بعدما توصّلت حكومة أفريقيا الوسطى والمجموعات المسلحة إلى اتفاق سلام في الخرطوم في فبراير (شباط) 2019، كان يُتوقّع إنهاء الحرب الأهلية المشتعلة منذ 2013، لكن لم يتِح الاتفاق استعادة الاستقرار إلى البلاد التي وُصفت بـ"جمهورية التمرّد". ووسط هذه الأجواء، أعلن الرئيس السابق فرانسوا بوزيزيه ترشّحه للانتخابات المقرّرة في ديسمبر (كانون الأول) المقبل، على الرغم من فرض عقوبات دولية عليه بسبب ارتكابه جرائم ضد الإنسانية.
وتقف حكومة أفريقيا الوسطى أمام اختبار اتفاق السلام وعجزها عن بسط الأمن بسبب عاملين، داخلي هو عدم توقّف المواجهات ونشاط المجموعات المسلحة في مختلف أنحاء البلاد، ما خلق حالة من الفوضى وعدم الاستقرار. وخارجي بسبب صدام روسيا مع فرنسا التي لا تستطيع غضّ الطرف عَمّا يجري في أفريقيا، لا سيما في مناطق نفوذها، رغبةً في استعادة دورها التاريخي.
واجهة الأحداث
وتدهور الوضع بسرعة كبيرة في دولة أفريقيا الوسطى، ذلك البلد الذي يحمل من أفريقيا إضافةً إلى اسمها، أيضاً معاناتها من صراع الحركات المسلحة والمتمردة، ما أدخلها في دوامةٍ من العنف وصفتها الأمم المتحدة بأنّها "مأساة قد تؤدي إلى حرب إبادة متوقعة". وتضاف هذه الاضطرابات منذ استيلاء المتمردين على السلطة في مارس (آذار) 2013 إلى الوضع الناشئ لحالة انعدام الأمن وعدم الاستقرار التي تمسك بمفاصل الحياة السياسية في هذه الجمهورية المصنّفة كواحدة من الدول الأقل نمواً في العالم على الرغم من أنَّها تزخر بالموارد الهائلة من الذهب والألماس وتجارة الماشية، التي خلقت تنافساً دوليّاً وبيئة لتفاقم النزاع بين الجماعات المتصارعة.
وتعبِّر مشاهد العنف في أفريقيا الوسطى بصورة جلية عن غياب الأمن الذي ابتدأ منذ أن أطاح ائتلاف متمرّدي سيليكا بالرئيس السابق فرنسوا بوزيزيه في 24 مارس 2013، لتنصّب الحركة المتمردة زعيمها ميشيل جوتوديا بعد حلّ الحركة، رئيساً انتقالياً للبلاد في 18 أغسطس (آب) من العام ذاته، وحمل تحالف سيليكا الذي يضمّ فصائل متمردة، السلاح للمطالبة باحترام اتفاقات السلام الموقَّعة بين عامَيْ 2007 و2011 التي تنصّ على نزع السلاح وإعادة إدماج المتمردين في الجيش.
ولم تستقر هذه الجماعة في الحكم حتى ظهرت مجموعات أخرى مكوّنة من ميليشيات قروية للدفاع الذاتي، تضمّ مجموعة من المزارعين المسيحيين ملقَّبة باسم "أنتي بالاكا" أو "مناهضو السواطير". برزت هذه المجموعات من أتباع الرئيس بوزيزيه في سبتمبر (أيلول) من العام ذاته في شمال غربي أفريقيا الوسطى ردّاً على التجاوزات التي ارتكبها مسلحون من صفوف تحالف سيليكا المتمرّد، ولرغبتها في انتقال الحكم إلى رئيس مسيحي. وأدى هذا الصراع إلى نشأة نوع من الانقسام القومي والديني بين المسيحيين الذين يشكّلون غالبية السكان وهم حوالى 50 في المئة والمسلمين الذين يشكّلون 15 في المئة، وخرج من أوساطهم جوتوديا كأول رئيس مسلم للبلاد وأنصاره في تحالف سيليكا، الذي استقال من منصبه عام 2014 على إثر تواصل أعمال العنف الطائفي في البلاد وعجزه عن السيطرة على الوضع، ليقيم بعد ذلك في المنفى في بنين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ديمقراطية العنف
بعد أعمال عنف وحرب طائفية أدّت إلى لجوء أكثر من 470000 من مواطني أفريقيا الوسطى إلى دول الجوار ونزوح أكثر من 50000 داخليّاً، نُظّمت الانتخابات في 30 ديسمبر 2015 واستمرت إلى 14 فبراير 2016 وفاز فيها فاوستن أركانج تواديرا بما نسبته 63 في المئة، المدعوم من قِبل بعض المعارضة غير المسلمة، إضافةً إلى شرائح كبيرة من المسلمين.
وتجدّدت معاناة أفريقيا الوسطى، فبعد إعادة تشكيل الحكومة، بسط متمردو سيليكا تحت اسم "الجبهة الشعبية لنهضة أفريقيا الوسطى" سيطرتهم على شمال البلاد، وهذا الوضع هو تطور طبيعي للنزاع الجيوسياسي على منطقة تزخر بالثروات الطبيعية حتى استطاعوا تكوين دولة داخل الدولة. وعلى إثره، خرجت الأزمة هناك عن السيطرة على الرغم من مسارعة الوساطة الدولية والأمم المتحدة والمنظمات الإقليمية إلى تحرّك حاسم. ومنذ بداية العنف الذي أغرق البلاد في فوضى أمنية، تبنّى مجلس الأمن الدولي مشروع قرار قدمته فرنسا، يسمح باللجوء إلى القوة، بعد أن تجاوزت الأزمة مداها وبعد أن عدّلت باريس تبنّيها لتطبيق خيار الحلّ السياسي أولاً. ولكن بعثة الأمم المتحدة المتكاملة متعدّدة الأوجه لبسط الاستقرار في أفريقيا الوسطى (مينوسكا) المكلّفة بمهمة حماية المدنيين، لم تستطع حتى حماية نفسها، إذ ظلّت تتعرّض للهجوم بين الحين والآخر منذ أن سمح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بنشرها عام 2014.
موقف فرنسا
وما زال الرئيس فاوستن أركانج تواديرا يحكم البلاد بالدعم الفرنسي الكامل دون أن يستطيع إنهاء الصراع المسلح ونزع الأسلحة من أيدي الميليشيات والجماعات المختلفة التي تقوم بأعمال عنف عسكرية ضد المدنيين.
واقع الحال هذا لا يضع دولة أفريقيا الوسطى وحدها وإنما يضع الدول الأفريقية أيضاً أمام مبدأ الحلول الأفريقية لمشكلات أفريقيا، وهو تساؤل يتداعى أمام الحلول الدولية بقيادة فرنسا، المدعومة بأحقّيتها التاريخية في مستعمرتها السابقة، وأمام مقدرة الدول الأفريقية في السيطرة على دائرة العنف بين الأقلية المسلمة والغالبية المسيحية.
وكانت رغبة الرئيس الفرنسي السابق فرانسوا هولاند التي أعلنها في دكار في أكتوبر (تشرين الأول) 2012 ومفادها بأنّ "مستقبل أفريقيا سيُبنى عبر تعزيز قدرة الأفارقة على أن يديروا بأنفسهم الأزمات الأفريقية"، هي سيدة الموقف، ففي 27 ديسمبر 2012، رفض هولاند التدخل العسكري الفرنسي في أزمة أفريقيا الوسطى، معتبراً أنّ زمن التدخل العسكري قد ولّى، وكمحاولة منه لتجميل صورة بلاده وإنهاء دورها كشرطي في أفريقيا. واكتفت فرنسا وقتها بنشر قوة مكوّنة من 250 جندياً في مطار بانغي لحماية رعاياها وإجلائهم عند الحاجة، ولكن حدث تغيير دراماتيكي في موقف فرنسا لعبت فيه الأحداث في الوطن العربي وأفريقيا نفسها دوراً كبيراً.
ومن الصعب على فرنسا أن تغضّ الطرف عَمّا يجري في أفريقيا، خصوصاً في مناطق نفوذها التاريخي، فالرغبة في استعادة ذلك الدور دفعتها إلى ذلك، كما أنّها تسعى إلى أن تكون رقماً مهماً في مجال مكافحة الإرهاب، خصوصاً بعد تراجع مكانتها أوروبياً، أما بالنسبة إلى أفريقيا الوسطى، فإن جفن باريس لا يغمض من دون مخازن اليورانيوم والذهب والألماس الذي يُعدُّ أهم عائدات التصدير في الدولة، 54 في المئة.
وفرنسا التي حصلت على تفويض من مجلس الأمن الدولي للتدخل في أفريقيا الوسطى، نشرت حوالى 1200 جندي على أراضيها لينضموا إلى القوة الأفريقية المشتركة "ميسكا" المنتشرة بالفعل في البلاد بحوالى ستة آلاف عسكري، كما استعانت القوات الفرنسية بمساعدة لوجستية محدودة قدمتها بريطانيا في إعلان لوزارة الدفاع الإنجليزية، بينما جاء العون الأميركي في شكل مساعدة بلغت 40 مليون دولار لقوة الاتحاد الأفريقي في أفريقيا الوسطى.
مناطحة روسية
وزوّدت روسيا جمهورية أفريقيا الوسطى بالأسلحة والمدربين العسكريين لدعم الحكومة في تصدّيها للميليشيات المسلحة، وذلك بناء على سماح مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة منذ ديسمبر 2017 بتسليم أسلحة لأفريقيا الوسطى، وظلّت فرنسا تلمِّح إلى أن هذا النفوذ الروسي في مستعمرتها السابقة يشكِّل خطراً على مصالحها وعدم استقرار الدولة التي تمزّقها صراعات طائفية، بينما تستبطن الخوف من فقدان نفوذها هناك.
ولم تكتفِ أفريقيا الوسطى بتلقي المساعدات العسكرية من روسيا وإنَّما اتجهت إلى السيطرة على تجارة الألماس التي كانت تحت قبضة الميليشيات بعقد شراكة مع موسكو، وإضافةً إلى ذلك، استعانت أفريقيا الوسطى بالشركة الروسية العسكرية "فاغنر" كأولى الدول الأفريقية في استقبال هذه القوات لمواجهة التنظيمات المتطرفة في البلاد وتدريب الحرس الرئاسي، والتأمين الشخصي لرئيس البلاد، إلى جانب حماية مناجم الذهب والألماس مقابل نسبة مئوية من الأرباح.
وما لبث نشاط هذه الشركة أن تمدَّد ليشمل عدداً من الدول الأفريقية في إطار سعي روسيا لتعزيز نفوذها في أفريقيا، ويأتي الدفع بقوات "فاغنر" إلى أفريقيا ضمن حملة روسية ممنهجة بهدف كسب النفوذ وتعظيم المصالح الاقتصادية في القارة على نحو ما عرضته قمة سوتشي الروسية الأفريقية في أكتوبر 2019، ومناطحة فرنسا للنفاذ عبر أفريقيا الوسطى باعتبارها بوابتها التي تشكِّل حلقة وصل بين الشمال العربي المسلم والجنوب المسيحي.
وينطبق الوصف على جمهورية أفريقيا الوسطى بأنها "جمهورية التمرد"، وذلك لتاريخها الحافل في هذا المضمار حتى أصبح تقليداً من جانب القوات المسلحة تمثَّل في حركات تمرّد عسكرية عدّة خلال العقدين الماضيين. وكانت سمة التمرد من قِبل الحركات المسلحة ذات دوافع اقتصادية ومطالب مرتبطة بحقوقهم المهنية، ولكنها تحوّلت إلى حالة تمردٍ سياسي وصراعات طائفية أسهم فيها التدخل الدولي.