تفاجأت إحدى السيدات عندما أخبرها بائع في سوق شعبية بالجزائر العاصمة، أن فاكهة المانغا المعروضة على الطاولة آتية من الصحراء الجزائرية وليست مستوردة من أميركا الجنوبية كما كانت تعتقد. وارتفعت حدّة دهشتها عندما علمت أن الأفوكادو باتت تُزرع في الجزائر أيضاً، وكذلك الفول السوداني والفستق وقصب السكر.
سلة الغذاء
لم تَعُد صحراء الجزائر مدرّةً للنفط والتمور بأنواعها فقط، وإنما أصبحت تزوّد أسواق البلاد بغذاء لحوالى 44 مليون فرد، من خضروات وفواكه طازجة وجافة. ولم يتوقّف طموح المزارعين عند هذا الحدّ، بل اتجهوا إلى خوض تجارب المنتجات الاستوائية، التي كان الجزائريون قبل سنوات ينتظرون وصولها في شاحنات آتية من مدن الشمال، بعد رحلات طويلة قد تفوق أربعة أيام كاملةً، وأحياناً أكثر من ذلك.
وفي الآونة الأخيرة، أعلن عدد من المزارعين نجاحهم في غرس أنواع الفواكه الاستوائية والمكسّرات، على غرار المانغا والكيوي والأفوكادو واللوز والفستق الحلبي، في تجارب يُشرف على متابعتها المعهد الوطني لمراقبة البذور والشتائل.
وشجّعت هذه التجارب مناطق أخرى من الوطن على خوضها، إذ نجحت تجارب لإنتاج فاكهة الأفوكادو الاستوائية في إحدى المستثمرات الفلاحية في إقليم بلدية القل بمحافظة سكيكدة شرق الجزائر، التي تتميّز بنظام بيئي خاص ومناخ رطب، ما يتناسب مع خصوصيات ومتطلّبات الأشجار الاستوائية، لا سيّما الأفوكادو التي يعود أصلها إلى القارة الأميركية.
كذلك، أعلنت وزارة الزراعة الجزائرية أخيراً الشروع في إنتاج مادتي السكر والزيت وتجريب زراعة القطن في الصحراء، بالتحديد في محافظة ورقلة التي تعتبر من أهم المدن النفطية في الجزائر، في مشروع يمتدّ على مساحة 11 ألف هكتار.
وتُشكّل الصحراء أكثر من 80 في المئة من مساحة الجزائر الإجمالية، التي تقارب 2381741 كيلومتراً مربعاً، وتعتبر الصحراء الأفريقية الكبرى أكثر المناطق الصحراوية في العالم سخونة، وتمتدّ على أكثر من 3.5 مليون ميل مربع، وهو تقريباً حجم الولايات المتحدة الأميركية بأسرها.
الأرض لِمَن يخدمها
وفي هذه الأراضي الشاسعة وذات الطبيعة القاسية، ينتهج مزارعون شعار "الأرض لِمَن يخدمها"، بخوضهم تحدّيات عدّة للتأسيس لما بات يُسمى بـ "الاقتصاد الأخضر"، وفق ما يقول محمد حماني، فلاح في محافظة وادي سوف (360 كيلومتراً من الجزائر العاصمة)، مضيفاً "الزراعة في الصحراء ليست أمراً سهلاً، وتواجهها عراقيل عدّة أهمّها الكهرباء وحرارة الطقس وشحّ المياه وغياب غرف التبريد والتخزين".
ويروي حماني "بدأتُ زراعة الخضروات وبعض الفواكه قبل حوالى ثماني سنوات، وهي تجربة ناجحة لم تسهم في تموين السوق المحلية، وإنّما باتت تصدّر إلى خارج البلاد. نحن فخورون بتحويل هذه الأرض القاحلة إلى جنة خضراء، بعدما كان اسم الصحراء مرتبطاً بواحات التمر وحقول النفط والغاز فقط".
وتحوّلت محافظات في مقدمها وادي سوف الحدودية مع تونس، وبسكرة وأدرار والنعامة، وغيرها من المدن الجنوبية وتلك الواقعة في الهضاب العليا، إلى أقطاب زراعية تُصدّر منتجاتها إلى بلدان الخليج العربي ودول أوروبية، وحتى إلى كندا وأميركا. وأعربت بلدان عدّة عن رغبتها في الاستثمار بالجنوب الجزائري، بما فيها الولايات المتحدة التي تحوز على مستثمرات فلاحية ضمن شراكة جزائرية.
مخاوف وتحذيرات
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإذا كانت الزراعة الصحراوية تحظى بتثمين الجزائريين، إلا أنّ ذلك لا يمنع مهندسين زراعيين من التعبير عن تخوّفهم وقلقهم من أن تتحوّل الصحراء الجزائرية إلى حقل تجارب للمنتجات الفلاحية كافة، بشكل يستنزف ثروة المياه الجوفية في ظل غياب خطط استراتيجية ودراسات استشرافية، بحسب قولهم.
وفي هذا السياق، يقول الأمين العام للمنتدى الاقتصادي الجزائري والخبير الزراعي يحيى زان، "نسمع عن تجارب عدّة لمنتجات فلاحية منها زراعة الفواكه الاستوائية، كالمانغا والأفوكادو وحتى الموز والذرة وغيرها، التي لا أرى أنها تندرج ضمن الأولويات في الوقت الراهن، لكوننا بحاجة إلى تدعيم منتجات استراتيجية تسهم في الاكتفاء الذاتي وتحقيق الأمن الغذائي للبلاد".
ويضيف زان لـ "اندبندنت عربية"، "صحيح نحن نثمّن هذه التجارب، لكن لا ننسى أننا أمام تحدّي الحفاظ على النظام البيئي الصحراوي وعلى المياه الجوفية في ظلّ شحّ الأمطار والجفاف المسجّل في السنوات الأخيرة".
وبحسب الخبير الزراعي، فإنه بـ "إمكان الجزائر أن تحقّق الاكتفاء الذاتي وتُصدّر الموارد الزراعية كالخضروات والفواكه والتمر وزيت الزيتون إلى دول عدّة وتكون بوابة للقارة الأفريقية، غير أن العائق الأكبر يكمن في غياب سياسة زراعية مستقرّة، تُمكّن البلاد من استغلال الفلاحة الصحراوية استغلالاً عقلانياً ومدروساً".
ويرى زان أن "كل هذه الإنجازات لا تتحقّق إلّا من خلال إشراك خبراء الزراعة من أصحاب الخبرة والكفاءات في إعداد خطط، بعيداً من الحسابات السياسية والولاءات، التي لا تخدم قطاعاً اقتصادياً كالفلاحة".
أولويات وتحدّيات
من جهته، يقرّ المهندس الزراعي محمد مالحة بأن "الصحراء الجزائرية يمكنها أن تغني البلاد عن استيراد منتجات عدّة من خلال الاستثمار في مشاريع ضخمة، كزراعة الحبوب (القمح) والأعلاف، بشكل يحقّق الاكتفاء الذاتي في مادتَيْ القمح والحليب، اللذين تبلغ فاتورة استيرادهما حالياً 4 مليارات دولار"، وينبّه في تصريح لـ "اندبندنت عربية"، من خطورة الضغط على الموارد المائية المهدّدة بالجفاف، ما قد يؤدّي إلى قلّة المياه مستقبلاً، مشيراً إلى أن "هذا ما يجعلنا نحسب ألف حساب للزراعة الصحراوية، لا سيما أننا لا نحوز على دراسات حقيقية وواقعية عَمّا إذا كانت المياه الجوفية متجدّدة أو لا".
ويقول مالحة "نحن لا نعارض الفلاحة الصحراوية، إنما هناك مشكلات عدّة ينبغي حلّها حتى لا نندم في المستقبل. فمثلاً لدينا 20 مليون نخلة تُواجه خطر الاندثار، بسبب الجفاف والتصحّر وتراجع الموارد المائية، وهي أولوية على السلطات أخذها في الاعتبار".
وبحسب المهندس الزراعي، فإنّ التأسيس للاقتصاد الأخضر "يتطلّب قرارات سياسية شجاعة، لأن الواقع يختلف عن الكلام المُسَوَّق في صالونات السياسة"، مضيفاً "يتحدّث البعض عن زراعة قصب السكر وعباد الشمس في الصحراء، بينما يمكن زراعتهما في مدن الشمال، ولهذا أقول نحن بحاجة إلى استراتيجية للتأسيس لقطاع زراعي قوي يرفع مداخيل البلد ونسبة نموّه".
وتأمل الجزائر، التي تمرّ بأزمة اقتصادية منذ أكثر من خمس سنوات، في توسيع المساحة المزروعة في الصحراء لتصل إلى 700 هكتار بحلول 2035، وفق أرقام حكومية، كما يسعى البلد العضو في منظمة الدول المصدّرة للبترول (أوبك)، إلى إنعاش خزينته العمومية، بعيداً من المحروقات التي تمثّل حوالى 95 في المئة من إيراداته.