من غير الممكن هنا بالطبع تعداد كل الاقتباسات السينمائية التي تمت انطلاقاً من مسرحية غوته "فاوست"، بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومن هنا قد يصح الاكتفاء بواحد من أول الاقتباسات الجدّية والإشارة إلى واحد من آخر الاقتباسات المبدعة. هذا الأخير هو بالطبع فيلم "فاوست" الروسي- الألماني الذي به اختتم ألكسندر سوكوروف رباعيته المدهشة حول لحظات صعبة في حياة ثلاثة من دكتاتوريي القرن العشرين: لينين، هتلر والأمبراطور الياباني هيروهيتو. أما الأول فهو فيلم "فاوست أسطورة ألمانية" للسينمائي التعبيري الألماني مورناو الذي حققه عام 1926 ضمن إطار السينما الصامتة فأتى تحفة استثنائية في فن السينما في ذلك الحين.
"فاوست" يتوّج مسيرة
أتى "فاوست" مورناو تتويجاً لمسيرته السينمائية التي استبقت هجرته إلى الولايات المتحدة كما سوف نرى، لكنه أتى أيضاً تتويجاً لذلك التيار السينمائي الذي لن نكون مغالين إن اعتبرناه تياراً بصرياً خالصاً، إذ عرف مخرجو ذلك التيار ومورناو في طليعتهم، وفي أفلام من علاماتها "عيادة الدكتور كاليغاري" و"نوسفراتو" و"متروبوليس"، وصولاً إلى "فاوست"، كيف يعوّضون عن غياب الصوت بتحميل الصورة كل همومهم الفنية وجعلها تنطق بالمضمون في لغة هندسية تشكيلية مدهشة. ولعل هذا ينطبق أكثر على "فاوست" حيث لإدراك المخرج معرفة متفرجيه جميعاً بالحكاية التي يرويها، ومن تراه لا يعرف حكاية فاوست ويروي حواراتها عن ظهر قلب، استنفر خزانه من اللغة التشكيلية مستنداً أساساً إلى ألعاب الضوء والظل المستقاة من الفن الهولندي النهضوي، رمبراندت وفيرمير، وإلى حد ما من الفرنسي جورج ديلا تور، كي يمكن الصورة رسم ذلك المناخ الميتافيزيقي الشيطاني الذي تتحرك الشخصيات ضمن إطاره، ويا لها من شخصيات استثنائية إن نحن عرفنا أن على رأسها إميل جاننغ في دور مفيستو/ الشيطان!.
الرجل الذي باع روحه للشيطان
إذاً وسط ديكورات خلابة وإضاءة تحوّل الأسود والأبيض إلى غابة من ألوان حسّية، وتحركات وتعبيرات ممثلين استثنائيين عرفوا كيف يخرجون من الإطار المسرحي لأداء تلك الأزمان التي كان على الحركة المبالغة أن تعوض فيها عن غياب الصوت، عرف مورناو كيف يعطي حياة "منطقية" لتلك الحكاية التي دائماً ما فتئت تفتن المبدعين والمتلقين، حكاية الدكتور المكتهل فاوست الذي يؤلمه انتشار الوباء في ضيعته فيستجيب للرهان الذي يقوم بين الملاك والشيطان من حوله تحديداً، ويبيع روحه لهذا الأخير مقابل إنقاذه الشعب من الوباء، ثم يبيعها له مرة أخرى مقابل أن يعيد إليه شبابه إذ تولّه بالصبية الحلوة غريتشن، إلى آخر الحكاية المعروفة. المهم في الأمر أن مورناو أضاف إلى السينما التعبيرية الألمانية يومذاك فيلماً كبيراً لا يزال يُعتبر إلى اليوم من تحف السينما في بداياتها الجادة.
أما بالنسبة إلى مورناو نفسه فإن حادث سيارة بسيط حدث في مارس (آذار) 1931، بالقرب من مدينة لوس أنجليس الأميركية، كان كافياً لوضع حد لحياته هو الذي كان، قبل لجوئه إلى الولايات المتحدة، واحداً من السينمائيين الأساسيين الذين أعطوا السينما الألمانية ذلك التيار الذي عرف باسم "التعبيرية"، وكان نسيج وحده بين التيارات كافة التي عرفها الفن السابع، ليس فقط بسبب الأشكال الفنية التي ابتكرها، ولا كذلك بسبب تعامله الخلاّق مع ميتافيزيقية الأسطورة، بل لأنه كان التيار الذي عبّر أكثر من أي تيار آخر عن ذلك الرعب الذي استبد بألمانيا بعد هزيمتها الكبرى خلال الحرب العالمية الأولى.
جزء من تاريخ الذهنيات
من هنا كان هذا التيار الأكثر درساً وتحليلاً من قبل مؤرخي السينما، ولكن أيضاً من قبل مؤرخي الذهنيات والظواهر الاجتماعية، لأن السينما التعبيرية الألمانية، بقدر ما كانت فناً وتعبيراً عن حساسيات فنية لدى السينمائيين، كانت كذلك انعكاساً لذهنيات شعبية ولظاهرة اجتماعية، وأكثر من هذا وذاك، كانت ناقوس الخطر الذي دق غير مرة، وعلى أكثر من شكل، منذراً بوصول النازية. فشعب أصابه من الهزائم ما أصاب الألمان، وحلّ به الخوف، ونال منه الإحباط، لم يكن له في نهاية الأمر إلا أن يبحث عن الأساطير يلجأ إليها جاعلاً من فنانيه مرآة لهذا البحث عما يمكنه أن يكون التعويذة. ولسوف نرى لاحقاً أن هذا البحث كله عاد وانحصر في البحث عن الرجل القوي: عن هتلر، فكانت كارثة النازية ومجزرة الحرب العالمية الثانية تحقيقاً للنبوءة التي تحدثت عنها السينما التعبيرية الألمانية، كناقوس خطر بالنسبة إلى البعض وكبشرى شيطانية بالنسبة إلى البعض الآخر.
مورناو الذي قضى على ذلك النحو بالقرب من لوس أنجليس نعاه الأميركيون يومها بوصفه مخرج فيلم "الفجر" الذي أذهلتهم صوره الرائعة فعوّدتهم أن يتعملوا نطق اسمه: فردريك ولهلم مورناو، ثم جعلتهم يتراكضون لمشاهدة الفيلم الثاني الذي ساهم فيه في الولايات المتحدة. بيد أن ما لم يكن الأميركيون يعرفونه في ذلك الحين أن هذين الفيلمين لم يكونا سوى العلامات الأخيرة، والأقل مجداً، في مسار سينمائي كان قد بدأ في ألمانيا قبل ذلك بنحو عشرين سنة وجعل لصاحبه مكانة مرموقة بين أقطاب السينما التعبيرية الألمانية، تلك السينما التي كان أحد مؤسسيها عبر أفلام قصيرة صامتة فُقد أكثرها، ولكن بخاصة عبر أفلام معروفة كانت قد حققت نجاحاً كبيراً في أوروبا ومن بينها بخاصة "نوسفراتو" (1922) المقتبس من رواية "دراكولا" لبرام ستوكر، و"فاوست" (1925) المقتبس من غوته، و"آخر الرجال" (1924) و"طرطوف" المأخوذ من مسرحية موليير، و"شبح" وغيرها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حوار داخليّ
هذه الأفلام وغيرها كانت تنتمي إلى تلك السينما الخاصة التي عرفت كيف تمزج بين علم النفس والمسرح، بين الأدب والميتافيزيقا، بين الأسطورة والواقع، في لعبة ظلال وأضواء سمّيت تعبيرية. ولكن لماذا كل هذه الأساليب التعبيرية؟ لتقديم الفن بوصفه "حواراً داخلياً منفرداً"، وذات طبيعة تكشف عن أمور عدة من بينها التعبير عن القلق والارتباك العظيمين اللذين كانت تعيشهما الأمة الألمانية بأسرها إثر الصدمة الكبيرة التي تمثلت في الهزيمة ومعاهدة فرساي. إزاء هذا كله حفلت السينما التعبيرية الألمانية بشتى ضروب الإحباط والعدوانية، وبكثير من التشاؤم الرافض - بكل هلع - فكرة قيام أي ثورة ضد نظام الأمور القائم. فإذا كان الواقع مرفوضاً، وإذا كانت الثورة مرفوضة، فما الحل؟ بكل بساطة: لا بد أن يأتي الرجل القوي. لا بد أن يأتي من قلب المجهول، من قلب الليل ومن قلب الأسطورة. باختصار من قلب التاريخ الألماني وميتافيزيقاه. أما بالنسبة إلى مورناو فقد وجدناه يحقق ثلاثة أفلام على الأقل تدق ناقوس الخطر. فنوسفراتو/ الغول في فيلمه الذي يحمل الاسم نفسه ليس سوى الزعيم الآتي من عالم الشياطين ليقبض على الروح الألمانية (كما سوف يحدث لاحقاً بالطبع)، وفي "فاوست" يبدو العقد بين الدكتور والشيطان وكأنه عقد بين النازية المقبلة والشعب الألماني الذي بات على وشك أن يفقد روحه بعد أن فقد في الحرب كرامته. وفي "طرطوف" واضح أن المنافق ليس سوى ذاك الذي يستبد بعقول الناس عبر لغة لفظية تخفي مساوئه التي من المدهش أنها غائبة عن الإدراك على الرغم من وضوحها.
لسنا بحاجة إلى القول هنا إن هذه التعبيرية السينمائية، كانت من أولى ضحايا النازية وإن بعض أبرز صانعيها اضطروا إلى الفرار ما أن استتبت السلطة في أيدي النازيين، وذلك بكل وضوح لأن النازيين أدركوا فحوى ذلك التيار الذي وصفوه بأنه تيار انحطاطي يحاول أن يدمر الروح الألمانية ومنعوا أفلامه ودمروا منتجيه. وحده فريتز لانغ (على الرغم من يهوديته) نال رضاهم، لأنه حين استخدم الأسلوب التعبيري جيّره لصالح فكرة تلتقي في نهاية الأمر مع الفكر النازي. لكن لانغ، لخوفه الشديد، فضّل الهرب لاحقاً بزملائه، وبخاصة مورناو، الذي كان الأوضح والأصرح في تعبيره عن قلقه من قدوم النازية، وكان الأكثر عبقرية بين أبناء جيل أصر على أن يجعل من الفن السابع ناقوس خطر يدق، حتى لو لم يجد من يصغي إليه.