منذ شهور قليلة، أي مباشرة قبل استشراء وباء كورونا والتزام الناس بيوتهم وإغلاق صالات السينما أبوابها في معظم مدن العالم، كان واحد من آخر الأفلام الفرنسية المعروضة في الصالات، فيلماً عن قضية درايفوس من تحقيق السينمائي البولندي الأصل رومان بولانسكي المقيم في فرنسا منذ سنوات. لقد أثار الفيلم ضجة كبيرة وسجالات برز من خلالها سؤال محق عن ندرة الأفلام التي تُحقّق في الآونة الأخيرة لتتناول تلك القضايا الكبرى التي عرفها العالم خلال القرن العشرين وربما ما قبله. وكانت مناسبة ملائمة لتذكّر حقبة طغى فيها هذا النوع من الأفلام حتى في نشاط سينمائيين كانوا يبدون أبعد ما يكونون عن اهتمامات مثل هذه، وبالتحديد يومها ذُكر فيلم يبدو منسياً بعض الشيء اليوم لواحد من أكثر المخرجين الفرنسيين إبداعاً، ولكن كذلك أكثرهم ابتعاداً عن سينما السياسة المباشرة: آلان رينيه. وتذكر غلاة الهواة كيف أنه كانت ثمة مرحلة في مسار رينيه حدث خلالها تقاطع سينمائي بينه وبين زميله الأميركي/ الإنجليزي جوزف لوزاي بدا فيها وكأن كلاً منهما يحقق فيلم الآخر بل تعاونا مع كتاب سيناريو كانوا هم أنفسهم في عدة أفلام متقاطعة. حينها لئن حقق لوزاي فيلماً عن "اغتيال تروتسكي" من تمثيل ريتشارد بيرتون والفرنسي آلان ديلون، أقدم رينيه على تحقيق فيلم فرنسي من بطولة جان بول بلموندو يرتبط بصلة ما بتروتسكي بحيث اختلط الفيلمان ببعضهما البعض وتطابقا في الذاكرة السينيفيلية، كما كانا متقاربين في الذاكرة التاريخية. وفيلم رينيه المعني هنا هو "ستافسكي" الذي يدور من حول واحدة من الفضائح الإقتصادية/ السياسية الكبرى التي عرفها التاريخ الفرنسي خلال النصف الأول من القرن العشرين.
انتحار غامض في كوخ منعزل
والحقيقة إذا كانت الذاكرة السينيفيلية تحتفظ بمشهد أساسي من مشاهد فيلم "ستافسكي" (1974) فإن المشهد يدور تقريباً على الشكل التالي: ثمة كوخ شتوي غارق في هدوئه، الثلج يحيط به من كل جانب، لا صوت هناك، سوى صوت حفيف الرياح الآتي من البعيد، ولا أثر لحياة في المكان إذا استثنينا خيطاً رفيعاً من الدخان يعلو السقف القرميدي، لينبئ بأن ثمة حركة ما. رجال الشرطة يطوّقون المكان، من دون أن يقتربوا منه على الرغم من أن أحداً لم يكن يقاومهم. والغريب في الأمر أن رجال الشرطة راحوا يبالغون في انتظارهم قبل أن يقرروا، أخيراً، الدخول إلى الكوخ. في الداخل رأوا بأم أعينهم المشهد الذي كانوا يتوقعون رؤيته من دون أدنى ريب: رأوا السيد ألكسندر مستلقياً يتنفس بصعوبة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، على صدغه دماء تسيل من ثقب، وفي يده مسدس من نوع هيرستال لا تزال فوهته ساخنة. كان من الواضح أن السيد ألكسندر قد انتحر. ولكن كان من الواضح أيضاً أن الشرطة هي التي أعطته، في انتظارها، ما يكفي من الوقت كي ينتحر. كان من الواضح، بكل اختصار، أن السيد ألكسندر دُعي للانتحار، لأن حياته لم تعد مفيدة لأحد، ولأنه لو حدث وألقي القبض عليه، لخرجت من بين شفتيه حكايات ومعلومات تهز الطبقة السياسية الفرنسية بأسرها.
كل التفسير السياسي في مشهد واحد
في الواقع إن ذلك المشهد حمل جوهر الفيلم كله. بل التفسير السياسي لحادثة انتحار ظلت تشغل بال الفرنسيين طويلاً من دون أن يجدوا تفسيراً لها. وبعد نصف قرن حينها، أتى الفيلم ليفسر الأمور باحثاً من جديد عن دور للسينما في حركة التاريخ. فما الذي قاله لنا الفيلم: قال أولاً إن اسم السيد ألكسندر لم يكن كذلك، بل كان يخفي وراءه اسماً هز الأوساط المالية والمصرفية الفرنسية، ومن ثم أوساط رجال السياسة والحكم، فحياة السيد ستافسكي (وهذا هو اسمه الحقيقي) خلال السنوات الأخيرة كانت سلسلة من المغامرات وأعمال النصب التي اختلطت فيها السياسة بالاقتصاد والصفقات المالية بالقوانين والاستثناءات الخاصة، وعرفت كيف تورط أساطين السياسة والحركة المصرفية. وهكذا حين انكشف أمر الرجل أخيراً وبات لا بد من اعتقاله، كان من الأفضل التخلص منه بالانتحار إذا أمكن، ولكن بالقتل إذا تبين أنه لن يقدم على الانتحار. والأرجح أن الرجل استجاب لدعوة الانتحار لأن الفضيحة كانت هذه المرة أكبر من أن تحتمل.
مهما يكن، أتى الفيلم ليذكرنا بأن العصر كان في فرنسا (كما في غيرها) في ذلك الحين ـ سنوات الثلاثين من القرن العشرين ـ عصر الفضائح المالية الكبرى، العصر الذي اختلطت فيه حياة الناس الشخصية بمغامراتهم لأي نوع انتمت. ولم يكن ستافسكي، إذن، استثناءً لكنه كان الأكثر شهرة والأكثر جرأة والأكثر تحقيقاً للأرباح.
الفضيحة الآتية من موسكو
فالحال أن ذلك المغامر الساحر، الذي وُجد منتحراً على ذلك النحو في أحد أيام يناير (كانون الثاني) 1934 في كوخه في شامونيكس وسط جبال الألب الفرنسية، كان حين قرر غزو الحياة السياسية والمالية الفرنسية لا يغيب عن باله أنه غريب آت من روسيا وأنه سيظل يعتبر غريباً وسيعامل معاملة الغرباء إلا إذا كوّن لنفسه ثروة يشتري بها الناس ودهاقنة السياسة، ولقد ساعده على ذلك ذكاؤه الشديد، وطمع العديد من رجال الحكم في فرنسا ذلك الحين، من الذين كانوا على الدوام في انتظار من يحركهم ويستخدم نفوذهم ثم يقاسمهم الأرباح. وستافسكي كان على استعداد دائم للعب اللعبة، ولم يردعه عنها حتى ولا انتحار أبيه، طبيب الأسنان، في 1926، حين علم بأولى فضائح ابنه المالية. كان ستافسكي مغامراً أفاقاً لا يردعه رادع، ولقد زاد من جرأته زواجه من الحسناء آرليت سيمون، ومشهد فرنسا في ذلك الحين بوصفها بلد "أموال سائبة تعلم الناس الحرام". ومن هنا راح يركض، من بلدة إلى مدينة، متنقلاً بين البنوك والبلديات. وكانت الوصفة بسيطة: في ذلك الحين كانت المصارف البلدية مخولة بأن تقرض الناس أموالاً كبيرة مقابل رهونات يودعونها لديها، ثم تصدر مقابل تلك الأموال صكوكاً تباع للمستثمرين بضمانة الرهونات. وكانت لعبة ستافسكي تقضي بأن يصدر من الصكوك ويبيع للجمهور، كميات تفوق قيمة الرهونات بكثير، وذلك بالتواطؤ مع رؤساء البلديات (وبخاصة الراديكاليين - الاشتراكيين منهم، الذين استضافوا تروتسكي حين وصوله إلى فرنسا فأمن هذا الحضور نوعاً من غطاء يساري لستافسكي ما يفسّر حضور تروتسكي ولو بشكل عابر في الفيلم)، ومع مديري المصارف الذين كانوا ينالون حصصهم. والأدهى من هذا أن ستافسكي كان يستخدم أموال البلديات لإقراض البنوك، ثم أموال البنوك لإقراض الناس... الخ.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لليسار أيضاً فضائحه!
بعد إفلاسات عدة انكشفت لعبة ستافسكي الذي كان خلال السنوات الأخيرة من عمره يستخدم الأموال لخوض حياة عابئة يتنقل خلالها بين كان وبياريتز ودوفيل، وهي حياة صورها المخرج آلان رينيه بشكل رائع في الفيلم الروائي الذي ننطلق من الحديث عنه هنا، وصدر أمر بالقبض على الرجل. وراحت الجماهير تؤلب ضده من قبل الروابط القومية اليمينية المتطرفة التي وجدت في يهوديته مادة رائعة لدعاياتها المعادية للسامية. وسادت فرنسا تظاهرات عنيفة وبات لا بد من القبض عليه. ولكن كان من الواضح أنه لو قبض عليه حياً، سوف يتكلم ويفضح كبار القوم. إذن، لا بد من التضحية به، وهكذا أعطته الشرطة وكما يروي لنا الفيلم، ما يكفي من الوقت كي ينتحر. ومع ذلك افتُضحت القضية وسقطت رؤوس، وسقطت الحكومة المتواطئة معه، وعثر على جثث أخرى قيل إنها لأناس انتحروا وقيل إنها لأناس نحروا، واعتقلت الفاتنة زوجة ستافسكي، وكان من الممكن للفضيحة أن تتواصل لولا أن أتى حكم الجبهة الشعبية اليساري فلف القضية برمتها.
ثم أتى فيلم آلان رينيه الذي بدا أميناً للحقيقة التاريخية ليحييها من جديد ولو ليقول إن اليسار أيضاً لم يكن منزهاً عن الفضائح. وربما من هنا ذلك الفشل النقدي الذي كان من نصيب الفيلم حين عرض في مهرجان "كان" مقابل نجاح جماهيري كبير اجتذب لمشاهدته أكثر من 300 ألف متفرج في فرنسا وحدها ما بدا استثنائياً في مسيرة ذلك المخرج الطليعي الذي لم تعتد أفلامه سوى جمهور النخبة فإذا بالفضيحة تضاعف العدد مرات ومرات!