ليست المرة الأولى التي يختبر فيها المُترجم المغربي محمد آيت العميم، كتاباً مُتمنعاً فكراً وترجمة، مثل ترجمته الأخيرة لكتاب الفرنسي البرتغالي كارلوس باتيستا "المترجم كاتب الظل" (2020) الصادر حديثاً ضمن منشورات خطوط في الأردن. عمل المترجم من خلاله على شحذ كل ثقافته الأدبية وترسانته المفاهيمية ليُجابه هذا النص الجامح ويجعل منه يتنزل منزلة أخرى أو حياة ثانية داخل سياق وثقافة وقارئ آخر، لكن بشكل مُوازٍ مع الحياة الأصلية للنص في لغته الأم. بهذا يكون النصّ المُتَرجم أشبه بضيف يحلّ على شعوب وثقافات أخرى بعيدة من موطنه الأصلي، لا أن يكون عابراً بين ثنايا ثقافتها، بل كمُقيم دائم ومُخلخل للأفكار والتصورات والتمثلات المُسبقة التي كوّنتها الثقافة العربية المعاصرة. فنحن نُترجم وننقل تراثاً إلى لغة أخرى لا للقراءة فقط، وإنما لوضع الثقافة العربية أمام امتحان ثقافة الآخر وفهم بعض مزالقها ومطبّاتها وأشكال التلاقح وأنماط التقاطع والتلاقي بين هذه الثقافات، كما هو الشأن مع ترجمات الباحث محمد آيت العميم، بخاصة في ترجمته "بورخيس صانع المتاهات" ثم في "المُترجم كاتب الظل" الذي يطرح من خلاله أسئلة حقيقية أكثر ارتباطاً بالثقافة العربية المعاصرة عن مفهوم الترجمة وقوانينها وأهميتها داخل ثقافات العالم، بوصفها مشروعاً حضارياً أو شكلاً من أشكال المُثاقفة التلقائية التي تتم بين الشعوب والحضارات. وليس الهدف سوى جعل هذه الثقافات المحلية والوطنية، تأخذ طابع التشعّب والذيوع داخل ثقافات أخرى.
بهذا المعنى تصير الترجمة عند الدكتور محمد آيت العميم، مدخلاً ناجعاً ينقل المرء إلى عوالم ثقافية وفكرية وأنثروبولوجية أخرى للتعرّف عليها والاستقرار في مُتخيّلها ونهضتها والنهل من معينها الثقافي. وذلك لمحاولة خلق وشائج حقيقية بين الثقافتين، وإن كانت هذه العملية (الترجمة) تظلّ صعبة وملغومة ويكتنفها الكثير من الغموض، وهي تهمّ إلى نقل رماد هذه الثقافة إلى أخرى، في حالة لم يكُن المُترجم عارفاً بقوانين المهنة وجماليات الصنعة و ملماً بتاريخ الحضارات والمفاهيم والمعاني في فترات مختلفة. هذا بالإضافة إلى استيعاب الأشواط الطويلة التي قضتها عبر الزمن، نظراً إلى كون المصطلحات والمفاهيم تُشبه حياة البشر، فهي دائمة التغيّر والترحال صوب أماكن قصية، تظلّ خاضعة للسياق ودلالاته. من ثم فهي تُجدّد نفسها دوماً مع كل عصر عن طريق إبداعية اللغة، بخاصة في الشعر، الذي يعمل منذ أزمنة سحيقة على تجديد اللغة ومعها الترجمة، على الرغم من صعوبة ترجمته. فترجمة العشر كما هو معروف، تفترض ممارسة شعرية وفهماً دقيقاً لطبيعة النصّ وصُوَرِه وسياقاته التاريخية ودلالاتها، حتى يتحقّق هذا العبور إلى لغة أخرى بشكل سليم، من دون خلق أيّ نشاز على مستوى القراءة والفهم.
لماذا نترجم؟
عمل كارلوس باتيستا على تقسيم كتابه إلى مجموعة من المواضيع الأثيرة التي تتّصل بالترجمة فكراً ومُمارسة وإبداعاً تبدأ بـ"لماذا نترجم؟"، "فن الحب"، "فن الخيانة"، "فن الإغواء"، لتنتهي بـ"فن القرار"، وهي جميعها مفاهيم عملية مُتشعّبة تُشرّح مفهوم الترجمة وإمكاناتها وتحققها على صعيد المُمارسة. وعلى مدار مئة صفحة يلجأ الكاتب إلى كتابة هي عبارة عن التماعات تأملية شذرية تغوص في جسد الترجمة وتبحث داخلها عن الزخم الفكري والروحي لهذا المفهوم في علاقته بالأنا المُترجمة. يقول باتيستا في هذا الأمر: "يمشي المترجم وسط المظاهر الخداعة والكلمات المبهجة مثل أوليس بين عرائس البحر، فبقدر ما ينبغي أن يصيخ السمع جيداً كي يمسك بالمعنى الأصلي، يتوجب عليه، أن يختم أذنيه بالشمع كي لا يستمع إلى الإشاعة الخداعة للترجمة الحرفية كلمة كلمة"(ص 34). بهذا الكلام يزداد الأمر ضراوة لدى الكاتب، فهو أولاً، ينفي الترجمة الآلية التي لا تستطيع أن تصل إلى كنه المصطلح أو المفهوم، بل تظلّ قاصرة، واقفة عند سياج المعنى وعتباته الأولى. هنا يتحتّم على المُترجم الدخول إلى أراضٍ وعرة، تنتقل معها الترجمة بوصفها عملية إجرائية تقوم على نقل المادة إلى لغة أخرى، وإلى فضاء آخر، تُصبح فيه الترجمة مُمارسة إبداعية وفكرية.
وهنا تكمن قيمة ترجمات محمد آيت العميم، فهو يخلّص المفهوم من جفافيته الدلالية الظاهرة ليقدّم إلى المفهوم لبوساً واعياً من خلال الغوص في ماهيته وفهم ميكانيزماته ودلالاته بحسب السياق الفكري الذي وُجِدَ فيه. من ثم، فإنّ المُترجم يكون قد حرّر المفهوم من تاريخه داخل أنساق ثقافية ومنحه حياة ثانية داخل ثقافة أخرى، وهذا الأمر، نُعاينه دوماً في ترجمات آيت العميم الذي صار مُتخصّصاً في ترجمة بورخيس ونقله إلى العربية بالكثير من الرصانة الإبداعية والمهنية أمام هول الترجمة التي جعلت عدداً من الباحثين يغادرون موطنها صوب أساليب وأشكال كتابية أخرى، وذلك مخافة أيّ جريمة قد تُرتكب في حق اللغة وثقافة الآخر. وأنجح الترجمات الأدبية هي تلك التي يمتهنها أدباء يعرفون جيداً قواعد الكتابة وصيغ الجمل وحياة المفردات والمفاهيم وشعرية الصور ووقعها في ذاتية القارئ.
تأتي أهمية الكتاب في كونه يُقدّم إلى القارئ خلاصات أشبه بحكم ونوادر عن مفهوم الترجمة وخصوصيتها وتشعبّاتها وأنواعها وأصنافها، كما يغلب على طوبوغرافية الكتاب النفس الشذري النيتشوي البارز منذ الصفحة الأولى، بحيث أنّ كارلوس باتيستا يلجأ إلى هذا النوع من الكتابة الأشبه بلعب نيتشه. فهو يلهو بالأفكار والتصوّرات ويمنحها زخماً شعرياً لا يستقرّ عند نقطة ضوء واحدة، بل يفتح مفهوم الترجمة على احتمالات عدّة، تبدأ بالتفكير والممارسة لتنتهي بالإبداعية. ويعمل على صياغة هذه الأفكار عن طريق قصص قصيرة وحوارات مُتخَيَّلة، كأنّ الكاتب يُحاول أن يقوم بثورة على مستوى الشكل وإخراج كتابه من النمط المعهود في الكتابة النقدية المُرتكزة على المقدمات والفصول والمحاور والأقسام والمباحث. إنه يتجنّب كل هذه الأشياء المهنية والأكاديمية، ويستقرّ عند شلال حكي ينساب هادئاً بين ضلوع اللغة ومساربها وتخومها اللامفكّر فيها، مُكسّراً بديهيات عدّة، كوّناها مُسبقاً عن مفهوم الترجمة وعوالمه داخل العالم العربي.