الوضع الذي نتج عن تكليف صالح عمار والياً لولاية كسلا، بالإقليم الشرقي منذ الأربعاء الماضي، هو في تقديرنا اختبار حي لمعنى التناقض الأصلي الذي سيكون بالضرورة نتيجة مفاعيل استكمال هياكل السلطة في ولايات ظلت لأكثر من سنة ونصف تقريباً على حالها منذ ثلاثين عاماً ولم تطالها يد الثورة.
ما حدث من اعتراض هستيري على تكليف الوالي الجديد صالح عمار، من قبل أصحاب المصلحة في بقاء الوضع القديم للحكومة، وجد في اتهامه بأنه "أجنبي" غطاءً مضللاً عن أسباب أخرى حقيقية؛ تكمن في محاولاتهم المستميتة للإفلات مما ينتظرهم من قرارات الوالي الجديد ومن ملاحقات لجنة إزالة التمكين ومكافحة الفساد، وهو فساد عشش فيه هذا اللوبي ثلاثين عاماً.
الفساد والقبائلية والجهل الذي خلفه نظام البشير خلال ثلاثين عاماً، أصبح اليوم السلاح الأمثل لاستخدامات اللوبي العنصري والفاسدين وبعض العامة في مدينة كسلا، فليس أسهل من إثارة العوام بالشعارات الوطنية الزائفة واستغلال جهلهم المركّب في استعداء مكون وطني آخر، بعيداً عن أي منطق أو حق.
إزاء هذا الموقف الذي يروج له أصحاب المصلحة من بقايا نظام البشير والعنصريون وبعض العامة عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ مثل صفحة "المرصد نيوز" على فيسبوك؛ وهي صفحة يستغلها نافذون ومحرضون لبث الفتنة والكراهية تجاه مكون وطني واحد في مدينة كسلا: "بنو عامر"، ربما يعتقد كثيرون أن في الأمر بوادر أزمة أو مؤشرات لاقتتال أهلي، لكن في تقديرنا، أن الأمر في حقيقته يتصل جوهرياً باختبار لتحدي قدرة الثورة السودانية على محك تحقيق مبدأ المواطنة والحقوق المتساوية. في وجه نظام قبائلي قديم، لا يوفر احتراماً للمواطنة.
فحين يهدد البعض بإراقة الدماء في فيديوهات موثقة عبر صفحة "المرصد نيوز" في فيسبوك، إذا أصبح صالح عمار والياً لكسلا، وحين يتم احتلال الكباري الرئيسة للمدينة، والتصريح بعبارات عنصرية، فإن الأمر يخرج عن موقف الرفض السلمي الذي تضمنه الديمقراطية لكل مواطن، إلى وضع ينبغي التعامل معه فقط بالإجراء القانوني لسلطة الدولة وحقها العام في استتباب السلم الأهلي. وقطع الطريق على كل من يواجه أي إجراء سياسي كتكليف الولاة مثلاً بإراقة الدماء.
إن رفض البعض في مدينة كسلا لوالي الثورة الجديد صالح عمار، لا يتعلق بأي منطق، إذ ليس هناك حيثيات وجيهة لهذا؛ كأن يكون فاسداً أو ذا سوابق أو من النظام القديم أو غير مؤهل، وهذا بذاته دليل على إفلاسهم. بل هو رفض يعكس اتهاماً عنصرياً يتصل بنفي المواطنة عنه جزافاً وجهلاً بغير حق؛ الأمر الذي يجعل ذلك الرفض مندرجاً في خانة العبث ولا يتصل بمطالب الاحتجاج السلمي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد جاء صالح عمار لمنصب الوالي بحيثيات قوية؛ نضال لم يخضع للمساومة ضد نظام البشير، ونزاهة أخلاقية، وتأهيل أكاديمي، ومواقف وطنية مشرفة، وتشرد في المنافي، وعلاقات خارجية ناجحة مع منظمات دولية. كل ذلك أهّل سيرته الذاتية للترشيح ضمن قوائم الولاة عن كسلا لقوى الحرية والتغيير، ثم التكليف من رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، بناء على تاريخه النضالي ومواقفه الوطنية، إلى جانب أنه يمتلك رؤية خطَّط لها على مدى أشهر ضمن برنامج لإدارة حكم رشيد في ولاية كسلا. وكذلك علاقاته العديدة بمنظمات دولية ذات صلة بتقديم خدمات وخبرات الدعم والتعاون مع بلدان الديمقراطيات الناشئة. لذا فعمار لم يأتِ للمنصب عبر قبيلته كما يريد أن يوحي بذلك لوبي الفساد وبقايا نظام البشير والعنصريون في المدينة.
إن ما يبدو أزمةً وتعقيداً في مدينة كسلا، على خلفية تعيين الوالي الجديد صالح عمار، ينبغي النظر إليه وفق منطق التحديات الطبيعية للثورة ذاتها والإعاقات التي تنهض في مواجهة استكمال هياكلها السلطوية. وكذلك وفق مبادئ الرؤية الثورية التي قامت بالأساس على شعار ترسيخ مبدأ المواطنة ونبذ العنصرية. وبالتالي إدراك أن الأمر في حقيقته تحدٍ لهوية الثورة في كسلا.
قبائل البجا الـست الكبرى شرق السودان؛ خمس منها أعلنت تأييدها ومباركتها لصالح عمار، من خلال زعماء القبائل الخمس، عبر وسائل الإعلام، ما عدا قبيلة واحدة، وحتى هذه القبيلة هناك فرع كبير منها مؤيد لتكليفه، ما يعني أن أي ظن يتصوره المركز في الخرطوم عن عدم رضا غالبية سكان ولاية كسلا لولايته في غير محله.
التحشيد الذي يحشد له لوبي الفساد وأصحاب المصالح والعنصريون في المدينة ضد الوالي الجديد؛ يهدف إلى استفزاز المكون الذي ينتمي إليه عمّار للخروج في حشد موازٍ من أجل تصوير الأمر كما لو أنه نذير صراع قبلي في المدينة، وبالتالي خلط الأوراق. لكن، لحسن الحظ، حتى الآن لم يخرج المكون الأهلي الذي ينتمي إليه عمار، وهو مكون كبير، في مظاهرة تأييد مضادة للدفاع عنه، لأن المكون يدرك أن صالحاً تم اختياره وتكليفه لولاية كسلا من قِبل حكومة السودان، والحاضنة السياسية للثورة؛ الأمر الذي يضع الكرة في ملعب القوى الثورية للدفاع عنه بطريقة حصرية؛ فقوى الثورة طيف واسع يشمل؛ قوى الحرية والتغيير، وتجمع المهنيين، ولجان المقاومة، والشخصيات العامة، والمثقفين. بعضها أصدر بيانات دعم، لكن الأمر في تقديرنا يحتاج إلى حملة إعلانية منظمة في وسائل الإعلام تنشط فيها كل قوى الثورة المذكورة لحشر اللوبي العنصري المضاد في المدينة بالزاوية الضيقة إلى جانب قيام الجهات الأمنية بمدينة كسلا بأداء واجبها.
إن الدفاع عن خيار عمار والياً لولاية كسلا، من طرف القوى المدنية وقوى الثورة سيعكس ارتياحاً في أوساط مواطني كسلا الشرفاء، وسيفضح شعار المزايدة على الهوية الوطنية، فضلاً عن أنه يعتبر تجسيداً حياً لقيمة المواطنة. لأن أي استجابة للمطالب العنصرية العدمية سيعني الرضوخ لهم ومن ثمّ العودة إلى المربع الأول.
صحيح لا تخلو تجربة خيار صالح عمار والياً لكسلا من مقاومة أو ردود فعل، كتلك التي ذكرناها، عبر الاستثمار في الجهل والتحشيد، لكن ردود الفعل هذه، مهما كان أثرها، هي جزء من محاولات مستميتة لاستعادة نظام ميت قامت الثورة على أنقاضه أصلاً، لذا فإن مشروعية قوى الحرية والتغيير والقوى المدنية ولجان المقاومة في الدفاع المستحق عن ولاية صالح عمار هي جزء أصيل من الفعل الثوري لقطع الطريق على الفوضى، ومحاكمة كل من يقايض قرارات الحكومة؛ كتعيين الولاة، بتهديد السلم الأهلي وإراقة الدماء.
لقد كان تأييد رجل الدين الحكيم، الواسع النفوذ في أوساط قبائل البجا شرق السودان؛ الشيخ سليمان على بيتاي ومباركته لصالح عمار والياً في كسلا، بخطابه الخميس الماضي بمدينة القضارف شرق، متسماً بالرصانة والنظر البعيد والحكمة. وهي حكمة عُرف بها الرجل المحب للخير والسلام.
كما أن من الأهمية بمكان أن يصدر المجلس المركزي لقوى إعلان الحرية والتغيير في الخرطوم بياناً واضحاً؛ ينفي فيه أي علاقة عضوية مع الجسم الموازي المسمى بـ"إعلان الحرية والتغيير" في كسلا، الذي يقوده محمد حسن عثمان أحيمر، وهو جسم يعمل على زعزعة النسيج الاجتماعي وضرب السلم الأهلي عبر التحريض وتهييج بعض المكونات المحلية ضد مكون "بني عامر والحباب".
ومن أغرب مفارقات الوضع في كسلا؛ تصريح ناظر الهدندوة "محمد الأمين ترك" لوكالة سونا للأنباء يوم الخميس الماضي، بــ"استمرار التصعيد حتى تتراجع الخرطوم عن قرارها". مضيفاً، "نحمّل الحكومة مسؤولية أي خلل أو قطرة دم أو روح تزهق". والمفارقة هنا أن "ترك" ذاته كانت قد صدرت أخبار موثوقة من قبل بمباركته للوالي الجديد في كسلا.
لكل تلك الحيثيات، فيما يظل المكون الأهلي للوالي بعيداً عن ردود الفعل التي تحاول أن تجره إليها قوى الثورة المضادة، وتستفزه للخوض فيها، سيكون على قوى الحرية والتغيير والقوى المدنية وثوار ومواطني مدينة كسلا تجديد الدعم المستمر للوالي الجديد صالح عمار، ما دام هو المرشح المختار من قبل قوى الحرية والتغيير والحكومة السودانية.
دور الفريق حميدتي
نائب رئيس مجلس السيادة الفريق أول محمد حمدان دقلو، المعروف بـ" حميدتي"، هو الراصد الأكبر لمجريات الأحداث عن كثب. فهو من كبار المشتغلين على تثبيت استقرار المرحلة الانتقالية، ويعمل بتعاون مريح ومقدّر مع قوى الحرية والتغيير عبر الشراكة الوطنية السودانية المتميزة بين المكون العسكري والمدني. ولهذا فالرجل بكل تأكيد يراقب الأوضاع حثيثاً في ولاية كسلا، وسيكون أكثر حرصاً على استتباب الأمن فيها. فخلال تصريحاته في الفترة الأخيرة؛ يستشف المراقب؛ أن الرجل مدرك لحساسية المرحلة الانتقالية والمخاض العسير الذي تمر به. والرهان الكبير على العبور بها بأمان كما أن حميدتي؛ من القلائل الذين يدركون طبيعة العلاقة العضوية بين فوضى شرق السودان ونظيرتها بالسودان ذاته. وهذه العلاقة العضوية بين الشرق والمركز أكثر من كافية لإيلاء الأولوية في استقرار أوضاع شرق السودان، وحسم أي فوضى فيه.