يعمل الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون منذ تسلّمه مقاليد الحكم، على محو كل آثار السياسات والممارسات التي التصقت بالنظام السابق. وجاء الدور هذه المرة على وضع استراتيجية الوقاية من الفساد ومكافحته، في محاولة لمنع عودة تفشّي الظاهرة التي أفلست البلاد والعباد منذ وصول الرئيس عبد العزيز بوتفليقة إلى الحكم عام 1999.
استراتيجية الوقاية من الفساد ومكافحته... قريباً
ومع استمرار محاكمات الفساد التي كان أبطالها شخصيات سامية في الدولة الجزائرية، سياسية وعسكرية، أعلن رئيس هيئة الوقاية من الفساد ومكافحته طارق كور، أن المشروع التمهيدي الذي حمل شعار "جزائر جديدة من دون فساد" في مرحلته النهائية، وسيُعرض قريباً على السلطات العمومية، موضحاً أنه بعد المصادقة عليه، سيُقدّم إلى لجنة ستتكفّل بصياغة النسخة النهائية لهذه الاستراتيجية.
وأبرز أن هذه النسخة "سيتم الكشف عنها في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، بمناسبة اليوم العالمي لمكافحة الفساد الذي يصادف في التاسع من الشهر ذاته، مشيراً إلى أن الاستراتيجية التي تدخل حيّز التنفيذ بداية من السنة المقبلة، ستتم قطاعاً بقطاع، وأن خرائط حول المخاطر صُمّمت لبعض القطاعات على غرار المالية والتجارة والصحة وغيرها.
كما أوضح المسؤول ذاته أن هذه الاستراتيجية ترتكز على خمسة محاور أساسية وهي: شفافية وأخلقة الحياة العمومية ومشاركة المجتمع المدني ووسائل الإعلام في الوقاية من الفساد ومكافحته وترقية ونزاهة القطاع الاقتصادي وتعزيز دور وقدرات هيئات المراقبة والعدالة في مكافحة الفساد، إضافةً إلى التعاون الدولي وتحصيل الأرصدة. وقال إن الاستراتيجية تسهر على القضاء على الفساد والحفاظ والتسيير الحسن للأموال العمومية بهدف إرساء دولة القانون، التي تكرّس الشفافية والمساءلة في مجال تسهيل الشأن العام.
ليست مجرد حملة ظرفية
ويرى القيادي في منظمة الحقوقيين الجزائريين براهمي حسان في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن مكافحة الفساد ليست مجرد حملة ظرفية تنتهي بسجن بعض المسؤولين وبعض رجال الأعمال، لأن "التجارب علمتنا قبل 20 سنة من محاكمة الخليفة، أنه لم يجرِ القضاء على الفساد بل زاد وتعمّق"، وعليه فإنّ الحكم على نتائج الحملة الحالية يبقى سابقاً لأوانه. وتابع "نجاح أية حملة للقضاء على الفساد يخضع لشروط، أهمها استرجاع الأموال المنهوبة، بالأخص تلك المهرّبة إلى البنوك الأجنبية، وهذا يتطلّب أن تكون الأحكام القضائية الجزائرية مرفقة بأسباب قانونية قوية وتحترم الإجراءات اللازمة كافة، حتى يعتّد بها كمستندات رسمية تلزم الأجهزة المصرفية تسليم تلك الأموال، باعتبارها عائدات إجرامية ناتجة من تبييض أموال الفساد، وهو "ما نرى أنه لا يزال بعيد المنال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابع براهمي أن التفريق بين سوء التسيير وجرائم الفساد، مثل استغلال النفوذ ومنح مزايا غير مستحقَّة وصفقات مخالفة للقوانين، ضروري، لأن الفرق بينها من الناحية القانونية خيط رفيع لا يمكن تحديده إلّا بواسطة متخصّصين محترفين في علوم الاقتصاد والتسيير، وليس مجرد قانونيين فقط. وللأسف الشديد القوانين الحالية لا تمنح التحقيق في الصفقات العمومية والامتيازات الاستثمارية لخبراء اقتصاديين، بل تتمّ معالجتها على أنها جرائم عادية، ولهذا "أقترح مراجعة المنظومة القانونية لمكافحة الفساد من الأساس قبل أية حملة لذلك، وأخيراً عدم التعامل بمنطق التدمير الاقتصادي للشركات والأشخاص المعنوية، المتابعة بجرائم الفساد".
مراجعة عميقة للقوانين بعيداً من قانون 2006
ويواصل القانوني بخصوص الاستراتيجية المرتقبة، أنه يجب البدء قبل سنّ القوانين، بتطهير الشركات والمؤسسات والإدارات العمومية من البيروقراطية، وتأهيل الإطار البشري المشرف على تسييرها على أساس الكفاءة والنزاهة بعيداً من الجهوية والولاءات الحزبية. ومن ثم يجب تدعيمه بترسانة قوية من القوانين الواضحة والمرنة التي تسمح للمسيّر باتخاذ القرار وفي الوقت ذاته تحميه من الخطأ، عكس الحاصل حالياً، إذ إنّ غالبية المراسيم الإدارية يكتنفها الغموض والتأويلات. هذا فضلاً عن حماية الإطار المسير من الضغوط الخارجة عن الهرم الإداري، مادياً ومعنوياً. وتابع "بالنسبة إلى المراجعة المقبلة لقانون مكافحة الفساد، يجب أن تكون عميقة بعيداً من قانون 2006 المليء بالثغرات، والذي يحتمل عدد كبير من مواده تفسيرات مختلفة. وأوضح أن ترسانة قوية من القوانين الدولية يمكن للجزائر إدماجها بسهولة في منظومتها التشريعية، حتى تكفل أكبر قدر من الشفافية في التسيير، وتضمن ردعاً قوياً في آن واحد، مع إمكانية الرجوع إلى ما قبل 2006، حين كانت جرائم الفساد تتدرّج من جنحة بسيطة إلى غاية تصنيفها كجنايات تصل عقوبتها إلى السجن المؤبد.
مهمة اقتراح سياسية
وتنصّ المادة 20 من القانون الجزائري المتعلّق بالوقاية من الفساد ومكافحته، على أن مهمة هيئة الوقاية من الفساد ومكافحته تتمثّل في "اقتراح سياسة شاملة للوقاية من هذه الآفة، تكرّس مبادئ دولة القانون وتعكس النزاهة والشفافية والمساءلة في إدارة الشؤون العامة والممتلكات العمومية"، وقد تم تخصيص هذه المهمة من خلال المادة 203 من المراجعة الدستورية لسنة 2016، أما إعداد الاستراتيجية فقد حصل بعد فترة وجيزة من تعيين الرئيس الجديد للهيئة، في مايو (أيار) 2019.
وتتولّى الهيئة مهمة "اقتراح سياسة شاملة للوقاية من الفساد تكرّس مبادئ دولة الحق والقانون، وتعكس النزاهة والشفافية والمسؤولية في تسيير الممتلكات والأموال العمومية والمساهمة في تطبيقها". وترفع الهيئة إلى رئيس الجمهورية تقريراً سنوياً عن تقييم نشاطاتها المتعلّقة بالوقاية من الفساد ومكافحته والنقائص التي سجلتها في هذا المجال والتوصيات المقترحة عند الاقتضاء.
الشفافية في التسيير
في السياق ذاته، وقّع وزير الشؤون الدينية يوسف بلمهدي على اتفاقية تحمل شعار "جزائر جديدة مناهضة للفساد" مع طارق كور، بهدف تحديد الإطار العام للتعاون بين الطرفين، بما يحقّق التنسيق بين النشاط الديني والثقافي والعمل الوقائي ضد الفساد، إذ يلتزم الطرفان العمل على التوعية والتحسيس بمخاطر الفساد وآثاره في الفرد والمجتمع، من خلال الاعتماد على الفضاءات التي تحوزها وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، والدور الذي تلعبه المؤسسات الدينية في تحصين الأفراد والحفاظ عليهم من الآفات وتعزيز الأخلاق والقيم الروحية، بعد أن أصبحت آفة الفساد تهدّد كيان المجتمع أكثر من أي وقت مضى.
وبحسب الناشط السياسي أنور هدام، فإنّ محاربة الهدر تحتاج إلى إرادة سياسية حقيقية ما زالت منظومة الحكم في الجزائر تفتقر إليها. وقال في حديث لـ"اندبندنت عربية"، إن الرئيس لا يمكنه فعل شيء بمفرده، وإن هناك بعض الخطوات اتُّخذت لوضع حدّ لبعض المفسدين، لكن ما ينبغي فعله على المدى القريب، هو تحييد وسجن باقي فلول الفساد، وتنظيم حملة دبلوماسية إزاء بنوك الدول التي هُرّبت إليها الأموال المنهوبة لاسترجاعها. وتابع أنه على المدَيَيْن المتوسط والبعيد، فإنه بات من الضروري إيجاد إرادة سياسية لنهج الشفافية في مراقبة المال العام، والسماح بتتبّعه مع إعادة هيكلة القطاع المالي والمصرفي ورقمنته، لأن الشفافية في تسيير المال هي الحلّ الأوحد لمحاربة الفساد.