قد تبدو أزمة المناخ وجائحة فيروس كورونا اليوم مسألتين مرتبتطين حصراً بزمننا الراهن. بيد أن بعض المجتمعات القديمة، قبل 1500 سنة خلت، بحسب ما توصّل إليه باحثون، ربّما واجه مسائل مماثلة. إذ إن أزمة المناخ وجائحة وباء رئيسة في ذلك الوقت، قد تكونان، على ما يقترح علماء آثار قاموا بأبحاثهم في الشرق الأوسط، وراء ظاهرة "ركود اقتصادي كبيرة" حلّت في مطلع حقبة الإمبراطورية البيزنطيّة في منتصف القرن السادس الميلادي. وقال فريق علماء آثار إسرائيليين، يرصدون مسار صعود وهبوط صناعة النبيذ، إن مبيعات النبيذ التجارية شهدت تراجعاً وانكماشاً خلال سنوات تلت انتشار الطاعون وموجة صقيع عالمية تسبب بها آنذاك ثوران بركاني هائل.
وسادت الموجة الأولى من الجائحة، التي أطلق عليها في ما بعد "الموت الأسود"، في أنحاء الإمبراطوية البيزنطية وخارجها. وعُرفت الجائحة لاحقاً باسم "طاعون جوستنيان" إثر إصابة الإمبراطور جوستنيان بذاك المرض القاتل ونجاته منه. وكان الطاعون اقترن شي حقبة القرون الوسطى الأوروبيّة حين مات بسببه ملايين البشر، بيد أن موجاته الأولى التي سبقت تسببت أيضاً بمقدار كبير من الموت ونجم عنها عدد من الأزمات الاجتماعيّة والاقتصادية. وفي وقت زامن المرحلة الأسوأ من طاعون جوستنيان كان الكوكب قد وقع في قبضة عقد السنوات الأبرد الذي شهده العالم في الألفي سنة الأخيرة. ومن المعروف أن ثوران بركاني كارثي حدث في أواخر عام 535 أو مطلع عام 536 ميلاديّة. وموقع ذاك الثوران البركاني ما زال غير معروف تماماًـ لكن عمليات دراسة حلقات الأشجار وتحليل عيّنات الجليد الجوفيّة ورواسب الكبريت الجيولوجيّة تثبت جميعها حصول موجة الصقيع القصيرة تلك، التي لفّت العالم.
وتناول المؤرّخ البيزنطي بروكوبيوس ذاك التحوّل المناخي الدراماتيكي في عام 536 ميلاديّة ضمن تقريره عن الحرب مع قبائل الوندال. وكتب بروكوبيوس في تقريره قائلاً: "خلال هذا العام حلّ النذير الأشد رهبة. فخبا نور الشمس... وذاك بدا أشبه بالكسوف، إذ لفّ الشحوب شعاعات ضوئها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعلى الرغم من الدليل الذي يشير إلى الثوران البركاني وموجة الطاعون الدبلي الأولى المبكرة، إلّا أن الباحثين ما زالوا غير متّفقين على حجم ومقدار الاضطراب الاجتماعي والاقتصادي الذي حلّ بفعلهما. ويقول علماء الآثار الإسرائيليون في هذا الإطار إن "هذه المناقشة العلمية ليست مفاجئة، إذ حتى اليوم ما زال قادة العالم وصناع سياساته مختلفين حول مدى فداحة كوفيد 19 والسبل المناسبة لمواجهته، هذا من دون أن نذكر خلافهم حول التغير المناخي". وتابع علماء الآثار قائلين إن "مرد الالتباس عندما يتعلق الأمر بالجائحات القديمة، يتمثّل بميل التقارير والمدوّنات التاريخيّة إلى المبالغة، أو إلى عدم الاهتمام كثيراً بالخسائر البشريّة، فيما يصعب جدّاً في المقابل العثور على أدلة أثرية تظهر العواقب الاجتماعية والاقتصاديّة".
وقد جاء البحث الجديد الذي حققه علماء آثار إسرائيليّين متركّزاً على تاريخ صناعة النبيذ في منطقة صحراء النقب القاحلة في وسط إسرائيل، حيث سعى الباحثون إلى تحديد زمن وسبب اضمحلال المناطق الزراعيّة في مرتفعات النقب. وكانت الزراعة في تلك المنطقة ممكنة بفضل شبكة الري من مياه الأمطار التي بلغت ذروتها خلال الحقبة البيزنطيّة، على ما يظهر في مواقع مثل موقع إلوسا، الذي اشتهر في القرن الخامس الميلادي بنتاج النبيذ، كما في الموقعين القديمين الآخرين، شيفتا (شبطا) ونيسانا.
بيد أنه وعلى الرغم من العديد من السمات والملامح المعمارية الباقية والمُحافظ عليها في المواقع القديمة بالنقب، فقد اكتشفت الفرق البحثية العاملة اليوم أدلة أكثر إقناعاً تشير إلى الحياة هناك في تلك الحقبة، وذلك انطلاقاً من دراسة وتحليل أمكنة غير متوقّعة أبداً: مكبّات القمامة والفضلات. إذ إن "فضلات المرء تقول الكثير عنه"، كما يقول البروفيسور غاي بار- أوز من جامعة حيفا. ويضيف بار- أوز قائلًا إن "مكبات القمامة القديمة بالنقب تحوي آثاراً من حياة السكان اليومية، وذاك يأتي على شكل بقايا نباتية وحيوانية وكسور وقطع خزفيّة وغيرها من الأشياء والآثار". وفي هذا السياق يشير بار- أوز إلى مسار البحث المحقّق قائلاً "قمنا بالتنقيب في هذه المكبّات كي نكشف الأنشطة الإنسانيّة الكامنة خلف الفضلات، وكي نتطلع على ما تضمنته تلك الأنشطة، ونحدّد زمن ازدهارها وأفولها. وتمثّل أحد المكتشفات الأساسيّة ببذور العنب. كما تمثّل بعضها الآخر بالجرار الفخارية – تلك الأوعية الخزفية المدبّبة القيعان التي استخدمت لتصدير النبيذ وغيره من السوائل. وقد جرى في سياق الدراسة الراهنة استخلاص وفرز ما يقارب 10 آلاف حبّة من بذور العنب والقمح والشعير من 11 مكب فضلات في ثلاثة مواقع أثريّة قديمة. وفي هذا السياق قال بروفيسور علم الآثار، إيهود وايس، إن "التعرف على بذور الفواكه وبقاياها هو من القدرات الفريدة التي يتمتّع بها مختبرنا". وتستند تلك المقدرة الفريدة، بحسب البروفيسور وايس إلى "المجموعة المرجعية الوطنية الإسرائيلية من بذور النباتات والفواكه" التي يحتفظ بها مختبرنا، وأيضاً إلى سنوات من الخبرة في استخلاص بقايا النباتات ومعالجتها وتحليلها إثر استخراجها من مواقع تعود إلى مختلف حقبات الآثار الإسرائيليّة".
ويأتي أوّل المظاهر الذي توقّف الباحثون أمامه متمثّلاً بالمقدار الكبير من بذور العنب المكتشفة في مكبّات الفضلات القديمة. وهذا الأمر يتماشى تماماً مع الفرضية التي سبق وتوصّل إليها الباحثون والقائلة إن منطقة النقب كانت ناشطة في صناعة النبيذ المخصص للتصدير.
ومن المعروف في هذا السياق أن النصوص البيزنطيّة تشيد بـ "النبيذ الغزاوي" Vinum Gazetum الأبيض، ذات المذاق اللطيف، والمُصدّر من مرفأ غزة عبر البحر الأبيض المتوسّط وما بعده. وكان ذاك النبيذ عموماً يُصدّر معبّأً في نمط جرار يعرف بـ"الجرار الغزاوية"، أو "جرار النبيذ الغزاوي"، وهي جرار اكتشفت في مواقع مختلفة حول البحر الأبيض المتوسّط. وقد جرى هنا أيضاً، في مكبّات الفضلات القديمة في النقب، اكتشاف أعداد كبيرة من تلك الجرار الغزاوية. وفي هذا الصدد يقول دانييل فاكس، الذي يُعدّ دراسة دكتوراه في دائرة مارتن (سوز) في قسم الدراسات الإسرائيليّة والآثارية في جامعة بار- إلان، وهو الباحث الذي ترأس الدراسة، إنه "عليك أن تتخيّل بأنك فلاح قديم لديه أرض زراعية يُطعم عائلته من محصولها. وفي معظم مساحة تلك الأرض تقوم بزراعة الحبوب، مثل القمح والشعير، لأن ذلك يمنحك الخبز. وفي القسم الأصغر من أرضك تقوم بزراعة الكرمة وغيرها من المحاصيل مثل الخضراوات والبقول وأشجار الفواكه، وذلك لاستهلاك عائلتك. لكن، وفي يوم من الأيام، تكتشف أنه بوسعك بيع النبيذ الفاخر الذي تنتجه، للتصدير، وتحصل على مقدار جيد من المال النقدي لشراء الخبز وبعض الأشياء الأخرى. وشيئاً فشيئاً تقوم بتوسعة حقل كرمتك وتنتقل من الزراعة المعيشيّة المحدودة إلى الزراعة التجارية لصناعة النبيذ. وإن قمنا باستقصاء فضلاتك وفرز البذور منها وإحصائها، فسنكتشف ارتفاعاً في مقدار بذور العنب مقارنة بالحبوب الأخرى، كحبوب الحنطة والشعير. وهذا تماماً ما اكتشفناه: ارتفاع ملحوظ في نسبة بذور العنب مقارنة بالحبوب الغذائيّة الأخرى بين القرن الرابع للميلاد ومنتصف القرن السادس الميلادي. ثم فجأة يعود مقدار بذور العنب تلك إلى الهبوط".
وانطلاقاً من هنا، وبمشاركة الدكتور تالي إريكسون- جيني، الخبير في خزفيات النقب التاريخيّة، قام فريق البحث بالتدقيق بمعدلات "الجرار الغزاوية" المكتشفة في مكبّات الفضلات التاريخية القديمة، فوجدوا أن تصاعد معدّلات تلك الجرار وانخفاضها يتماشيان مع زيادة مقادير بذور العنب وانخفاضها. وقد استنتج الباحثون بفضل ذلك أن المستوى التجاري لصناعة النبيذ في منطقة النقب، والذي يستدل عليه من نسب بذور العنب، كان مرتبطاً بالحركة التجارية في منطقة البحر المتوسّط التي تشهد عليها معدّلات "الجرار الغزاوية".
ومن جهة أخرى تقوم الدراسة أيضاً بالنظر إلى واقعة الثوران البركاني التاريخية، والتي يعتقد أنّها تسببت بمظاهر قحط في أوروبا. فرأى الباحثون أن الثوران البركاني ذاك قد يكون ساهم في زيادة هطول الأمطار، وأيضاً في وقوع فيضانات خاطفة ومكثّفة ضربت جنوب بلاد المشرق وأضرّت بمظاهر الزراعة المحليّة. وفي هذا السياق قال البروفيسور بار- أوز إنّ "المنطقة الزراعية في مرتفعات النقب تلقّت جراء ذلك، على ما يبدو، نكسة لم تتعافَ منها إلّا في الأزمنة الحديثة. وبشكل ملحوظ فقد جاء ذلك التراجع الزراعي في النقب قبل نحو قرن من الفتح الإسلامي في منتصف القرن السابع". وأشار الباحثون في هذا الإطار إلى أن اثنين من أكثر مسبّبات ذاك الانهيار على الأرجح في منتصف القرن السادس الميلادي، يتمثلان بثنائي التغير المناخي والطاعون، وذاك أمر يكشف في الحقيقة نقاط ضعف موروثة بين الأمس واليوم في النظامين السياسي والاقتصادي. أمّا الفارق بين ذاك الماضي وحاضرنا الراهن، بحسب الباحث دانييل فاكس، فيتمثّل بأن "البيزنطيين آنذاك لم يتوقعوا حصول الكارثة". ويتابع فاكس حديثه في النهاية قائلاً "يمكننا في الواقع أن نستعد للجائحة التالية أو لعواقب التغير المناخي المحدقة. بيد أن السؤال هنا يبقى: هل سنتحلى بالحكمة الكافية لإعداد العدة؟"
نشر البحث الذي يتناول اكتشافات علماء الآثار بالنقب في "محاضر الأكاديميّة الوطنيّة للعلوم"
Proceedings of the National Academy of Sciences (PNAS)
© The Independent