هل تكفي 10 دقائق و38 ثانية لسرد ثلاثة عقود من الزمان؟ هذا السؤال يطرحه قارئ رواية "10 دقائق و38 ثانية في هذا العالم الغريب" للروائية التركية أليف شافاك التي عرّبها محمد درويش (دار الآداب)، وتطرحه الكاتبة، استناداً إلى إحدى شخصياتها، بالقول: "كيف يمكن أن يكثّف العقل حياةً برمّتها في وقتٍ يستغرقه غليان ماءٍ في إبريق لا غير؟"، وتجيب عنه، استناداً إلى الشخصية نفسها، أنّ الباحثين في المعاهد العالمية لاحظوا "أنّ هناك نشاطاً عقلياً دؤوباً لدى الأشخاص الذين لم يمرّ على موتهم سوى القليل من الوقت" يسمح باستعادة حياة كاملة في بضع دقائق (ص 288).
الدقائق العشر والثواني الثماني والثلاثون هي الفترة التي استمرّ يعمل فيها دماغ ليلى التكيلا، بطلة الرواية، بعد موتها وتوقّف قلبها عن العمل. وفي هذه الفترة القصيرة، ترصد شافاك حياة ليلى المقتصرة على ثلاثة عقود، من خلال الراوي العليم الذي يتسلّل إلى دماغها في دقائقه الأخيرة، ويروي ذكرياتها المرتبطة بالنكهات والروائح، منذ ولادتها حتى موتها. ومن خلال هذه العملية، تضيء الكاتبة حياة شريحة تنتمي إلى القاع، وتعاني النبذ الاجتماعي، ويقع عليها ظلما الحياة والموت، هي شريحة المشتغلات بالجنس اللواتي يزاولن المهنة الأقدم في التاريخ.
المهنة الأقدم في التاريخ
تتناول شافاك في روايتها حياة هذه الشريحة المنبوذة اجتماعياً، من خلال ليلى وأصدقائها؛ فترصدهم في غربتهم عن مجتمعهم، وتَحدُّرهم من بيئات شعبية يتحكّم بها العقل البطريركي، واضطرارهم إلى مزاولة مهن لم يختاروها، وظروف مزاولتهم إيّاها، وعلاقاتهم في ما بينهم، ونظرة المحيط إليهم. وتصطنع للتعبير عنهم إطاراً روائياً غريباً، على مستوى الزمان والمكان والإنسان، فتتمّ عملية الرصد في عشر دقائق وثمانٍ وثلاثين ثانية، في حاوية نفايات، باقتفاء عملية تذكّر سريعة يقوم بها دماغ ليلى في الدقائق الأولى التي تلت مقتلها. وبذلك، تتناسب غرابة الإطار مع غربة الشخوص. ويتّسع، على ضيقه، لثلاثة عقود من الزمان، هي عمر ليلى التكيلا، الشخصية المحورية في الرواية.
بعد مقتلها مباشرةً على يد بعض المتزمّتين، يدخل دماغ ليلى في حالة من الوعي الحادّ، وتتجلّى لها المفاصل الأساسية في حياتها القصيرة، منذ الولادة حتى لحظة مقتلها. وتحضر على غير انتظام وتسلسل، مرتبطةً بنكهات وروائح معيّنه، وكلّ نكهة أو رائحة ترتبط بمكانٍ وزمانٍ معيّنين وبواقعة روائية أو أكثر، وبذلك، نكون إزاء شخصية حسّية، تقرأ العالم وتضفي عليه المعنى، من خلال حاسّتي الذوق والشم. ونستطيع، في إطار هذه الحالة الحادّة من الوعي التي لا تتعدّى عشر دقائق ونيّفاً، متابعة ثلاثة عقود ونيّف من عمر بطلة الرواية، بين ولادتها وموتها، مروراً بأعمالها وعلاقاتها، ما يجعلنا نقف على مواصفات الشخصية ونزعاتها ونقاط ضعفها وقوّتها. ونتعرّف من خلالها إلى حياة شريحة من الغرباء المنبوذين في عالمٍ غريب. وهؤلاء الغرباء يتحدّرون من منابت متنوّعة، اجتماعيّاً ودينياً وقومياً وجنسياً، ويجمع بينهم وقوعهم تحت تأثير الظلم الاجتماعي والتمييز الديني والجندري والعنصري، فهم مجموعة من ضحايا أطر البيت والأسرة والمدرسة والمجتمع، منفردة أو مجتمعة، ما يدفع بهنّ إلى الهرب من جلاّديهم والارتماء في أحضان مهنٍ منبوذة، وفي مقدّمها الدعارة.
ضحية الأطر الاجتماعية
في نظرة سريعة إلى الشخصية المحورية في الرواية والشخصيات الأخرى المرتبطة بها برباط الصداقة، نرى أنّ ليلى هي ضحية الأطر المذكورة أعلاه مجتمعة، ففي ولادتها، لأمّها بيناز وأبيها هارون، في بلدة فان التركية، يعهد بها الأب إلى زوجته الأولى سوزان لتربيتها، ويحرمها من أمّها الحقيقية، فتغدو الخالة أماً والأمّ خالة. وفي السادسة من عمرها، تتعرّض للتحرّش الجنسي من عمّها في غفلةٍ من ذويها. وفي السادسة عشرة من عمرها، يتحوّل التحرّش إلى علاقة جنسية كاملة ما يؤدّي إلى حملها، وحين تتّهم العمّ بالأمر، ترفض الأسرة التهمة المنسوبة إلى العم، وتسعى إلى تدارك الفضيحة بإكراهها على الزواج من ابن عمّها الذي يصغرها سناً. وإذ يحاول الأب إكراهها على التديّن، ويحرمها من متابعة التعلّم، ويجبرها على البقاء في المنزل، ويرغمها على الزواج ممّن لا تحب، تغتنم فرصة موت أخيها الصغير المنغولي، وتفرّ من البلدة إلى إسطنبول، بمساعدة رفيق الطفولة وزميل الدراسة سنان المخرّب الذي يحبّها، ولا يجرؤ على الاعتراف بحبّه لضعف شخصيّته، ويدفع ثمن تأخّره في اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب، فيأتي متأخّراً دائماً ولا يصل، غير أنّه ينجح في التكفيرعن تأخّره بعد موتها، فيوقظ البطل الكامن فيه، ويُقدم على ما لم يفعله في حياتها.
حين تصل ليلى إلى إسطنبول، تقع بين براثن زوجين منغمسين في تجارة الدعارة، فيبيعانها من مديرة ماخور في شارع المواخير، على مسافة بضع دقائق من ميناء قره كوي، لتغرق في وحول هذه التجارة، وتتعرّض لأبشع أنواع الاستغلال الجسدي والنفسي، إلى حدّ أن أحد الزبائن المختلين عقياً يرميها بحامض الكبريتيك، ما يُحدث تشويهاً في ظهرها. وإذ يبتسم لها الزمن، على حين غرّة، وتتعرّف إلى الدكتور علي، المناضل اليساري المتمرّد على الأعراف الاجتماعية والمواضعات السياسية، الذي يقع في حبّها، ويقوم بطلب يدها، ويخرجها من الماخور في ثوب زفاف، على مرأى من الجميع، متحدّياً بذلك الهيئة الاجتماعية، ليعيشا معاً سعيدَيْن في شقّتهما في شارع هيري كافكا، يأتي موته دهساً في تظاهرة ضدّ السلطة، ليعيدها من حيث أتت، حتى إذا ما شُوهدت عائدةً من لقاءٍ مرتّبٍ سلفاً، ذات مساء، يختطفها رجلان يتربّصان بالمومسات، ويُنَصّبان نفسيهما حارسين للأخلاق، ويقومان بقتلها ورميها في حاويةٍ للنفايات. وهكذا، تذهب ليلى ضحية الأب المتزمّت، والعمّ المتحرّش، والأمّ الضعيفة، والخالة المتواطئة، والحبيب الجبان، والشيخ المنافق، والتاجر المخادع، والمديرة المرّة، والزبون المختل، والمجرم القاتل. وبكلمة أخرى، هي ضحية السلطات الاجتماعية والدينية و"الأخلاقية"، ولولا خمسة من الأصدقاء الذين تتبادل معهم الود والتضحية والوفاء لَخَلَت حياتها من أيّ فسحةٍ للأمل.
الأصدقاء الخمسة
الأصدقاء الخمسة الذين يتمحورون حول ليلى يتحدرون من منابت مختلفة، قوميّاً واجتماعيّاً وجغرافيّاً، ويزاولون مهناً مختلفة بحكم الضرورة لا الاختيار، ولكلٍّ منهم حكايته، وعاهته الجسدية أو النفسية، التي تجعله موضع نبذٍ اجتماعي. غير أنّ اجتماعهم معاً وانخراطهم في شبكة علاقات في ما بينهم يجعلهم يُشكّلون مجتمعهم الصغير الذي يُعوّضهم عن المجتمع الكبير، فيلوذ كلٌّ منهم بالآخر، ويتبادلون الحب والوفاء في السرّاء والضرّاء، في الحياة والموت.
الصديقة الأولى هي تالان التركية المتحوّلة جنسياً عن ذكرٍ اسمه عثمان، هو الابن الأصغر لأسرة فلاحية تعمل في الزراعة، تتنازعه ميول أنثوية منذ الطفولة، تتمظهر في إسناده أدوارٍ نسائية لنفسه في الحكايات التي راح يؤلفها، فمرةً هو شاعرة فارسية، ومرّة ثانية هو أميرة صينية، ومرّة ثالثة هو أمبراطورة روسية. وفي ضوء هذا التنازع فيه بين المظهر والمخبر، يعاني التنمّر في المدرسة، ويعيش محنة كبرى في الخدمة العسكرية، ويرفض الزواج القسري المفروض عليه، فيفرّ ليلة زفافه إلى إسطنبول، ويعمد إلى تغيير جنسه، فيتحوّل إلى تالان، ما يجعله يعثر على ذاته. وإذ تتعرّف تالان إلى ليلى، وتجد لديها التفهّم والتعاطف، تعقد بينهما صداقة، تترسّخ بقيام ليلى بالدفاع عنها حين يتمّ الاعتداء عليها من بعض المتزمّتين وإنقاذ حياتها. ولذلك، حين تُدفن ليلى في مقبرة الغرباء من دون شاهد أو اسم، تخوض تالان مغامرة كبرى بإخراجها من القبر، ورمي جثّتها في البوسفور تحقيقاً لرغبتها، فتبادلها الوفاء بالوفاء.
الصديق الثاني لليلى هو ابن قريتها سنان، رفيق الطفولة وزميل الدراسة، الذي أطلقت عليه لقب "المخرّب". وهو المتحدّر من أبٍ جندي وأمٍّ صيدلانية، من ذوي الأفكار العلمانية والتقدمية. ويعاني من ضعفٍ في شخصيّته، يعزّزه القمع الذي يخضع له في البيت والمدرسة ومكان العمل لاحقاً، ويعجز عن اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب ما يجعله لا يحصل على ما يريد. ولذلك، لا يقدم على الاعتراف بحبّه ليلى، ويندم ، ويلحق بها إلى إسطنبول بعد عامٍ من رحيلها، غير أنه لا يجرؤ على مفاتحتها بالأمر ليبنى على الشيء مقتضاه. غير أنّه بعد موتها ودفنها في مقبرة الغرباء، يسمح للبطل المقموع الكامن فيه بالانطلاق، ويشارك في إخراجها من القبر، ويربط على كفنها الشال الذي كان يزمع إهداءها إيّاه تعبيراً عن حبّه، ويقوم بدفع الجثّة في مياه البوسفور على الرغم من تحذير الشرطة التي تطلق النار عليه وتصيبه في كتفه، فيقبل الأمر بطيبة خاطر، ويتحرّر من العجز.
الصديقة الثالثة هي جميلة الصومالية الأصل، المولودة لأبٍ مسلمٍ وأمٍّ مسيحية، التي تعيش في ظلّهما طفولة هانئة، حتّى إذا ماتت الأم، وتزوّج الأب، وقامت زوجته بتنكيد عيشها، ووجدت نفسها وحيدة، وأُوصدت دونها السبل، تقوم بالهرب إلى إسطنبول، وتلقي بها الأقدار في بيت تارلاباشي للدعارة، فتتحطّم جزئياً، وتتوق إلى التحرّر. وفي غمرة محنتها تمتدّ لها يد ليلى للتخفيف عنها، وتتكفّل بنفقات علاجها من الربو. ولذلك، تصرّ جميلة على المشاركة في مغامرة تغيير مكان الدفن، على الرغم من مرضها، وتفي دينها لصديقتها بعد وفاتها.
الصديقة الرابعة هي زينب اللبنانية، القادمة من قرية في شمال لبنان بحثاً عن مستقبلٍ ما في إسطنبول. وهي تعاني من عقدة قِصَرِ القامة التي تحاول التعويض عنها بمهارة قراءة الفنجان. وتقوم بأعمال النظافة في ماخور المديرة المرّة، حتى إذا ما تعرّفت إلى ليلى تغدو صديقتها الرابعة.
الصديقة الخامسة هي حميراء التركية، المولودة في مدينة ماردين، لأبٍ قاسٍ، يحول دون تحقيق رغبتها في أن تُصبح راهبة، ويُكرهها على الزواج من شريكه الذي يقوم بضربها وتعنيفها ويجعلها خادمة لوالدين متطلّبين، حتى إذا ضاقت ذرعاً بهم، تهرب إلى إسطنبول، وتعمل مغنّية في نادٍ ليلي بعد تغيير اسمها وشكلها، وهناك تتعرّف إلى ليلى، وتنخرطان في صداقة متينة.
وهكذا، تشكّل ليلى محور الأصدقاء الخمسة الذين تنشأ بينهم مشاعر إنسانية راقية. وتغدق عليهم الحب والعطف والتفهّم، وتمدّ لهم يد المساعدة في حياتها. ولذلك، نراهم ينخرطون في مغامرة تحقيق رغبتها في أن تُدفن تحت الماء، ومبادلتها الوفاء بالوفاء، ولو بعد موتها. ولعل أليف شافاك أرادت أن تقول، من خلال روايتها، إنّ المنبوذين هم بشرٌ أيضاً، لديهم مشاعر وأحاسيس وآلام وآمال، ويحتكمون إلى منظومة قِيَمٍ، وهم ضحايا الهيئة الاجتماعية، بشكلٍ أو آخر. وبذلك، ترفع عنهم ظلم الحياة فيما يتكفّلون هم برفع ظلم الموت.
الخطاب الروائي
في الخطاب الروائي، تقع الرواية في ثلاثة أقسام وأربعين وحدة سردية، تتوزّع على الأقسام بعدد ثماني عشرة وحدة للأوّل، وتسع عشرة وحدة للثاني، وثلاث وحدات للثالث. والمفارق أنّ زمن السرد في القسم الأوّل لا يتعدّى عشر دقائق ونيّفاً، هي الفترة التي قام فيها دماغ القتيلة بتذكّر حياتها، وأن زمنه في القسمين الثاني والثالث هو يومٌ واحد، هي الفترة التي أمضاها الأصدقاء في محاولة تسلّم الجثة وتغيير مكان الدفن. وبذلك، لا يوجد في الخطاب تناسب بين عدد الوحدات المسرودة وزمن السرد، فنجد أنّ ثماني عشرة وحدة جرى سردها في عشر دقائق وثمانٍ وثلاثين ثانية بواسطة التذكّر، وأنّ اثنين وعشرين وحدة جرى سردها في أربعٍ وعشرين ساعة بواسطة الوقائع المعيشة. على أنّ عدم التناسب هذا لا ينتقص من روائية الخطاب، فالمسألة فنّية بامتياز تعود إلى تقدير الروائية.
على أنّ العلاقة بين الوحدات السردية في القسم الأوّل المتذكَّر لا تراعي المسار الخطّي بل المتكسّر، فيجري تذكّر روائح وأحداث مرتبطة بها من دون مراعاة التسلسل الزمني لحدوثها، وقد يفصل بين الوحدة / الذكرى والأخرى سنوات، سواءٌ إلى الأمام أم إلى الوراء. وإذا كانت ثلاث عشرة وحدة في هذا القسم جرت عَنْوَنَتُها بالدقائق، فإنّ خمس وحدات أخرى جرت عَنْوَنَتُها بأسماء الأصدقاء الخمسة، فالكاتبة تلجأ إلى ترجمة الشخصية في وحدة لاحقة خاصّة بها حين تشترك في أحداث الوحدة السابقة لها، وبذلك، تجمع بين سرد الأحداث وترجمة الشخصيات، ما يحقّق لهذا القسم التنوّع الخطابي. بينما تراعي العلاقة بين الوحدات السردية في القسمين الآخرين المسار الخطي.
إلى ذلك، وعلى الرّغم من قدرة شافاك الواضحة على الإمساك بالخيوط السردية والتصرّف بها بكفاءة عالية، ما تمخّض عنه نصٌّ روائيٌّ متماسك، فإنّ الحظّ لم يحالفها في نسبة بعض السلوكيات أو الأفكار إلى بعض الشخوص. فكيف تستطيع ليلى، ابنة السادسة، التي لم تدخل مدرسة قط، أن تفكّر في انعدام التواصل بين الجنود الأتراك والجنود الأميركيين، خلال الحرب الكورية، لأنّ الأتراك لا يتكلّمون الإنكليزية والكورية، ولأنّ الأميركيين لا يتكلّمون التركية؟ (ص 65). وكيف لصبيٍّ أخرق أن يفكّر "أنّه يتعيّن على المرء أن يكون أرقّ مع الأحياء من الأموات لأنّ الأحياء هم الذين يكافحون من أجل فهم العالم وإيجاد معنى له"؟ (ص 115). وكيف لصبيّة لم تتجاوز العاشرة من العمر أن تستخدم المنطق في حوارها مع أمّها المتعلّق باليزيديين؟ (ص 154). لعمري، إنّ الكاتبة في هذه الوقائع تنسب إلى الشخصية ما يفوق عمرها العقلي والزمني، وتسقط في عدم التلاؤم بين الشخصية والسلوك الصادر عنها.
على الرّغم من ذلك، تقدّم لنا أليف شافاك رواية جميلة، تجذبنا إلى حقلها المغناطيسي، طيلة حوالى الخمسمئة صفحة. وحين نتحرّر منها نكون قد غنمنا الكثير من المتعة والفائدة.