كان في السنوات والعقود الماضية.
الأمر الثاني يتمثّل في انحسار الإسلام السياسي بعد سقوط داعش في سوريا، والعراق، وهزيمة الإخوان المسلمين في مصر، أضف إلى ذلك الإصلاحات التي تقوم بها السعودية متجهةً نحو الانفتاح، والتنوير مع قيادتها الجديدة والشابة.