"حجٌ محدود"، رغم عدم اعتياد المسلمين إقامة الشعيرة الخامسة تحت هذا العنوان، فإنه لم يكن مفاجئاً. فموسم الحج هذا العام الذي كان مهدداً في بداية الأمر بالإلغاء بعد أن تسببت جائحة كورونا في تعطيل الحياة العامة ورحلات السفر الدولية والمحلية، وفرضت حظراً للتجوّل بشكل غير مسبوق، وجعلت من التجمّعات الكبيرة في النُّطق الضيقة جريمة يعاقب عليها القانون، لم تستثنِ في اجتياحها الشعائر الدينية ودور العبادة التي أغلقت أبوابها منذ أسابيع التفشي الأولى، ولم تكن لتستثني فريضة الحج، لولا إصرار القائمين عليه على إقامته ولو بشكلٍ رمزي.
ففي موسم الحج لهذا العام الذي لم يتجاوز عدد المشاركين فيه عشرة آلاف حاج، بعد أن اعتاد العالم الأرقام المليونية عقوداً طويلة، شهد الموسم تغييرات أبعد من عدد الحجيج. فالقيود الصحية التي دفعت بقرار تحديد عدد نزلاء المشاعر المقدسة، غيّرت من طريقة اختيار الحجاج، وأضافت قيوداً على طريقة تفويجهم بين المشاعر، وطريقة تأديتها وفقاً للاشتراطات الوقائية، بل وأعادت ترتيب مقاعد السلطة بين المؤسسات والإدارات الحكومية السعودية في اتخاذ القرار في ما يتعلق بطاولة الحج المستديرة.
فوزارة الحج التي لطالما جلست على رأس الطاولة التي تضم الجهات الحكومية المشاركة في تسيير الحج وخدماته، باتت لا تملك إجابة عن الأسئلة الأساسية المتعلقة بتسيير أمور الحج، بعد أن أضحت وزارة الصحة والمركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها "وقاية"، تملك القرار المرتبط بحماية الصحة العامة منذ تسجيل الحالة الأولى للفيروس التاجي في السعودية خلال مارس (آذار) الماضي.
آلية اختيار الحجاج
كان من ضمن التغييرات التي طرأت على المنسك هو طريقة اختيار الحجاج، إذ قُسّمت مقاعد الحج على المقيمين داخل السعودية حصراً، منعاً لاستقبال حالات قد تكون ناقلة للفيروس من خارج البلاد لم تخضع لاشتراطات سلامة، وقُسِّمت بشكل تمثل فيها كل الجنسيات الموجودة داخل البلاد (160 جنسية)، على أن لا يتجاوز نسبة السعوديين منهم 30 في المئة، بينما تحصل الجنسيات الأخرى على 70 في المئة من المقاعد.
واقتصر اختيار الحجاج المواطنين على الممارسين الصحيين ورجال الأمن الذين سبق لهم الإصابة بالفيروس التاجي وتعافوا منه.
في حين جرى إعفاء المقيمين من هذا الشرط، بشرط امتلاكهم شهادة فحص مختبري، تثبت خلوهم من (كوفيد 19)، أو أي أمراض مزمنة، وأن تتراوح أعمارهم بين 20 و65 عاماً، ولم يسبق لهم أداء الفريضة، وفق ما أعلنته وزارة الحج والعمرة.
وقال مركز "وقاية" في توضيح للآلية المتبعة للتأكد من خلو الحجاج من أي أمراض قد تُنقل إلى داخل مكة "فرضنا على الحجاج المقيمين فور قبول طلبهم لأداء الحج، أن يتعهدوا خطيّاً التزام الحجر المنزلي قبل موعد قدومهم إلى مكة بـ14 يوماً، وبعد انتهاء مناسكهم بـ14 يوماً أخرى"، ويُراقب التزامهم عن طريق "بعض تطبيقات التتبع، وتحديد الموقع، والاتصال اليومي للتأكد من مكان وجودهم وفق المعايير الصحية المعتمدة في السعودية، وقد تعهدوا ذلك".
أمّا بخصوص الحجاج السعوديين فقد اقتصرت الاشتراط بأن يلتزموا الحجر المنزلي، بعد فراغهم من أداء المناسك، وعودتهم إلى مدنهم، من دون الحاجة لحجر يسبق الحج، وذلك للحصانة التي يملكونها نتيجة اختيارهم ممن سبق لهم الإصابة والشفاء من الفيروس.
حج الحالات المشتبه بها
لم تغفل الخطة الصحية التي وضعتها "وقاية"، وتشرف على تطبيقها، احتمالية تسجيل إصابة في أثناء أداء الحج، إذ أفاد المركز بأنه جرى تخصيص خط حج خاص ومنفصل للحالات التي يشتبه بإصابتها بعد دخولها إلى مواقع الحج، وبدء تأديته.
وأضافت، "لن يُسمح بدخول من تظهر عليه أعراض الإصابة بالفيروس أو الإنفلونزا إلى المشاعر، لكن في حال جرى الاشتباه بإصابة إحدى الحالات الموجودة في أثناء تأدية الحج، فيمكن له إكمال حجه وفق اشتراطات تتواءم مع حالته"، وتابعت، "إذ يجري تقييم الحالة من قِبل الطبيب المختص، وبعد ذلك تُلحق بمجموعة خاصة للحالات المشتبه بها".
وعن مسار الحالات المشتبه بها، قالت وقاية "يتضمن المسار عمارة منفصلة أو دوراً سكنيّاً على الأقل في مكان الإقامة، وحافلة نقل خاصة للحالات لإكمال حجهم، وجدولاً زمنيّاً لمسار رحلة مناسب لتلك الحالات".
حج بـ"مسافات قانونية"
كما لا يمكن إهمال الاشتراطات الصحية التقليدية، مثل ارتداء الأقنعة الواقية، ففي الوقت نفسه لا يمكن إهمال المسافة القانونية، وتطبيق التباعد الاجتماعي في مناسبة لم يسبق أن التزمت شيئاً من هذا.
إذ، يكمن تحدي تنظيم الحج عادةً في تنظيم الحشود وسط نطاق جغرافي محدود، إلا أن محدودية العدد هذا العام تفرض على المحظوظين التزام قواعد التباعد الاجتماعي، التي تعهد المركز والجهات المنظمة تطبيقها.
وتضمّنت بروتوكولات الحج الصحية التزام المنظمين تنظيم التجمعات عند نقاط الانتظار، وتسليم الأمتعة والمطاعم، ووضع ملصقات تحدد أماكن الوقوف تضمن التباعد بين الحشود، مع تحديد عدد الأشخاص الذين يستخدمون المرفقات العامة في الوقت نفسه، مثل المصاعد والسلالم الكهربائية والاعتيادية، وأيضاً أماكن الإقامة التي لم يتجاوز عدد المقيمين فيها عشرة أشخاص لكل 50 متراً مربعاً.
وسائل النقل
وقالت وقاية، إن عملية النقل عبر الحافلات تشكل تحدياً بالنسبة إلى مهمة نجاح الموسم وخلوه من الأوبئة، لذلك وضع المركز أنظمة صارمة لعملية النقل، تضمن من خلالها ضمان تطبيق الإجراءات الصحية على مرتاديها.
فوفق الاشتراطات الجديدة، لن يتمكّن الحجاج من تغيير حافلاتهم طوال رحلة الحج "سيتم تحديد حافلة لكل مجموعة برقم مقعد خاص للحاج نفسه لا يتغير طوال الرحلة"، على أن لا يتجاوز عدد الركاب 50 في المئة من طاقة الحافلة الاستيعابية.
وتفرض القوانين على مسيري الحافلات، إخراج الحافلة من الخدمة في حال تسجيل حالة لأحد ركابها، وتأكد إصابته إلى حين تطهيرها بالكامل، وضمان انعدام فرص الحياة للفيروس على أسطحها. إضافة إلى بعض الإجراءات الروتينية، مثل توفير معقمات داخلها، والتأكد من وجود أبواب كافية تضمن عدم التزاحم في أثناء الركوب والنزول.
الاستخدام مرة واحدة
ومن ضمن البروتوكولات التي زوّدتنا بها "وقاية"، هي تلك المتعلقة بتقديم الخدمة والأدوات ذات الاستخدام الشخصي، إذ يمنع الاستخدام الجماعي لتلك الأدوات، مثل الملابس والمناشف ومنتجات الحلاقة ومعدات الحماية وأجهزة الاتصال.
كما يشترط على مزوّدي الخدمة مثل صالونات الحلاقة التعامل بالأدوات ذات الاستخدام الواحد، مثل الأغطية وشرائط العنق، وأدوات الحلاقة والقص، والتخلص منها بعد استخدامها.
مع التزام تطهير الأجزاء التي يُعاد استخدامها، مثل الأمشاط والفرش ومقاعد الحلاقة والأسطح المحيطة بها.
وقال المركز إنه عطّل وأزال جميع البرادات في الحرم المكي والمشاعر المقدسة، وحصر الماء على العبوات ذات الاستخدام الواحد.
جمرات معقمة
الأمر ذاته سيشمل حصوات رمي الجمرات، التي جرى توفيرها من قِبل الجهات المنظمة بعد تعقيمها لكل حاج، على أن تكون مغلفة تغليفاً محكماً، ولا يعاد استخدام ذات الحصوات إلا بعد تعقيمها من جديد.
ويقول مركز الوقاية من الأمراض إنه "سيُفرض جدول صارم لتفويج الحجاج من مقر الإقامة إلى مقر الرمي، لضمان عدم الازدحام"، على أن لا يتجاوز عدد من يرمون الجمرات في الوقت نفسه 50 حاجاً لكل دور من أدوار منشأة الجمرات، يطبق بينهم قواعد التباعد وارتداء الأدوات الواقية.
وفي الحرم أيضاً
ولا يقتصر تنظيم التفويج على المشاعر فقط، فأيضاً زيارة الحرم المكي تخضع لجدولة وتنظيم داخل صحن الطواف، مع توزيعهم بين طوابق الحرم، ووضع مسارات لضمان التباعد الجسدي.
ويمنع على الحجاج الالتصاق بالكعبة أو تقبيل الحجر الأسود، عن طريق حواجز ومشرفين يضمنون عدم ملامسة الحجاج لها، ومنع استخدام العبوات التي تستخدم لأكثر من مرة في تخزين مياه زمزم، والاستمرار في تعقيم المرفقات العامة والأسطح، ودورات المياه ومنع التزاحم فيها أو تعطيلها بالكامل إذا لزم الأمر.
الجدير بالذكر، أن تقليص عدد الحجاج كما هو في هذا العام، لم يقلل أو يسهل عملية نقل الحجاج، وتنظيم أدائهم مناسكهم، فبالنظر إلى البروتوكولات التي قدّمها المركز الوطني للوقاية من الأمراض ومكافحتها، فسيتعين على المشاركين في تقديم الخدمة والعمل في المشاعر المقدسة بذل جهد مضاعف، لضمان إنجاح الحج صحيّاً في ظل التهديد الوبائي الذي يصاحب الموسم الديني السنوي.