كنتُ ولا أزالُ ضدّ الحروب والاقتتال الداخليّ في منطقتنا، بل وأيّ مكانٍ في العالم، وأرى أن الحروبَ التي تحيط بنا من كل حدبٍ وصوبٍ تجرّ الوبالَ على كل الأطراف العربية والإقليميةِ، وقد تمنّيت لو لمْ نضطرّ في الخليج إلى شنّ حرب دفاعيةٍ ضد إيرانَ في اليمن، وأتمنى لو أنها تتوقفُ تماماً اليوم بعد تحقيق الانتصارِ الإستراتيجيّ فيها، واستمرارِ محاصرةِ ميليشياتِ أنصارِ الله الإيرانية في صعدةَ وصنعاءَ، مع تبنّي برامجَ تنمويةٍ حقيقيةٍ للشعب اليمنيّ في المناطق الشاسعة التي تحرّرت من براثن إيران الحوثية. أكتب هذه المقدمة والمنطقة ترقب شبح حربٍ إقليمية أخرى في ليبيا، سيكون طرفاها مصر وليبيا في مواجهة تركيا وحكومة الإخوان المسلمين في طرابلس.
دخلت إيران إلى العراق بحجّة الطلب من الحكومة الشرعية المعترفِ بها دولياً أيام نوري المالكي مساعدتها في التصدّي للإرهاب الداعشي ومكافحته، ودخلت إيران كذلك إلى سوريا بالذريعة نفسها: طلبٌ من الحكومة السورية المعترف بها دولياً، حكومةِ بشار الأسد، كما أنها دخلت ولا تزال تتحكم بقرار الحرب والسلام بلبنان، وهي التي تتدخل باليمن وتقف إلى جانب أنصار الله الحوثية بطلب من "الشرعية الثورية" غير المعترف بها دولياً.
وكانت إيران في تدخلاتها في الشؤون الداخلية العربية تستعمل حصان طروادة الممثل بالشيعية السياسية العربية، فهو الحشد الشعبي في العراق بكل تفرعاته: عصائب أهل الحق، حزب الله، فيلق بدر، جيش المهدي، كتائب السلام الخ.
وفي سوريا، دخلت إيران بمستشارين إيرانيين يقودون مقاتلين أفغاناً وعراقيين وسوريين وحزب الله اللبناني وحراس المرقد وفاطميين وعباسيين إلخ، التسميات الشيعية السياسية الطائفية. ولقد كانت هذه التنظيمات الطائفية الوجهَ الآخرَ لعملة الإرهاب السنية الممثلة بداعش وأخواتِها، فكل فريق يستمد من الآخر معينَ التعبئة الطائفية والشحنِ الكريهِ ضدّ الآخر.
وجاءت روسيا إلى سوريا أيضاً بطلب من الحكومة الشرعية الممثلة بنظام بشار الأسد، فدكّت معه المدن السورية بالبراميل المتفجرة، وحوّلت حواضرَ كحلب وحمص وحماه إلى خرائب تذروها الرياح.
وفي اليمن، مدّت طهران جسراً جوياً ساخناً إلى صنعاء بعد انقلاب الحوثيين عام 2014 على الحكومة المعترفِ بها دولياً ممثلةً بالرئيس عبد ربه منصور هادي، وجلبت "المستشارين" من لبنان وإيران، وأغرقت اليمن الجائعَ بالسلاح الهائل، إذ وجدت في الحوثيين حصانَ طروادتها اليمنيّ، والخنجرَ في خاصرة الجزيرة العربية والسعوديةِ تحديداً، فعملت على إجهاضِ كل محاولة لإنهاء الصراع هناك غيرَ آبهةٍ بمعاناة الإنسان اليمنيّ وأطفاله، أملاً في استمرار استنزاف السعوديةِ وإشغالها في حربٍ داميةٍ لا تتوقف.
في المغرب العربيّ، اختلفت حكومة "الإخوان المسلمين" الليبية برئاسة فايز السراج مع برلمان ليبيا برئاسة صالح عقيلة، وأرادت الاستفرادَ بكلّ شي، فكانت حرباً ضروساً داميةً وهزيمة ساحقةً ماحقةً للإخوان المسلمين الذين حوصروا في طرابلس، فطلبت "الحكومة الشرعية" النجدة من سلطان تركيا، رجب طيب أردوغان، فجاء بجيوش جرارة من المرتزقة شحنهم من شمال سوريا وفق اتفاقٍ مع روسيا بإخلائهم من إدلب على أن يبقى في مراكز مراقبةٍ هناك تحقيقاً لحكم التمدّد في شمال بلاد الشامِ واحتلال حلبَ وأدلب واستعادة كركوك والموصل في العراق، ورافقت آلاف المقاتلين السوريين والشيشان و"لعنة الزمان"، ترسانةُ أسلحة عبر البحر ردّت الجيش الوطنيّ الليبيّ عن استعادة طرابلس، واتجهت شرقاً نحو "الدجاجة التي تبيض ذهباً"، المثلّث النفطيّ الليبيّ الذي حرّك من أجله أردوغان أساطيله ضارباً عرض الحائط باتفاق الصخيرات، ومتجاهلاً اتفاق برلين بعدم التدخل الأجنبيّ في ليبيا والامتناع عن تسليح أطرافها المتقاتلة.
في هذه الأثناء، كانت مصر ترقب الأوضاع المتفجّرة على حدودها، وتحاول لملمة الصراعِ وتقديمَ مبادرة لوقف حقنِ دماء العرب والبشرِ في جارتها المحاذيةِ لها، لكن التمادي - الإخواني- الأردوغاني وصل إلى مداه، ومصرُ لن تقف موقف المتفرج لغزو تركيٍ لبلد عربيٍ على حدودها يُعد جزءاً لا يتجزأ من أمنها الإستراتيجي القوميّ، والمثل الشعبي يقول: "ما دونَ الحلقِ، إلّا اليدين". فطلبت الحكومة المصرية - وقت كتابة هذه المقال- تفويضاً برلمانياً بالتدخّل العسكريّ المباشرِ في ليبيا بعد تفويضٍ من البرلمان الليبيّ بمساعدة مصرَ لجارتها في حال استمرارِ تقدم جيش الإخوانِ ومرتزقةِ أردوغان شرقاً نحو سرت ومن ثم بنغازي.
أتمنى ألا تتطوّر الأمور لتورّط مصرَ مضطرةً للدخول في مواجهة مع تركيا بالإنابة، فمصرُ "اللي فيها كافيها": حرب إرهابية في سيناء، وحرب مياهٍ تخوضها مع إثيوبيا بالجنوب، وصعوباتُ برامجَ اقتصاديةٍ داخلية ومشاريع تنموية هائلة حدّ من عجلتها كورونا، وحتماً ستحدّ الحرب من تنفيذها، وستضطرّ مصرُ إلى تأجيل مشاريع هائلةٍ دعماً للمجهود الحربيّ في ليبيا- لا سمح الله.
من الأمور التي يمكن أن تقلّل من اشتعال حرائقِ الحروبِ في منطقتنا الملتهبةِ بحروبنا واقتتالنا نيابةً عن جيراننا الطامعين- إيران وتركيا، هو توحيدُ الصوت العربيّ برفض التدخل والعدوانِ على دولنا، فمن غير المنطقيّ أن نرفض تدخلَ إيرانَ في العراق والشام واليمن، ونبرّر التدخلَ التركيّ في العراق والشام وليبيا!
الطائفيون وحدهم من السنة هم الذين رفضوا التدخلَ الإيراني في العراق، وبرّروا التدخلَ التركي، بينما برّر الطائفيون الشيعة تدخلَ إيران، ويغضّون الطرفَ عن التدخلِ التركيِ، الفريقُ الأولُ يحلم باستعادة الخلافةِ، والفريقُ الثاني يعمل على مدّ نظامِ الولايةِ.
المخلصون العربُ لأوطانهم ومحبّو السلامِ والاستقرارِ في العالم هم الذين يرفضون الاحتلالَ الإيرانيّ، ويرفضون بالشدّة والحدّة ذاتهما الاحتلالَ التركيَ للبلدان العربيةِ.
إن من يرى في الشيعيةِ السياسيةِ حصانَ طروادةَ للتدخل الإيرانيّ في العراق والشام واليمن، ولا يرى في السنية السياسيةِ (ممثلةً بالإخوان المسلمين ومن لفّ لفّهم) حصانَ طروادةَ آخرَ لعودة الاستعمار التركيّ، فإنه يعاني من الحوَل بل من العوَر السياسيّ الطائفيّ، ويبرّر احتلال ليبيا، تماماً كما يبرّر حزب الله وأنصار الله التدخّل الإيرانيّ في بلدان العربِ ويرونه تدخّلاً محموداً.