بعد انهيار الدولة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، تحول كل من نهري دجلة والفرات من نهرين داخليين (وطنيين) إلى نهرين دوليين يخضعان لسلطة ثلاث دول، حيث اختصت تركيا بالمنبع والمجرى الأعلى للفرات ودجلة، وسوريا بالمجرى الأوسط للفرات، والعراق بنهر دجلة والمجرى الأدنى للفرات.
وكان تقاسم مياه الفرات موضع سوء تفاهم بين العواصم الثلاث، وقد أجادت تركيا دولة المنبع، التي توصف بأنها ذات تخمة مائية، استخدام هذه الورقة كسلاح جيوسياسي في التعامل ليس فقط مع سوريا والعراق الدولتين المتشاطئتين معها، بل مع دول عربية أخرى أيضاً.
وأصبحت بذلك تُطرح مسألة المياه والنزاع على مواردها المشتركة في فترات معينة، بوصفها عنصر ضغط سياسي ودبلوماسي.
اتفاقيات دولية
وجود هذه الأطراف الثلاثة زاد قضية الفرات تعقيداً، وأصبح من الضروري وضع مجموعة قواعد وأحكام واتفاقيات تنظم استعمالات المياه بين الدول الثلاثة، العراق وسوريا وتركيا.
ولهذا نصت المادة 109 من معاهدة لوزان 1923 على ضرورة تشكيل لجنة مشتركة بين تركيا وسوريا (تحت السلطة الفرنسية) والعراق (تحت السلطة البريطانية) بهدف حل النزاعات المحتملة التي يمكن أن تثيرها المشاريع الهيدروليكية لهذه الدول. بالتالي، تجد تركيا نفسها في هذه المادة ملزمة بإبلاغ العراق بمخطط أي بنية تحتية جديدة لمشروعات تنوي القيام بها على طول الأنهار، مشيرة مرة أخرى إلى الوضع الدقيق في مصب النهر.
وتأكيد ضرورة التزام تركيا تجاه العراق جاء مرة أخرى بعد الحرب العالمية الثانية من خلال معاهدة "الصداقة وحسن الجوار 1946"، وهو بروتوكول يتعلق بتنظيم استخدام مياه الفرات ودجلة الموقّع بين تركيا والعراق، ثم تلتها اتفاقيات عدة دولية وثنائية، لكن هذه الاتفاقيات لم تلزم تركيا عملياً، وأقدمت على تجاهل كل القواعد والأحكام التي تنظم استخدام المياه المشتركة.
وكانت تركيا قد بدأت بفكرة الاستفادة من مصادر المياه ووضع خطط إقامة السدود بشكل دوري منذ عام 1936 وذلك على مدى خمسة عقود تقريباً، حتى طُرحت بشكل أوضح وأكثر تنظيماً عام 1980، عندما وضعت مخططاً عاماً شاملاً يربط عدداً من المشروعات المائية، سُمي "مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير"، حيث منبع نهري دجلة والفرات.
مشروع جنوب شرقي الأناضول الكبير (Gap)
يُعرّف المشروع على موقعه الإلكتروني الرسمي بأنه أكبر مشروع في تاريخ الجمهورية التركية، نفذته تركيا بحجة تطوير المشروعات الزراعية والإنمائية، وهو يتكون ممّا لا يقل عن 22 سداً و19 محطة للطاقة الكهرومائية منتشرة على نهري دجلة والفرات.
الأمر الذي سبب قلقاً لدى سوريا والعراق بسبب ضخامة المشروع الذي سيقلل من تدفق المياه إلى ضفاف الأنهار بنسبة كبيرة جداً، فشُكلت لجنة تقنية ثلاثية في عام 1983، لكنها بعد تسع سنوات كانت قد عقدت أكثر من 14 اجتماعاً من دون التوصل إلى أي اتفاق "ثلاثي" حول تنظيم استخدام مياه الفرات. إذ كانت تركيا معارضة لترتيب متعدد الأطراف، باعتبار أن لا سلطة لها على تحديد مقدار المياه التي تجري من سوريا إلى العراق، وأن ذلك غير مرتبط بالضرورة بمقدار المياه التي تجري من تركيا إلى سوريا.
وفي عام 1987، عُقدت اتفاقية ثنائية بين سوريا وتركيا، تعهدت أنقرة بموجبها للجانب السوري بحد أدنى من المياه يبلغ 500 متر مكعب في الثانية، غير أن سوريا اتهمت تركيا بانتهاكها هذا الاتفاق مرات، أما العراق فاعترض على هذا المعدل المنخفض، خشية منه من أن يتحمل عواقب هذا الاتفاق.
وبحسب تقرير نشرته صحيفة الغارديان، فقد "أدى إنشاء السدود التركية وتوليد الطاقة الكهرمائيّة على النهرين إلى خفض تدفق المياه إلى العراق بنسبة 80 في المئة وإلى سوريا بنسبة 40 في المئة، واتهمت كل من سوريا والعراق تركيا بتخزين المياه وتهديد إمداداتها من المياه".
بلغت المخاوف ذروتها حول استخدام مياه الفرات عام 1990، بخاصة عندما قامت السلطات التركية بحبس مياه نهر الفرات لملء خزان أتاتورك (أحد مشاريع Gap) أكبر سدود تركيا، وتحويل مجرى النهر وإعاقة تدفق مياهه طيلة شهر كامل. أثناء هذه الفترة كان الجريان إلى سوريا شديد الانخفاض لا يتجاوز 45 متراً مكعباً في الثانية مما أثر في محطات المياه والزراعة والاستعمالات المنزلية، الأمر الذي دفع سوريا والعراق إلى الاحتجاج على الضرر الذي نزل باقتصادهما، بينما قالت تركيا إن السدود التي أقامتها وسوف تقيمها على نهري دجلة والفرات، لن تسهم بتلبية احتياجاتها من الطاقة ومياه الري فحسب، بل ستوفر أيضاً إمدادات منتظمة من المياه إلى جيرانها.
تهديد العراق
كما بُني على نهر دجلة ضمن مشروع Gap ثمانية سدود، وفي عام 2006 وُضع حجر الأساس لأكبر مشروع في تركيا وثالث أكبر مشروع من نوعه في العالم، وهو سد "إليسو" الأكبر على الإطلاق في حجم تهديده لمستقبل العراق. وفي الأول من يونيو (حزيران) 2018 أعلنت تركيا عن بدء عملية ملء خزان السد ومنذ ذلك الحين، بدأت المخاوف تتحول إلى واقع وكارثة بدأت تتكشف ملامحها في مختلف أنحاء العراق من الشمال إلى الجنوب.
وفي تقرير نشرته وكالة الأناضول في الشهر الخامس مايو (أيار) من العام الحالي عرضت فيه بعض التصريحات التي تضمنتها كلمة الرئيس التركي في مراسم تفعيل التوربين الأول (واحد من ستة توربينات) في محطة الطاقة الكهرومائية على سد "إليسو"، قال أردوغان إن بلاده "كانت تملك 276 سداً حتى عام 2002 وإن إجمالي عدد السدود ارتفع إلى 585 في غضون السنوات الـ 18 الماضية (منذ تولي حزب العدالة والتنمية السلطة في البلاد)"، خاتماً "سنفتح 17 سداً إضافياً أيضاً، يفصل بين افتتاح كل منهم شهر أو أقل من ذلك".
وتنذر التقارير والإحصاءات بأن السد التركي سيؤدي إلى خفض المياه الواردة إلى العراق عبر نهر دجلة إلى 47 في المئة من الإيراد السنوي الطبيعي، الأمر الذي سيهدد مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية إضافة إلى تصحرها، ويجده الكثير من المختصون تهديداً للأمن القومي العراقي، ويرى آخرون أن تركيا تستغل الأزمات السياسية والاقتصادية التي يمر بها العراق لتسيير الأمور لصالحها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبذلك لن تكون الزراعة العراقية هي المهددة فحسب، بل نوعية المياه نسبة لملوحتها وتلوثها، حيث يتضرر العديد من الأراضي الزراعية العراقية بسبب ارتفاع الملوحة، وكذلك المنشآت الصناعية ومعامل معالجة المياه للاستعمالات المنزلية.
وهذا ما دفع بوزارة الموارد المائية العراقية إلى طلب إجراء مباحثات مع الجانب التركي، وبحسب المتحدث باسم وزارة الزراعة العراقية حميد النايف، فإن العراق تحاول التوصل إلى تفاوض جدي وواضح للحصول على مستحقاتها، وإذا فشلت المفاوضات التقليدية يجب أن يستخدم العراق الجانب الاقتصادي لكي يجبر الجانب التركي على التوصل إلى مستحقاته.
الشمال السوري
يمثل النصف الشمالي من سوريا قاعدتها الزراعية والصناعية، وكانت تركيا قد استثمرت ورقة السيطرة على مصادر المياه في هذه المنطقة قبل وخلال الحرب السورية، واستخدمتها كوسيلة ضغط سياسي وكذلك كسلاح ضد الأكراد في الشمال السوري.
فسوريا تعتمد على نهر الفرات في 80 في المئة من احتياجاتها المائية، وهو العمود الفقري لمشروعاتها الكهربائية وخططها التنموية، وأكثر من ثلث مناطق سوريا تعتمد على نهر الفرات لتوليد الطاقة الكهربائية وعلى رأس هذه المناطق حلب، وبحسب تقرير نشر على سكاي نيوز يوم 26 يوليو (تموز) عمدت تركيا إلى تخفيض كمية مياه نهر الفرات التي من المفترض أن تمر إلى الأراضي السورية إلى الربع، مما تسبب في توقف عمل مولدات الطاقة التي تخدم حلب والمقامة على ثلاثة سدود.
وبحسب خبراء، فإن سد الفرات وحده كان ينتج ما يقارب 800 ميغاواط من الطاقة الكهربائية في الساعة، ويغذي نهر الفرات أكبر المحافظات السورية حلب والرقة ودير الزور بمياه الشرب، كما يغذي معظم المناطق السورية بالكهرباء، إلا أن معدل إنتاجه انخفض اليوم إلى أقل من الربع بسبب انخفاض مستوى المياه فيه، وهذا الانخفاض لن يؤثر في إنتاج الكهرباء فحسب بل شكل أيضاً تهديداً لمياه الشرب.
والتقديرات الرسمية تؤكد أن تدفق المياه حالياً لا يتجاوز 200 متر مكعب في الثانية (في خرق لاتفاقية عام 1987)، وبحسب خبراء إذا واصلت تركيا خرق الاتفاق فإن مدناً مثل حلب والرقة ودير الزور والبوكمال وصولاً إلى العراق ستواجه كارثة إنسانية لا محالة.
واليوم تقوم تركيا مجدداً بقطع المياه عن أكثر من مليون مواطن في الحسكة، والتحكم بمياه الضخ من محطة علوك، وهي بذلك تعرضهم لأزمة تهدد استمرار حياتهم لعدم توفر مصادر مياه بديلة.