السودان بعد 9 يوليو (تموز) 2011 ليس كما قبله، فالجنوب حُسم مصيره بانفصاله عن الشمال، وأضحت الدولة التي كانت بمساحة مليون ميل مربع دولتين. وبعدما تغيرت الخريطة الجغرافية والإثنية، واجهت الدولتان الخلافات القائمة فيما بينهما بالإضافة إلى الخلافات الداخلية لكلِّ دولة على حدة، لتنطفئ شعلة اتفاقية السلام التي دفع أبناء السودان، جنوباً وشمالاً، دماءهم في سبيل الوصول إلى ثمارها.
تاريخ مظلم
صوَت السودانيون شماليون، وجنوبيون في 31 ديسمبر (كانون الأول) 1955، من داخل البرلمان لصالح استقلال السودان، وكان تصويت الجنوبيين مدفوعاً بوعد شمالي لهم بالحصول على الحكم الذاتي. حاول الجنوبيون ملء الفراغ السياسي بعد تشكيل لجنة الدستور عام 1956، وانسحابهم منها لضعف تمثيلهم، فأنشأوا الحزب الفيدرالي الجنوبي عام 1958 الذي كان من أهم أهدافه تحقيق انفصال الجنوب. وقد كان ذاك هو العام نفسه الذي تسلّم فيه العسكر السلطة بقيادة الفريق ابراهيم عبود في 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 1958.
أصدر عبود قانون تنظيم الهيئات التبشيرية، وطرد كافة موظفيها من الجنوب عام 1963، وألغى عطلة الأحد الرسمية، واستبدلها بيوم الجمعة. كما انتهج سياسة الأسلمة والتعريب من منطلق أنّها ستكون حلّاً لمشكلة الجنوب. تنامى شعور الجنوبيين بالغبن، ونتيجة لهجراتهم الجماعية إلى دول الجوار الأفريقي، تكونت هناك أحزاب سياسية جنوبية كان من أبرزها الاتحاد السوداني الأفريقي لجنوب السودان (سانو)، الذي أرسل مذكرة إلى الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الأفريقية عام 1963 مطالباً باستقلال جنوب السودان، وحق تقرير المصير، ومتابعة دولية لمعالجة قضية الجنوب. تواصلت المطالبة بين حربٍ وسلم إلى أن تحقق الانفصال.
وعود بالفيدرالية
قال الدكتور خالد التيجاني، رئيس تحرير صحيفة إيلاف السودانية، لـ"اندبندنت عربية"، "ما حدث هو عملية لتقسيم السودان، والاستقلال، أو الانفصال، وهو نتاج لفكرة التقسيم القديمة منذ الأربعينيات عندما بُحث موضوع السودان في مؤتمر جوبا، وتم الوعد بالفيدرالية، لكن لم يوفَ بها عام 1956 عند استقلال السودان. وما حدث في 2011 هو نتيجة لتلاقي رغبة أطراف، وقوى دولية، ولوبيات، بخاصة اليمين المسيحي في الولايات المتحدة، الذي كان يرى الصراع في جنوب السودان باعتباره صراعاً دينياً بين شمال مسلم عربي، وجنوب مسيحي أفريقي. وكذلك تلاقت إرادة حكومة الإنقاذ السابقة (حزب المؤتمر الوطني الحاكم)، والحركة الشعبية لتحرير السودان عبر توقيع اتفاقية السلام الشامل في نيفاشا 2005، وكان لديهما مصلحة معينة في أن يتم التقسيم".
وأشار التيجاني إلى أن "موضوع التقسيم فيه مخالفة واضحة لاتفاقية السلام الشامل التي قامت على معادلة أساسية للاعتراف بالمظالم التاريخية، وأن هذا الاتفاق تم تصميمه بدرجة محددة ليخاطب جذور المشكلة السودانية، على اعتبار أن الحل يكمن في التحول الديمقراطي، ويستوعب التنوع، ومطالب كل السودانيين. وهذه هي أولوية اتفاقية السلام الشامل التي تقوم عليها سلسلة إجراءات وفقاً لبروتوكول تقسيم السلطة والثروة والترتيبات الأمنية والعسكرية. وذلك خلال الفترة الانتقالية التي تستمر لمدة ست سنوات، بعدها يجرى استفتاء يحدد الخيار بين المحافظة على وحدة السودان وفقاً لترتيبات الاتفاقية، أو حدوث الانفصال إذا شعروا بأنّ الاتفاقية لم تفِهِم حقهم".
وأوضح التيجاني أنَّه "خلال ست سنوات كان المجتمع الدولي جاداً، وانعقد مؤتمر أوسلو للمانحين في مايو (أيار) 2008 لتمويل إعادة إعمار، وتنمية جنوب السودان، ولكن لم تكن هناك نتيجة واضحة. ما حدث أنَّ المؤتمر الوطني والحركة الشعبية تآمرا تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، بالسير بهذه الاتفاقية في اتجاه حدوث الانفصال والتقسيم، لينفرد المؤتمر الوطني بالشمال، والحركة الشعبية بالجنوب وفي النهاية سقطت أهم أيديولوجيتين في تاريخ السودان، فالحركة الشعبية قامت على ادعاء أنَّها ستخلق سوداناً جديداً بمعطيات جديدة، وعندما سنحت الفرصة آثرت أن تعطي الاعتبار الأول لفصل الجنوب، وليس للحفاظ على وحدة السودان وفقاً لطرحها. كذلك المؤتمر الوطني، الذي جاء بخلفية الحركة الإسلامية، كان لديه ادعاء بأنه نفَّذ انقلاب 1989 الذي أوصله إلى السلطة بغرض المحافظة على وحدة السودان التي كانت مهددة من قِبل جون قرنق، ولكن في النهاية فضَّل التقسيم، ولم يحافظ على الوحدة".
حسابات خاسرة
كما أوضح التيجاني أن "استراتيجية الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما في 2009 كانت بدعوى الحرص على أنَّ يظل السودان موحداً في سلام داخلي وإقليمي، أو يحدث التقسيم ويستقل الجنوب، وبالتالي تقوم دولتان جارتان، لكن ما حدث أنَّ التقسيم أدى إلى عملية إنتاج دولتين فاشلتين".
وأضاف "رأينا التطورات والتوهمات القائمة على حسابات المؤتمر الوطني بأنَّ انفصال الجنوب سيخلصه من عبئه، وسيساعده على الانفراد بالسلطة في الشمال، مما أدى إلى أزمات اقتصادية متلاحقة نتيجة لفقدان واردات النفط، وظلت البلاد في تردٍ اقتصادي إلى أن أدى ذلك إلى الإطاحة بالحكومة عام 2019. أما بالنسبة إلى الجنوب، فقد كان هناك افتراض بأنَّ مشكلته قائمة على اضطهاد، وفرض هيمنة عربية وإسلامية من الشمال. لكن ما حدث أنَّ دولة جنوب السودان بعد استقلالها لم تستطع الصمود لأكثر من عامين، فقد دخلت في حرب أهلية عام 2013 أخذت طابعاً قبلياً، وأدت إلى فظائع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار التيجاني إلى أنَّ الحرب الدائرة الآن في جنوب السودان هي نتاج الدولة الفاشلة قائلاً "أثبتت الحرب أنَّ المجتمع الدولي الذي رعى جنوب السودان إلى أن تحقق التقسيم تخلى عنه، ولم يقدم له أي مساعدات لها قيمة حقيقية. كما أنَّ هناك جدلاً سياسياً حول الهوية والدين، بحيث لم يتمكّن الجنوب من إقامة دولة علمانية تحافظ على وحدة الجنوبيين، وتحقيق حلم الاستقلال بل استبدلت الصراع بين الشمال والجنوب بصراع بين القبائل الجنوبية فيما بينها، وأنَّ التقسيم أسفر عن صراع سلطة مثلما حدث للنخب السياسية في شمال السودان".
وختم التيجاني حديثه بما جاء في كتابه "الخيار صفر" في هذا الخصوص، بأنَّ "تقسيم السودان أثبت بعد تسع سنوات أنَّه هو الخيار صفر، وهو الإجابة الخاطئة على السؤال الصحيح. الإجابة الخاطئة هي تقسيم السودان، والسؤال الصحيح هو أنَّ السودان كان بالفعل يحتاج إلى نظام سياسي جديد يستوعب ذلك، مما أنتج دولتين فاشلتين بامتياز في الشمال والجنوب".
منطلقات الاستقلال
أما الدكتور ضيو مطوك ديينق وول، وزير الاستثمار في دولة جنوب السودان، فذكر أن "ما كان يطمح إلى تحقيقه جنوب السودان هو الاستقرار، والسلام، والتنمية المتوازنة ولكن هناك تحديات رئيسة لا تزال تواجه الدولة في ما يتعلق بذلك، وهو دمج قوات المعارضة في الجيش الوطني، وتنويع إيرادات الدولة، وإدخال الموارد غير البترولية في عجلة الإنتاج".
وأضاف ديينق "جاءت فكرة استقلال الجنوب من عدة منطلقات، منها الصراع على أساس التهميش والتمييز، وكان أحد المخاوف بعد انفصال جنوب السودان، هو انزلاق الدولة الوليدة في الصراعات القبلية نتيجة لهشاشة الوضع، وفعلاً حدثت الحرب الأهلية بعد عامين فقط من الاستقلال. ولكن تدخل الرئيس سلفا كير ميارديت بالتوقيع على اتفاق السلام لإيقاف الحرب، وبداية المرحلة الجديدة في البلاد التي ستوفِّر فرصة للعودة بها إلى مسارها الصحيح".
وأوضح ديينق "القضايا التي أدت إلى انفصال جنوب السودان، هي القضايا نفسها التي تُثار الآن في دارفور، وجبال النوبة، والنيل الأزرق، وكل الهامش السوداني مما ينبئ بانشطار الدولة السودانية إذا لم يتم تداركها". وعلق على كتابه عن "التمييز الإثني في السودان، مبررات انفصال جنوب السودان"، الذي صدر قبل الانفصال بفترة طويلة "كان عن التمييز كمهدِّد للسلام الاجتماعي في كثير من البلدان التي تعاني من الإقصاء لبعض المجتمعات بسبب اللون، أو القبيلة، أو الدين، أو النوع، وسيطرة بعض الجماعات على مفاصل الدولة مما يولد الغبن والصراع. توقعت فيه قيام حرب أهلية في جنوب السودان إذا لم تلتفت الدولة الوليدة إلى قضايا التمييز الإثني، وفعلاً اندلعت الحرب في البلاد عام 2013".
تباينت ردود فعل مواطني الشمال، والجنوب ومشاعرهم عند إعلان نتيجة الاستفتاء على تقرير مصير جنوب السودان. وعند الاعتراف بدولة الجنوب، وإعلانها في احتفال ضخم في 9 يوليو، تصاعد مزيجٌ من الفرح والحزن. وما بين الاتفاق والاختلاف على أنَّه استقلال، أم انفصال، أم تقسيم، تكمن قضايا عُرفت في أدبيات الاستفتاء بالقضايا العالقة، النفط، والحدود، وغيرها. ومنذ أن رُفعت سارية العلم في سماء مدينة جوبا حاضرة جنوب السودان الدولة رقم 193 في العالم، لا تزال هذه القضايا على الأرض تراوح مكانها.