لم يكن الـ 14 من فبراير (شباط) 2005 يوماً عادياً في حياة اللبنانيين، بل محطة تحوّل تاريخيةً نتيجة الزلزال الذي هزّ البلاد باغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري بتفجير موكبه في بيروت بسيارة مفخخة بطنٍ من المواد المتفجرة.
فالاغتيال فتح البلاد على مرحلة سياسية جديدة، انقلب فيها المشهد السياسي برمته، وترافق مع محطات أمنية شديدة الاضطراب، اتسمت بفتح حقبة الاغتيالات السياسية التي أودت بحياة 15 شخصية سياسية وقيادية وإعلامية، فيما نجت ثلاث شخصيات من محاولات اغتيال مماثلة.
اختيار الشخصيات المستهدفة لم يكن وليد مصادفة. فالمستهدفون تم اختيارهم بدقة وعناية، ليحقق اغتيالهم هدف ما فرضته التطورات السياسية في البلاد. وهؤلاء وسموا الحياة السياسية في تلك المرحلة، وكان لهم في شكل أو آخر، ومن مواقعهم ومواقفهم أو وظائفهم، دور في ربط خيوط الجريمة، أو في الإضاءة عليها أو في تغيير في مجرى الأمور والتحقيقات.
ما بين فبراير 2005 وديسمبر (كانون الأول) 2013، سلسلة من الاغتيالات تعرض لها الفريق الاستقلالي المنبثق من التظاهرة المليونية المناهضة للوصاية السورية على لبنان، والتي تفجرت في ساحة الشهداء في وسط العاصمة بيروت غداة المهرجان الخطابي الذي نظمه حلفاء سوريا في لبنان لشكرها بعد قرار الرئيس السوري سحب جيشه من لبنان، وكانت الاستهدافات محددة جداً وغير عشوائية، إذ لم يكن الهدف منها الترويع أو التهديد، بل حملَ كل اغتيال توقيعاً منبثقاً من الغاية المرجوة منه.
ثمة اغتيالات حصلت لإسكات الصوت، وأخرى لمنع إقرار قرار إنشاء المحكمة الخاصة الدولية الرامية إلى التحقيق في اغتيال الحريري، أو لتقليص حجم الغالبية النيابية التي كان يتمتع بها هذا الفريق، لمنع التصويت على قرارات ذات شأن متصل بالمحكمة، في وقت استهدفت تلك الاغتيالات شخصياتٍ أمنيةً وعسكريةً واكبت التحقيقات وتوصلت إلى نتائج مهمة، فكان إسكات صوتها سبيلاً لإعاقة التقدم في التحقيق أو لإخفاء تلك النتائج.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلافاً لما اعتقده المخططون والمنفذون، لم تمرَّ جريمة قتل الحريري على جاري الاغتيالات السياسية في البلاد. إذ حرّك الاغتيال الرأي العام العالمي، نظراً إلى ما كان يتمتع به الرجل من شبكة علاقات دولية واسعة، ولما كان يمثله من تقاطع مصالح إقليمية ودولية. وبالفعل، لم تكد بضعة أشهر تمر حتى أصدر مجلس الأمن الدولي قراراً بتشكيل لجنة تحقيق دولية في عملية الاغتيال، وذلك بناء على مشروع تقدمت به واشنطن وباريس ولندن. وتم تكليف القاضي الألماني ديتليف ميليس بترؤسها وإدارة التحقيق، الذي مهد لإنشاء المحكمة الخاصة بلبنان للنظر في قضية الاغتيال، وذلك في يونيو (حزيران) 2007، تحت الفصل السابع للأمم المتحدة، بعدما رفض فريق "حزب الله" الموافقة على طلب الحكومة اللبنانية توقيع الاتفاقية مع الأمم المتحدة. وقد بدأت المحكمة التي اتخذت من لاهاي مقراً لها أولى جلساتها العلنية في مارس (آذار) 2009.
عدالة محفوفة بالدم
منذ تاريخ 14 فبراير 2005، دخل لبنان حلقة دموية حصدت قيادات وشخصيات من فريق "14 آذار" الاستقلالي. علماً أنه سبق ذلك التاريخ محاولة اغتيال النائب والوزير السابق مروان حمادة، العضو في الحزب التقدمي الاشتراكي، في رسالة إلى الحريري نفسه، لم يتلقف مضمونها جيداً ما أدى إلى استهدافه.
ومع الحريري، قضى الوزير السابق باسل فليحان بعد صراع مع الجروح والحروق الناجمة عن الانفجار. لم يصمد أكثر من شهرين ليسلم الروح في 12 أبريل (نيسان) 2005.
استهداف الصحافة
وفجّر اغتيال الحريري ثورة عارمة في الشارع، ارتفعت معها حدة الخطاب السياسي والإعلامي ضد الوصاية السورية، خصوصاً بعدما أعلنت المعارضة اللبنانية التي ينضوي تحت لوائها أركان فريق "14 آذار" بقيادة نجل الحريري سعد الحريري، وهو كان لا يزال خارج السلطة، قيام انتفاضة الاستقلال حتى الانسحاب السوري. وخرقت أقلام الإعلام اللبناني المعارض كل المحرّمات، فكان الاستهداف الأول للصحافي في جريدة "النهار" اللبنانية سمير قصير في يونيو 2005، في رسالة ترويع للإعلام الحر، لم تؤد نتيجتها، لتحصد الاغتيالات مجدداً النائب والصحافي جبران تويني، غداة عودته من باريس، وذلك في 12 ديسمبر 2005.
وكان واضحاً أن الهدف من الاغتيالين إسكات الصحيفة العريقة التي قادت من خلال تويني وقصير الانتفاضة. فذهب جبران تويني ضحية قسمه الشهير الذي دعا فيه اللبنانيين إلى التوحد مسلمين ومسيحيين من أجل لبنان.
وما بين قصير وتويني، اغتيل القيادي جورج حاوي بتفجير عبوة ناسفة في سيارته في منطقة وطى المصيطبة في يونيو.
محاولة اغتيال شدياق
في 25 سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، تعرضت الإعلامية مي شدياق إلى محاولة اغتيال عبر وضع عبوة متفجرة تحت سيارتها، نجت منها بأعجوبة، لترفع لواء رفع الصوت، خصوصاً بعد استهداف تويني في الشهر الأخير من العام نفسه.
وبعد أقلّ من عام على اغتيال تويني، تعرض نائب رئيس شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي المقدم سمير شحادة لمحاولة اغتيال في منطقة الرميلة جنوب لبنان، نجا منها، بينما قتل أربعة من مرافقيه. لكنه انسحب بعدها من عمله، ولم يعد إلى لبنان إلا عام 2013، وذلك بعدما تبين بأن استهدافه مرتبط بشكل وثيق بملف اغتيال الحريري. فهو كان الرجل الثاني في شعبة المعلومات الذي يتابع التحقيقات في عملية الاغتيال، وكان قاد عملية توقيف الضباط الأمنيين الأربعة (المدير العام السابق للأمن العام اللواء جميل السيد، قائد الحرس الجمهوري العميد مصطفى حمدان، ومدير المخابرات الأسبق العميد ريمون عازار والمدير العام لقوى الأمن الداخلي الأسبق اللواء علي الحاج)، بعد توجيه المحكمة الاتهام إليهم بضلوعهم في العملية، قبل أن يفرج عنهم لاحقاً. وقد وضعت محاولة تصفية شحادة في إطار الرسالة السياسية والأمنية، خصوصاً أن المحاولة جاءت على بعد عشرة أيام من تقديم رئيس لجنة التحقيق الدولي تقريره إلى مجلس الأمن، وعلى مسافة أيام مماثلة من وصول مستشار الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون القانونية نيكولا ميشال إلى بيروت، حاملاً مشروع إنشاء المحكمة الدولية.
المحاولة مع المر
محاولة اغتيال نائب رئيس الحكومة وزير الدفاع في حينها الياس المر في أبريل 2006 باءت بالفشل، وقد وُضعت في إطار الضغط لمنع لجنة التحقيق الدولية من الاستماع إلى الشهود أو تحقيق أيّ تقدم في عملها. وهذه كانت الحال مع الأمين العام السابق للحزب الشيوعي جورج حاوي الذي اغتيل غداة تقديمه شهادته إلى اللجنة.
اغتيال الجميل
وسط الأجواء المشحونة التي كان يعيشها لبنان، صعد نجم النائب والوزير السابق بيار الجميل الذي بدا مشروعاً جيداً لرئاسة الجمهورية، لكن المشروع لم يحظَ بأيّ فرصة بعدما تعرّض الجميل في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) 2006 للاغتيال بعدما أطلق عليه ثلاثة مسلحين النار وهو في سيارته في منطقة الجديدة في ضاحية بيروت الشمالية.
وتوالت سلسلة الاغتيالات لتطال في ما بعد النائبين وليد عيدو (يونيو 2007) من كتلة تيار "المستقبل"، وأنطوان غانم من حزب الكتائب اللبنانية في سبتمبر 2007. وقد وُضع اغتيالهما في إطار خفض عدد نواب الأكثرية للحؤول دون المصادقة على إنشاء المحكمة الدولية. واستتبعت الاغتيالات باستهداف مدير العمليات في الجيش العميد فرانسوا الحاج. وفي حين وُضع ذلك الاغتيال في إطار الانتقام من الرجل الذي واجه بشراسة الأصوليين في مواجهات ومعارك مخيم نهر البارد، إلا أن ثمة من لا يقلّل من أهمية الثقل الذي كان يمثله الحاج كمرشحٍ جدّي لقيادة الجيش، الأمر الذي كان يلقى معارضة شديدة من الفريق الحليف لسوريا و"حزب الله".
العقل الإلكتروني
في ديسمبر 2008، هزّ بيروت انفجار جديد استهدف الرائد في قوى الأمن الداخلي وسام عيد، الذي عُرف بالعقل الإلكتروني لشعبة المعلومات، واضعاً البلاد أمام خطر اغتيال الحقيقة التي كان على وشك أن يفجرها من خلال كشفه وفكه رموز داتا الاتصالات التي شكلت حجر الأساس في ربط خيوط جريمة اغتيال الحريري. علماً أن عيد كان له أيضاً الدور الأكبر في فك جريمة تفجير عين علق في منطقة المتن الشمالي.
الحسن
وبعد مرحلة هادئة نسبياً من مسلسل الاغتيالات امتد حوالى خمس سنوات، جاءت عملية اغتيال المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء وسام الحسن في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 لتعيد فتح هذا الملف الساخن ويطرح علامات استفهام كبيرة حول دور المسؤول الأمني الأول، ورجل الظلّ كما كانت تصفه الأوساط السياسية والأمنية، وهو الذي كان تعرض لتهديدات عدة، وكانت آخر مهماته توقيف الوزير السابق القريب من سوريا و"حزب الله" ميشال سماحة بتهمة ضبط عملية نقل متفجرات في سيارته من سوريا إلى لبنان.
وشكل اغتيال الحسن هزة كبيرة في الداخل اللبناني، وإن لم يكن مفاجئاً ولا سيما للجهة السياسية التي ينتمي إليها، حيث كان أسرّ أكثر من مرة إلى المدير العام لقوى الأمن الداخلي السابق اللواء أشرف ريفي أنه يدرك أنه مستهدف، وأن السوريين لن يتركوه، الأمر الذي دفعه إلى إخراج عائلته من لبنان.
وبعد الحسن، كان الوزير السابق محمد شطح آخر عنقود الاغتيالات، إذ تعرض موكبه لانفجار في 27 ديسمبر 2013 في منطقة عين المريسة في بيروت. وُضع اغتيال شطح، وهو الشخصية الدبلوماسية الذي شغل سابقاً منصب سفير لبنان في واشنطن والقريب من الإدارة الأميركية، في إطار ضرب رجل أميركا في لبنان، والذي يكن العداء لإيران.
وفي آخر تغريدة له، كتب شطح أن "حزب الله يهوّل ويضغط ليصل إلى ما كان النظام السوري قد فرضه لمدة 15 عاماً، وهو تخلي الدولة له عن دورها وقرارها السيادي في الأمن والسياسة الخارجية".
وكان الحريري وجه الاتهام إلى الحزب بمقتل شطح، من دون أن يسميه، إذ اعتبر أن "من اغتال والده هو نفسه من اغتال شطح".
وفي كل الاغتيالات التي تعرضت لها هذه الشخصيات، كانت أصابع الاتهام السياسي على الأقل يوجهها فريق المعارضة بقيادة الحريري الابن إلى النظام السوري وأدواته في لبنان.
ومسلسل الاغتيال الذي استهدف قيادات وشخصيات أطاح في طريقه عشرات المدنيين أو المرافقين الذين قضوا بنتيجته، وذهبوا ضحية الإجرام المتمدّد فصولاً في الحياة اللبنانية.
لكل اغتيالٍ في لبنان وظيفته وهدفه. ومع اقتراب موعد إعلان المحكمة الخاصة بلبنان حكمها في اغتيال الحريري، يبقى السؤال الشاغل للبنانيين، هل تحقّق المحكمة هدفها، ليس بإحقاق العدالة ومعرفة الحقيقة في جريمة العصر، وإنما في وضع حدٍ للاغتيال المتفلّت من العقاب؟