الساعات القليلة الماضية التي عاشتها تونس، كشفت عن حجم التنافس داخل مؤسسات الحكم على مَن يملك القدرة والقوة على فرض موقفه عبر ما يضمن له الدستور من صلاحيات. وبات التجاذب يتمحور حول مَن يملك قرار تغيير الحكومة واختيار الشخصية المناسبة لقيادة مرحلة الحكم المقبلة.
الخلافات بين رئيس الجمهورية قيس سعيد ورئيس "حركة النهضة" راشد الغنوشي خرجت من السرّ إلى العلن، وعنوانها الوحيد مَن يملك القرار والصلاحيات في الحكم، بعدما اكتشف رئيس مجلس النواب أن لا دوراً سياسياً له خارج الإطار التنظيمي لعمل مجلس النواب، وأن دواليب الحكم تُدار بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة.
رسائل استفزازية
مجلس شورى "حركة النهضة" وبعدما أعلن ليل الأحد 12 يوليو (تموز)، قراره بتكليف راشد الغنوشي إجراء مشاورات مع سعيد والأحزاب والمنظمات الوطنية، للتوصل إلى مشهد حكومي بديل قائم على التوافق، اعتبره عدد من المراقبين رسالة استفزاز وتَعَدٍّ على الصلاحيات الدستورية لرئيس الجمهورية، التي تعطيه حق بدء المشاورات مع الأحزاب والمنظمات الوطنية لترشيح شخصية توافقية قادرة على تشكيل الحكومة الجديدة.
الرئيس التونسي رفض إجراء مشاورات سياسية لتغيير الحكومة الحالية، "طالما أن الفخفاخ ما زال يتمتّع بصلاحياته كافة، وإذا استقال رئيس الحكومة أو تم توجيه لائحة لوم ضده، في ذلك الوقت يمكن لرئيس الجمهورية القيام بمشاورات، وغير ذلك فلا وجود لمشاورات على الإطلاق"، مشدّداً على رفض قبول التشاور مع أيٍّ كان ما دام الوضع القانوني على حاله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الموقف دفع "النهضة" إلى عقد اجتماع طارئ لمجلس الشورى ليل الثلاثاء 14 يوليو، وإعلان سحب الثقة من حكومة إلياس الفخفاخ وتقديم لائحة بسحب الثقة منها، لكن الرئيس استبق ذلك وأعلن قبول استقالة رئيس الحكومة، ما أفقد لائحة سحب الثقة التي قدّمتها الحركة صباح يوم الخميس 15 يوليو أي قيمة قانونية، وأعاد إلى الرئيس وبحسب الدستور، حق تكليف شخصية وطنية لتشكيل الحكومة.
"تمادي النهضة"
وهو ما اعتبره الإعلامي وسام حمدي لـ"اندبندنت عربية"، أنه بعدما قدم رئيس الحكومة استقالته، لا يوجد الآن أي موجب للحديث عن جدل دستوري. الأمور محسومة والرئيس قيس سعيد عرف كيف يوقف تمادي "النهضة" ومناوراتها، بشكل دستوري، ويعيد بالتالي زمام الأمور إلى يد الرئيس، المؤهل الوحيد دستورياً لتسمية رئيس حكومة جديد.
وأضاف أن سعيد هو في موضع قوة، بعدما أصبح يمارس بشكل واضح الفعل السياسي، وسيراهن على تكتيكات عدّة. سيكلّف من يشاء رئاسة الحكومة، حتى إن كان خلافياً ومرفوضاً من الكتلة البرلمانية الأكبر لـ"حركة النهضة"، وذلك لاعتبارات عدّة، أولها الإدراك التام لدى قيس سعيد أن الحزب الإسلامي غير مستعد، بل لا يرغب الآن في إعادة الانتخابات لأسباب كثيرة.
تغيير النظام السياسي
وبحسب حمدي، فإن "النهضة" تتخوّف أيضاً، في حال أُجبرت على إعادة الانتخابات، من فرضية أخرى تضعها في الحسبان من استئثار الرئيس بالمشهد. فإن حصل ذلك، من غير المستبعد أن تتقدم قائمات للانتخابات مدعومة من الرئيس، ما سيجعله في طريق مفتوح لتنفيذ برنامجه في ما يتعلّق بإعادة النظر في النظام السياسي برمّته، الذي هندسته الحركة للبقاء في السلطة إلى الأبد.
يوم الفوضى
وصباح يوم الجمعة 16 يوليو، وصل التشنّج السياسي إلى درجة لم يعرفها من قبل، مع تعطيل كتلة "الحزب الحر الدستوري" عقد جلسة عامة في مجلس النواب، كانت مخصّصة لانتخاب أعضاء المحكمة الدستورية، بسبب سماح رئيس مجلس النواب ومدير ديوانه قبل أسبوع، لشخص مشتبه فيه بالإرهاب ومصنّف خطير لدى وزارة الداخلية، بدخول المجلس على الرغم من اعتراض جهاز الأمن المكلّف حماية المقر، ما تسبّب في اعتصام متواصل لكتلة نواب الحزب داخل المجلس، الذي قال النائب كريم كريفة إنّه لن ينفضّ حتى الكشف عن حقيقة مَن سمح لهذا الشخص المشتبه فيه بالإرهاب بالدخول وكسر قرار وزير الداخلية الذي يمنع ذلك.
مقر المجلس تحوّل إلى ساحة حرب مفتوحة مع اتهامات وجّهها نور الدين البحيري، رئيس كتلة "حركة النهضة" لكتلة "الحزب الحر الدستوري" ورئيسته عبير موسي، بتعطيل عمل المجلس، موضحاً أنه تم إعلام النيابة العمومية بما قامت به، وأن اعتلاءها ونواب كتلتها منصة رئاسة البرلمان اليوم يُعدّ جريمة يعاقب عليها القانون.
وتسبب هذا الصدام بتأجيل عقد الجلسة حتى إشعار آخر، ما سيعطّل مرة أخرى انتخاب أعضاء المحكمة المعطّل منذ حوالى خمس سنوات.
لائحة سحب الثقة من الغنوشي
مباشرة وإثر تعليق الجلسة، أُعلن رسمياً تقديم عريضة تطالب بسحب الثقة من رئيس المجلس راشد الغنوشي، قدمتها مجموعات من الكتل البرلمانية على رأسها رئيس "كتلة الإصلاح الوطني" حسونه الناصفي. وهذا يعني أن راشد الغنوشي سيخضع لجلسة مساءلة قانونية يمكن أن تؤدي إلى سحب الثقة منه، إن حصلت العريضة على غالبية 109 أصوات من أعضاء المجلس.
مخاطر الفوضى تهدّد التجربة الديمقراطية
ويهدّد تصاعد حدّة التوتر مستقبل تونس، واستمرار الصراع السياسي بهذا المستوى المتفجر قد يشكّل خطراً كبيراً على مصير التجربة الديمقراطية في البلاد، إذ نبّهت الإعلامية وفاء دعاسة إلى أن المعركة بين رئيسي الجمهورية والبرلمان، إضافةً إلى حالة التصعيد المتواترة بينهما من جهة، والصراع بين النواب تحت قبة البرلمان من جهة أخرى، قد تستمر إلى ما بعد الحكومة الجديدة، في ظلّ غياب برامج عملية للحدّ من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في البلاد، وربما قد ينتهي الأمر بالتوجه نحو انتخابات برلمانية مبكرة، على أمل الخروج من حالة التفتّت البرلماني التي تعيق تشكيل أي حكومة قادرة على الاستقرار وتنفيذ برامج إصلاحية عاجلة.
وأضافت دعاسة لـ"اندبندنت عربية"، أنها تعتقد بأنه سيتم الدفع نحو تكليف شخصية سياسية ذات مصداقية بتشكيل الحكومة، وأن يجري الحفاظ على مسار "حكومة الرئيس"، أي حكومة ترفع شعار محاربة الفساد، وأن يتم توسيع "الحزام السياسي" للحكومة الجديدة، بالتالي اللجوء إلى كفاءات مستقلة تحظى بدعم مختلف الكتل البرلمانية وثقتها في محاولة للخروج من الأزمة.