"لقد ارتفع علم مصر على أرض طابا ولن يُنتكس أبداً... سيظل شامخاً خفاقاً على بركة الله"، هكذا تحدث الرئيس المصري الأسبق محمد حسني مبارك في 19 مارس/ آذار 1989 عن رفعه العلم المصري بعدما استعاد مدينة طابا، آخر مناطق النزاع المصري مع إسرائيل، إلى السيادة المصرية بعد سنوات من النزاع القانوني في المحاكم الدولية.
مبارك وخلال كلمته، في ذلك اليوم، قال إن "الذين يعيشون بعقيدة أن الحرب هي التي تصون مصالحهم ووجودهم، لا يستلهمون حكمة التاريخ، ولا يُعبِّرون عن نبض شعوبهم أبداً"، ليُسدل الستار عن المشهد الأخير لأول تسوية من نوعها في الشرق الأوسطـ، حول نزاع حدودي بين إسرائيل ودولة عربية عن طريق التحكيم الدولي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومنذ الخامس والعشرين من أبريل/نيسان 1982 (تاريخ تحرير شبه جزيرة سيناء)، لم تكن استعادة طابا، التي تتجاوز مساحتها فقط عشرات الأمتار القليلة عن الكيلو متر الواحد (1090 متر مربع)، جولة عادية في إطار التفاوض المصري الإسرائيلي، ولكن جاءت الاستعادة بعد سنوات من التفاوض المباشر، الذى فشل ثم قاد إلى التحكيم الدولي، على مدار عامين قبل أن يعلن القاضي السويدي "جونار لاجرجرين"، رئيس هيئة التحكيم الدولي، حكمه التاريخي في التاسع والعشرين من سبتمبر/ أيلول عام 1988 بقاعة البرلمان بجنيف، بأغلبية ٤ أصوات واعتراض صوت وحيد (القاضية الإسرائيلية)، حيث تضمن منطوق الحكم، "أن وادي طابا بأكمله وبما عليه من إنشاءات سياحية ومدنية هي أرض مصرية خالصة".
طابا وتاريخ من النزاعات
لم يكن النزاع حول طابا مع إسرائيل هو الأول من نوعه بالنسبة لمصر. ففي أوائل القرن العشرين، وتحديدا في عام 1906، شهدت طابا التي تبعد عن مدينة شرم الشيخ (جنوب شبه جزيرة سيناء) نحو 240 كم جنوباً، نزاعا بين مصر وسلطة الاحتلال البريطاني وتركيا.
ففي كتابه " الأصول التاريخية لمسألة طابا – دراسة وثائقية"، يقول يونان لبيب رزق، "إن مشكلة طابا الأولى، بدأت مطلع القرن الماضي بين مصر وسلطة الاحتلال البريطاني كطرف أول مع الدولة العثمانية كطرف ثانٍ في يناير/كانون الثاني 1906 بأن أرسلت تركيا قوة لاحتلالها مخالفة بذلك ما جاء بفرمان 1841 و 1892 الخاصين بولاية مصر والحدود الدولية الشرقية لها، والممتدة من رفح شمالاً على ساحل البحر المتوسط إلى رأس خليج العقبة جنوباً شاملة قلاع العقبة وطابا".
وعلى الإثر، وفق رزق، "ومع تدخل بريطانيا لمنع تكريس الأمر الواقع على الحدود، حفاظا على مصالحها، ازدادت المشكلة تعقيدا وتعدت أزمة طابا، وامتدت إلى منطقة رفح في أقصى الشمال، حيث قامت الدولة العثمانية بإرسال قوة من جنودها باحتلال مدينة رفح، وإزالة أعمدة الحدود الدولية بها. وبعد تهديد متبادل باستخدام القوة العسكرية، بين بريطانيا والباب العالي في تركيا، عادت القوات العثمانية إلى ديارها، وتم تعيين لجنة مشتركة مع الجانب المصري والبريطاني لإعادة ترسيم الحدود إلى ما كانت عليه مع تدقيقها طبقاً لمقتضى القواعد الطبوغرافية لتحديد نقاط الحدود الطبيعية، حيث بلغت عدد العلامات الحدودية من رفح شمالاً إلى طابا جنوباً 91 علامة، كانت آخرها على رأس طابا".
النزاع مع إسرائيل
بعد سنوات من حرب أكتوبر/ تشرين الأول 1973، ومع دخول النزاع العسكري بين مصر وإسرائيل إلى مرحلة المفاوضات تمهيدا لإقرار السلام بين البلدين، عادت طابا من جديد لتكون محل نزاع بين "الحق المصري والباطل الإسرائيلي"، وفق الرؤية المصرية. فبعد توقيع معاهدة السلام بين البلدين برعاية أميركية، في مارس/آذار 1979، والتي نصت في مادتها الأولى على أن تنسحب إسرائيل من سيناء إلى ما وراء الحدود الدولية بين مصر وفلسطين تحت الانتداب البريطاني، سعت إسرائيل لتوسيع الأقاليم التي تحيط بميناء إيلات على خليج العقبة، وبدأت في المراوغة في تسليم آخر مناطق سيناء "طابا" إلى مصر، ومن هنا بدأ خلاف حول الحدود خاصة عند علامة الحدود رقم 91 بمنطقة طابا.
وفى أكتوبر/تشرين الأول 1981، وعند تدقيق أعمدة الحدود الشرقية اكتشفت اللجنة المصرية بعض مخالفات إسرائيلية حول 13 علامة حدودية أخرى (من أصل 91) أرادت إسرائيل أن تدخلها ضمن أراضيها، وأعلنت مصر بأنها لن تتنازل أو تفرط في سنتيمتر واحد من أراضيها، وأن الحفاظ على وحدة التراب الوطني المصري هدف أساسي وركيزة لكل تحرك، بحسب تصريح للرئيس الأسبق حسني مبارك حينها.
وفى مارس/ آذار 1982، وقبل شهر من الانسحاب الإسرائيلي من شبه جزيرة سيناء، أعلن اللواء بحري محسن حمدي، رئيس الجانب العسكري المصري في اللجنة العسكرية المشتركة المشكلة لإتمام الانسحاب الإسرائيلي، أن هناك خلافاً بين الجانبين حول بعض النقاط الحدودية وخاصة العلامة "91"، وأثير النزاع مرة أخرى يوم إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء في الـ25 من أبريل/نيسان 1982.
وبحسب، مفيد شهاب، عضو اللجنة المصرية في مفاوضات التحكيم الدولي حول طابا، فإنه ووفق المادة السابعة من اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية، فإن أي خلاف بشأن تطبيق المعاهدة، يجب أن يتم حله عبر المفاوضات وقواعد القانون الدولي، حيث أقرت المادة أنه "في حالة عدم إمكانية حل هذه الخلافات عن طريق المفاوضات تحل بالتوفيق أو تحال إلى التحكيم".
ونص الاتفاق المؤقت الذى وقّعه الطرفان في حينه على عدم قيام إسرائيل ببناء أي إنشاءات جديدة في المنطقة لحين فض النزاع، ورغم ذلك افتتحت إسرائيل فندق "سونستا طابا" في 15 نوفمبر 1982 وأعلنت عن بناء قرية سياحية، وهو ما مثـّـل انتهاكا للاتفاقية ومحاولة من الجانب الإسرائيلي بفرض سياسة الأمر الواقع في القضية.
وبعد فشل المفاوضات المباشرة بين الجانبين، صدر قرار من مجلس الوزراء المصري، في 13 مايو/ أيار 1985، بتشكيل اللجنة القومية العليا لطابا ضمت كفاءات قانونية وتاريخية وجغرافية، منهم وحيد رأفت، نائب رئيس حزب الوفد، ومفيد شهاب، أستاذ القانون الدولي، والمؤرخ يونان لبيب رزق، فضلا عن عدد من الدبلوماسيين، على رأسهم نبيل العربي، وعدد من الخبراء العسكريين بينهم اللواء عبد الفتاح محسن مدير المساحة العسكرية آنذاك. حيث تحولت هذه اللجنة إلى هيئة الدفاع المصرية عن طابا في التحكيم الدولي، ونصت مشارطة التحكيم على أن المطلوب من المحكمة تقرير مواضع علامات الحدود الدولية المعترف بها بين مصر وفلسطين تحت الانتداب (في الفترة ما بين 1922 و1948)، وفق رواية لبيب رزق.
رزق أوضح أيضاً، "أن أهمية طابا بالنسبة للإسرائيليين كانت تكمن في أنها "تلك الشرفة الصغيرة من الأرض المطلة على رأس خليج العقبة والممتدة على شاطئ طابا بين سلسلة الجبال الشرقية وربوة جرانيتية قليلة الارتفاع ملاصقة لمياه الخليج، وهي لهذا ذات أهمية بالغة لمدينة إيلات، حيث تعتبر "إيلات" أضيق جبهة إسرائيلية في المنطقة، والتي تطل على خليج العقبة فتمتد 5 أميال محصورة بين ميناء العقبة الأردني ووادي طابا المصري".
واستمرت المفاوضات لأكثر من 4 سنوات ولصعوبة الوصول إلى حل للنزاع وبتدخل الولايات المتحدة، تم الاتفاق في 11 سبتمبر/أيلول 1986 إلى اللجوء لهيئة تحكيم دولية تعقد في جنيف بسويسرا، حيث يحقق هدفين أساسيين أصر عليهما الجانب المصري ضمن مشارطة التحكيم، وهما أن تلتزم إسرائيل بالتحكيم وفق جدول زمني محدد بدقة، وأن تحدد مهمة المحكمة بدقة بحيث تكون مهمتها الوحيدة والمسندة إليها هي تثبيت الموقع الذي تراه صحيحاً، وترفض الموقع الذي اقترحه الطرف الآخر مع اعتبار الحكم نهائياً، يلزم تنفيذه دون تراجع.
وفي 29 سبتمبر/أيلول 1988 أصدرت هيئة التحكيم حكمها التاريخي بأغلبية 4 أصوات، بمصرية طابا"، وأقرت حيثيات الحكم بأن إسرائيل أضمرت سوء النية طيلة مرحلة التحكيم، وفى 15 مارس/آذار 1989 استعادت مصر طابا إلى سيادتها، وتم رفع العلم المصري عليها في 19 مارس/آذار 1989.
قصة العلامة 91
يوضح نبيل العربي، في كتابه، "طابا.. كامب ديفيد.. والجدار العازل ــ صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية"، أن العلامة 91، هي آخر علامة لخط الحدود بين مصر وفلسطين تحت الانتداب طبقا لاتفاقية 1906، وهذه العلامة تقع فوق هضبة شرق وادى طابا وتطل على خليج العقبة، وبدأ ترقيم علامات الحدود عام 1906 من رفح في الشمال انتهاء برأس طابا في الجنوب على خليج العقبة.
ويشير العربي، في كتابه، إلى محاولات إسرائيل تضليل الرأي العام المصري والعالمي، بالقول إن العلامات التي تم الاتفاق عليها في 1906 تم تعديلها في 1915 بواسطة توماس إدوارد لورانس الضابط البريطاني الذي كان له دور في الثورات العربية على الدولة العثمانية، كما يشير كذلك إلى ما قامت به إسرائيل من إزالة لمعالم العلامة 90 بعد أن تركتها في موقعها لإيهام مصر بأنها العلامة 91. ويقول العربي "إن إسرائيل أخفت عن عمد ما قامت به من إزالة جزء من هضبة شرق وادى طابا سراً لتشق طريقاً يربط طابا بميناء إيلات على الجانب الإسرائيلي من الحدود مع مصر، رغم علم مصر بقيام إسرائيل بشق هذا الطريق وببناء فندق هناك، فهي لم تكن تعلم بمسألة إزالة العلامة، غير أن التحكيم في النهاية"، حسب الرواية المفصلة لـ"نبيل العربي"، "شمل إلى جانب العلامة 91 اثنتي عشرة علامة أخرى".
كيف رأى أعضاء اللجنة المصرية مسار التحكيم؟
بحسب رواية عصمت عبد المجيد، نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية المصري، أثناء أزمة طابا، كان "العمل بروح الفريق وبذل أقصى الجهود، والحرص على عدم التخلي عن ذرة تراب واحدة من الأراضي المصرية، وراء استعادة طابا للسيادة المصرية".
وذكر عبد المجيد، أنه "في أثناء حضوره عمليات التحكيم الدولي بالمحكمة الدولية التي كانت تضم خمسة محكمين (ثلاثة محايدين من السويد وفرنسا وسويسرا، ومحكم من مصر وهو حامد سلطان، ومحكمة إسرائيلية)، عندما سئل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق شامير بعد الحكم: كيف تحضر التحكيم الدولي في قضية موقفكم فيها ضعيف وموقف مصر قوي جدا، رد قائلا: كنت أظن أن المصريين سيخطئون قانونيا أو يهملون القضية كالعادة، ولكن لم يحدث هذا، وبذلك نرى أن إسرائيل تكسب بعض المواقف لا عن شطارة، ولكنها تستفيد من أخطاء العرب".
بدوره يروي مفيد شهاب، أحد أعضاء الفريق القانوني المصري في لجنة دفاعها، موقفاً طريفاً خلال أزمة مراحل التحكيم قائلاً: "فوجئنا بأن إسرائيل تقدم للمحكمة خريطة منشورة، وتدرس في الكتب المدرسية المصرية تظهر أن طابا خارج الأراضي المصرية، إلا أن المحكمة لم تعول عليها، وإن أحد أعضاء لجنة التحكيم الإسرائيلي بعد فوز مصر بالقضية قال له إننا منذ اللحظة الأولى نعلم أن طابا أرض مصرية".
نبيل العربي حكى أيضا في كتابه "طابا.. كامب ديفيد.. والجدار العازل ــ صراع الدبلوماسية من مجلس الأمن إلى المحكمة الدولية" والصادر عام 2012، "أن استعادة طابا لم تكن مرتبطة فقط في الذهنية الدبلوماسية والسياسية القانونية المصرية برفض التفريط في تراب الوطن ولكن بتأكيد ضرورة انسحاب إسرائيل الكامل من الأراضي المحتلة كافة حسب قرار 242 الذى دار خلاف حول تفسيره بين من يرى أن الانسحاب يجب أن يتم من كافة الأراضي التي احتلتها إسرائيل في 1967 أو من أراضي ليست بالضرورة كاملة حسب النص الإنجليزي المراوغ للقرار ذاته".
ويتابع العربي، بالقول، إن إسرائيل لم تكن فقط ترفض الانسحاب من طابا، بل كانت أيضا ترفض اللجوء للتحكيم الدولي، وأنها سعت لأن يكون حسم مصير الخلاف حول طابا من خلال التفاوض الهادف للتوفيق، مشيرا إلى أن أحد المقترحات التي طرحت في هذا الشأن في إطار البحث عن التوفيق كان قبول إسرائيل الموقف المصري كاملا حول طابا على أن تقوم مصر بالموافقة على تأجير طابا والفندق الذى كانت إسرائيل قد بنته عليها للحكومة الإسرائيلية لمدة 99 عاما، وهو الاقتراح الذى رفضته فورا ودون الرجوع إلى القاهرة لأن مبدأ التأجير يتعارض مع سيادة مصر من جهة، وتخوفا من الانزلاق إلى هاوية المساومة حول مدة التأجير بالرغم من الإغراء الظاهري بأن العرض ينطوي على الاعتراف بموقع العلامة المصرية".
الوصول إلى الحق المصري من خلال التحكيم الدولي، حسب رواية العربي، لم يكن مقتصراً على تجميع الخرائط والمستندات السليمة وحسب، ولكنه ارتبط كذلك باستغلال جميع الموارد البشرية المتاحة، سواء المصري منها أو الأجنبي، لتقديم ملف مصري محكم الصياغة وقوى الحجة ومدعم بالأدلة الكاملة التي تمكنت من دحض الحجج الإسرائيلية والمحاولات الأميركية لاختراق عمل المحكمة الدولية من خلال تقديم عروض سياسية توفيقية بين الموقفين المصري والإسرائيلي رفضتها مصر على الفور، كما رفضت عروضا إسرائيلية طرحت في مراحل مختلفة أن تشترك إسرائيل مع مصر في إقامة مشروعات مشتركة في المنطقة من بينها بناء مستشفيات متخصصة ومنشآت سياحية تدر دخلاً كبيراً للدولتين.