كما جرت العادة منذ أربعين عاماً، عند الحاجة سارة، فإنّها تمضي "أيّام الموسم"، كما تُطلق عليها، تحت شجرة العنب التي غرستها بيدها وهي في السابعة من عمرها، عندما كانت ترافق والدها الذي يعمل مزارعاً كمهنة متوارثة عن جدّه. لكنّ، هذه العائلة خصّصت المشاع الذي تملكه لزراعة "شهد فلسطين" فحسب.
مع بداية شهر يونيو (حزيران) من كلّ عام، تنقُل سارة مكان سكنها وسط قطاع غزّة، إلى شجرة العنب، لتصبح بيتنها الأول، تمضي في ظلالها نحو أربعة أشهر، تعتني بها، وتقطف ثمارها، وتأكل منها، وتبيعها. لكن، منذ ثلاثة أعوام، بدأت العادة لديها تتغيّر، إذ أصبحت تصطحب معها أحفادها السبعة، وتوكل لكلّ منهم مهمّة معينة، تقول بلهجتها العامية "ضروري أعلم صغاري رعاية العنب، كتراث وميراث لفلسطين".
أنواع العنب
يبدأ موسم العنب في غزّة منتصف شهر مايو (أيّار) ويستمر حتى نهاية سبتمبر (أيلول)، بينما يبدأ الموسم في الضفة الغربية من أغسطس (آب) ويستمر حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني). وجود فجوة زمنية بين المنطقتين في نضج الثمار، يشجّع عجلة تبادل المحصول.
لدى الحاجة سارة، زبائن من مختلف مدن فلسطين، يطلبون منها أصنافاً عدة من العنب. فالأرض التي تملكها تزرع فيها أكثر من 13 صنفاً من العنب، بقوّة عضلاتها المتآكلة، ومساندة العكاز الخشبي القديم، تمكنت من الوقوف لتتجول مع "اندبندنت عربية" في أرضها.
تحت ظلال العنب، بدأت الرحلة مع الحاجة سارة "العنب نوعان، الأوّل البذري، وهو الأكثر انتشاراً في غزّة، ومرغوب في كلّ دول العالم، من أصنافه المزروعة في فلسطين، القريشي والدابوقي والحلواني واللبناني والبيروتي". تمشي ببطءٍ شديد، وتمسك بيدها الضعيفة كلّ نوعٍ ذكرته.
كمية المحصول
وتفيد وزارة الزراعة "اندبندنت عربية" بأنّ نحو 6600 دونم مزروع عنباً في قطاع غزّة، منهم نحو 6100 مثمر، وتصل القيمة الإنتاجية للإجمالي بنحو 7500 طن لهذا العام.
العنب البذري وحده، يُزرع في غزّة على مساحة 5600 دونم، منها نحو 5200 منتج، بإجمالي 6200 طن لمختلف أصناف العنب البذري. ترجع الحاجة سارة الاهتمام بزراعة هذا الصنف لجودته، وسرعة نموه، وعدم حاجته إلى المياه، وكثرة الطلب عليه، سواء في الأسواق المحلية أو الخارجية.
لم تقوَ السبعينية على استكمال التجوّل في أرضها، فطلبت من حفيدها، أن يجلب من النوع الثاني اللابذري، من كلّ شجرةٍ قطف، لحظات وكانت خصال العنب في وعاءٍ كبير، وبدأت الحاجة تعدّد، هذا النوع يسمى "القيمل"، وهذا يطلق عليه "125"، أما هذه الخصلة "السلطنينا"، وذلك "قريمسون".
من العنب اللابذري يُزرع في غزّة ألف دونم فقط، 900 منها مثمر، بإنتاجية تصل إلى 1300 طن خلال الموسم. مدير دائرة البستنة في وزارة الزراعة فضل الجدبة يرجع السبب في قلة هذا النوع، لحاجته إلى نوع تربة مختلف، ويحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، ورعاية شديدة.
خسارة رغم الاهتمام
كما الحاجة سارة، فإنّ كلّ مزارعي فلسطين، يولون العنب أهمية كبيرة، فيعتبرونه محصولاً استراتيجياً وذا مردود اقتصادي جيد، لكن هذا العام بالإضافة إلى الأعوام العشرة الأخيرة. وهذه المعادلة بدأت تتغير، فتسجل الخسارة في موسم العنب على مدار الأعوام الماضية بنحو 30 في المئة، في قطاع غزّة، ومثلها في الضفة الغربية.
ففي غزّة، فإنّ معدل استهلاك الفرد من العنب في الموسم يصل إلى خمسة كيلوغرامات. ويقارب سعر الكيلو نحو دولارين. أمّا في الضفة الغربية، فلا يزيد استهلاك الفرد على 1.2 كيلوغرام. ويصل سعر الكيلو إلى دولار ونصف.
يتوقع الجدبة أنّ الكمية الإجمالية لمحصول العنب لا تكفي للسوق المحلية، وأنّ العجز لهذا العام في أسواق غزّة سيصل إلى نحو 2000 طن، وأنّهم سيضطرون إلى الاستيراد من الضفة الغربية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الواقع، الجدبة لا يعرف أنّ الضفة الغربية التي تزرع نحو 55 ألف دونم بالعنب، بقيمة إنتاجية لهذا العام قرابة 45 ألف طن، فيها خسارة تقدر بنحو 30 في المئة. وتنوي الأخرى الاستيراد من غزّة لسد العجز، وفقاً لرئيس مجلس العنب الفلسطيني فتحي أبو عياش.
وكلا الطرفين (قطاع غزّة والضفة الغربية) لا يستورد العنب من إسرائيل، وفقاً للوائح الداخلية في وزارة الزراعة، التي تجرّم ذلك، لأنّه يؤثر في المنتج المحلي، ويضعف بيعه، وفي الوقت نفسه لا يسد قيمة العجز في كمية المحصول المطلوب للسوق الفلسطينية.
أسباب الخسارة
وأسباب الخسارة التي مُنِيَ بها العنب في غزّة، هي ارتفاع درجات الحرارة التي حرقت الأغصان والثمار في مراحل النمو الأولى، وارتفاع سعر المبيدات الفطرية والأسمدة، فواجه بعض المزارعين مشكلة في شرائها، في ظل الوضع الاقتصادي السيء في غزة. وهو ما انعكس سلباً على المزارعين. إضافة إلى الزحف العمراني الذي قلّص مساحة الأراضي.
أمّا في الضفة الغربية، فأسباب الخسارة هي ممارسات الجانب الإسرائيلي، الذي يعزّز بناء المستوطنات على الأراضي المزروعة بالعنب. وكذلك شق الطرق الالتفافية وسط مشاع العنب، ومن بين الأسباب تفتت الملكية.
تعود الحاجة سارة بذاكرتها، إلى السبعينيات. تقول "كنّا نصدر العنب إلى الأردن ولبنان وسوريا والكويت ومعظم دول الخليج. لكن، منذ التسعينيات، يحرمنا الإسرائيليون من التصدير بسبب المنع الأمني". تتنهد ثمّ تسأل "هل هناك منع أمني للفواكه؟".
مأكولات من العنب
بعيداً من مشاكل العنب وخسارته، فإنّ قطاع غزّة، ومدينة الخليل وبيت لحم، أكثر مناطق تزرع العنب في فلسطين، الخليل وحدها فيها أكثر من 27 ألف دونم مزروع بالعنب. ويتداول الناس عبارة "الشهد في عنب الخليل" لطعمه الطيب. يقول أبو عياش إنّ العنب الخليلي الأجود في العالم، بعد إجراء كثير من الفحوص عليه، لأنّه يعتمد على مياه الأمطار، ويحظى باهتمام كبير من المزارعين".
وتقوم الحاجة سارة بإدخال العنب في نحو 17 منتجاً، منها الدبس وراحة الحلقوم والزبيب والخل والمربى والعصائر، ومنها الزيت والسماق من بذوره. أمّا ورق الشجر، فيدخل في طبيخ المحاشي.