مع اقتراب الذكرى السنوية العاشرة للثورة التونسية، في يناير (كانون الثاني) 2011، كيف ينظر المواطنون إلى هذا المسار، ما الذي تحقّق، وهل نجحت الثورة أم خطفها السياسيون؟
لا يتّفق المؤرخون في تونس على توصيف ما حدث في 2011، أهو ثورة في مفهومها التقليدي، باعتبارها اجتثاثاً للنظام السابق ومؤسّساته وإرساء لمنظومة سياسية جديدة أو هو انتفاضة شعبية لأسباب اجتماعية نجحت في تقويض النظام القديم، دون أن تفلح في اجتثاثه بالكامل، بسبب عدم استعداد النخب السياسية الجديدة لإحلال منظومة حديثة بدل السابقة.
يرجّح البعض التوصيف الثاني، الذي يدحض مصطلح الثورة بمفهومها التقليدي، ويقرّ هؤلاء بوجود مخاض ونفَس ثوري متواصل، من أجل القطع مع ممارسات النظام القديم ومؤسّساته.
وتشير فئات واسعة من متابعي المسار "الثوري" في تونس إلى تقدّم هذا المسار على الرغم من الصعوبات التي تواجهه، في اقتلاع مواقع النظام السابق وعناوينه وبناء مؤسسات وهيئات بديلة تشرف على عدد من القطاعات، دون أن تكون وصيّة عليه، ضماناً لاستقلاليته، كالقضاء والإعلام.
المنجَز السياسي باهر
يعتقد أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية ووزير الثقافة السابق المهدي المبروك أنّ "ما تحقّق في الجانب السياسي يعادل منجزات سنوات ضوئية، من دستور حديث يضمن الحرّيات ويصون حقوق الإنسان، وإعلام يحلّق في سماء مفتوحة من الحرية، ومؤسّسات مستقلّة عن السلطة التنفيذية للتعديل والإشراف على غرار هيئة الإعلام والاتصال والهيئة المستقلة للانتخابات وهيئة مكافحة الفساد، في انتظار استكمال بقية الهيئات (هيئة حقوق الإنسان وهيئة التنمية المستدامة وحقوق الأجيال المقبلة).
لكن، يقول المبروك لـ"اندبندنت عربيّة"، إن "ما تعطّل هو المسار الاجتماعي"، مشيراً إلى أنّ "الثورة قامت على المطالب الاجتماعية، إلّا أنّها تحوّلت في ما بعد، إلى مطالب سياسية، بعد انضمام النخب المثقّفة إلى الحراك الاجتماعي، وتم تأطير المطالب وتبويبها، بين ما هو اجتماعي وما هو سياسي وحقوقي".
ويرى مبروك أن "الساق الثانية لهذا المسار تأخرت كثيراً، وذلك بسبب الحفاظ على منوال تنموي قديم، (رأسمالية الدولة)، لا يقوم على العدالة الاجتماعية، وذلك بسبب عدم قدرة السياسيين الذين تصدّروا المشهد بعد الثورة على استنباط نمط اقتصادي واجتماعي يراعي الطبقات الفقيرة، بل أُغرقت البلاد في المديونية، وانهارت الطبقة المتوسطة في المجتمع التونسي وازدادت نسبة الفقر، وارتفع عدد العاطلين من العمل ليناهز عتبة المليون شخص".
ويعود ذلك، وفق مبروك، إلى أن "تونس لها ارتباطات استراتيجية مع دول بعينها ومجموعات مالية مانحة، ولا يمكنها القفز إلى نمط تنموي جديد يعتمد على حماية الدولة، بالنظر إلى المحيط الإقليمي والدولي الذي وَجدت تونس نفسها فيه منذ عقود، لذلك تأخّر قطار التنمية، وازدادت الأوضاع الاجتماعية سوءاً، إضافةً إلى الإرهاب الذي استنزف موارد الدولة وضرب السياحة في مقتل، علاوة على تراجع القطاعات الإنتاجية الحيوية". هكذا، يضيف المبروك، "بدت الدولة عاجزة عن الاستثمار في التنمية، وكان دورها توفير الأجور للموظفين فقط".
صدام بين السلطة والفقراء
لا يخفي مبروك تخوّفه من غضب الجماهير العاطلة من العمل والجائعة، داعياً الدولة إلى الاستثمار في التنمية وفي الإنسان وإعادة الاعتبار للهامش المفقر والعمل على اعتماد اقتصاد اجتماعي حمائي، لامتصاص غضب المهمّشين والفقراء والعاطلين من العمل".
ولا يستبعد مبروك احتمال الصدام ما بين السلطة وطبقة الفقراء والمهمّشين، مستشهداً ببعض "التجارب التي عرفت فيها الثورات نوعاً من الشعبوية والفاشية نتيجة الفشل الاقتصادي والاجتماعي عندما يتم المسّ بالقوت اليومي للجماهير".
فالتجربة في تونس، يقول، "أثبتت أن الاحتقان الاجتماعي لا يمس عادة استمرارية الدولة والمُنَجَز السياسي، وهو أمر مطمئن، إلّا أنّ لوحة القيادة الاقتصادية تنذر بإفلاس الدولة، بالنظر إلى تلكّؤ الجهات المانحة بسبب جائحة كورونا وبسبب رفض الزيادات في الأجور وتأخر الإصلاحات المطلوبة من قبل هذه الجهات".
أربع مراحل مفصلية
تأخُّر الاستجابة للاستحقاقات الاجتماعية الملحّة، قابله تسريع في المكاسب السياسية والحريات، التي مرّت بدورها بجملة من المراحل، يتناوله أستاذ الإعلام والاتصال في الجامعة التونسية وليد الماجري في حديث إلى "اندبندنت عربية"، إذ يشير إلى أربع محطّات في مسار الثورة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"المحطة الأولى هي تفجير الثورة والإطاحة بالنظام، ما بين 17 ديسمبر (كانون الأول) 2010 حتى 14 يناير 2011، وهي نواة هذا المسار. الثانية هي اعتصاما القصبة في يناير وفبراير (شباط) 2011. والثالثة هي اعتصام الرحيل في يوليو (تموز) 2013. والمحطة الرابعة هي انتخابات 2019 التي أنتجت رئيس جمهورية (قيس سعيد) من خارج المنظومة الحزبية".
ويعتبِر الماجري أنّ "حصر المسار الثوري، من 17 ديسمبر إلى 14 يناير هو إجحاف في حق المحطات الأخرى للحظة الإطاحة بنظام زين العابدين بن علي"، مشيراً إلى أنّ "المسار الثوري متواصل من أجل استكمال الأهداف المرسومة لهذه الثورة. فالثورة تُقاس بنتائجها لا بمساراتها".
ويذكّر الماجري بأن بدايات الثورة كانت تحت عنوان العدالة الاجتماعية والتنمية والتشغيل، إلّا أنّ النخب السياسية استثمرت تلك اللحظة الفارقة في زمن حكم بن علي، وأضافت المطالب السياسية من أجل أن تنتج الثورة معنى ومن أجل تحقيق مكاسب سياسية تكون أداة لإرساء العدالة الاجتماعية".
حركة النهضة أرادت بناء منظومة جديدة
ولا ينكر الماجري أن التيار الإسلامي حاول تشكيل منظومة جديدة تشبه المنظومة السابقة، تتألّف من حركة "النهضة" وتوابعها من القوى الإسلامية. فحركة "النهضة" عملت على أن تصبغ الدولة بطابع إسلامي لا يمثّل الفئات السياسية في المجتمع التونسي كلها.
وينوّه الماجري بما تحقّق سياسياً في البلاد، من مؤسسات تحرس الديمقراطية، في انتظار استكمال بقية الهيئات، مضيفاً أنّ الناخب التونسي لم يصل إلى حالة من الوعي الناضج الذي يؤهله للاختيار السياسي الموضوعي، بناءً على برامج ومتحرّراً مِمّا هو عقائدي أو أيديولوجي أو عشائري.
وفيما يعاني المشهد السياسي في تونس من فقر في العروض السياسية التي يقدّمها المرشّحون إلى البرلمان أو الرئاسة، يتخوّف الماجري من أن يملّ الناخبون ويتفطّنوا إلى عجزهم ويعزفوا عن المشاركة السياسية، بالتالي تحصل القطيعة بين المواطنين والطبقة الحاكمة.
ويلمح إلى أنّ الشعب إذا استنفذ الحلول قد ينزل إلى الشارع ويبدأ تعبيره من جديد، ما ينسف كل ما تحقّق خلال السنوات الماضية. فتونس، يجزم الماجري، "لم تَعُد تحتمل مزيداً من الفوضى".