من الشاعرات اللبنانيات اللواتي يزددن اختماراً عبر الزمن، ويقدّمن نماذج ومناخات شعرية متميّزة، تضاف إلى التراث الشعري العربي المعاصر، ليندا نصّار (1987)، وآخر عمل لها بعنوان "الغرفة 23، وقصائد أخرى" ( دار خطوط –الأردن). وكانت صدرت لها أربع مجموعات شعرية: اعترافات مجنونة (2012)، إيقاعات متمرّدة (2014)، طيف بلا ظلّ (2016)، لأني في عزلة (2017).
وللشاعرة مساهمات في أدب الأطفال، من مثل: تكنولوجيا ولكن (2013)، وأمي صاحبة الكاراج (2013)، متسول ولكن (2015)، أغنّي بالعربية (2015)، ودراسة نقدية بعنوان "تحولات النقد الأدبي في الصحف العربية (2020)" صادرة عن دار خطوط.
تستهلّ الشاعرة كتابها بأقوال لأدونيس، وأحمد عبد المعطي حجازي، وهالينا يوسفياتوفسكا، وغيرهم، وتضيف إليها حافزاً من عندها للكتابة، تقول: "نكتب لنحيا من جديد، ونفجّر الغامض فينا، فنجعله وسيطاً بيننا وبين ما يمكنُ أن نكون عليه..." (ص:7). كأنّ الشاعرة تتقصّد الانخراط في سلكين من الكتابة في آن، في السلك الفكري الفلسفي الذي يعتبر الكتابة غير النفعية (سارتر) التي يكنّي بها عن الأدب، هي التعبير الحقيقي عن انتماء الكائن إلى طبقة أو جماعة، وفي سلك السوريالية التي تعتبر اللاوعي سبيلاً لازماً للتعبير الحرّ عن الذات، بحسب أندريه بروتون. وبناء على هذا، تكون الكتابة المتحصّلة من تفكّر الكائن في ذاته وتجربته، التعبير وفي التعبير عنهما بصورة لاواعية، هي السجلّ الحقيقيّ لهوية الكائن، ووجوده وحياته التي يحياها.
في القصيدة الأولى بعنوان "الشاعرة"، تحدد لنا نصّار السمات الكبرى لهذا الكائن المأزوم، وبعضاً من ملامح أزمته، والإطار المكانيّ الضيّق (الغرفة) حيث تتجلّى العلاقة الصراعية بينها وبين العالم: يسخرون من تسريحة شِعرها/ يقطفونه بالغيمات الصناعية/ لي القصيدة تحت/ كلّما تأخّر المطرُ/ تصَب وابلاً من الصّور/ المجنونة في الضاحية /نكاية في مَنْ يمجّد الحربَ"(ص:11)
فعل تحدّ
الشعر لدى الشاعرة نصّار، إلى كونه فعلَ تحدّ معنوياً لقارئ خصم، أو لذائقة مجتمعية لا تزال ترى إلى الشعر النابع من المخيّلة الفيّاضة، لا من الإرث المركون في أوعية جاهزة، ضرباً من الجنون. وهي، أي الشاعرة، أو الذات المراقبة كائناً هو ليندا نصار، لا تزال حاضرة لتدوّن لحظات وحدتها، وحزنها، وآونات علاقتها الصدامية مع "نرسيس" صديقها الوحيد الذي "يرمي بخاتمه السحري" فتردّه على عقبيه، وتروح ترقب الطقس الذي كان يمارسه في التودد إليها.
ولكنّ الشعر أكثر من ذلك، بمنظور الشاعرة؛ فهو الغوص عميقاً في الذات المأزومة، والنفاذ إلى صميم وجدان الذات، ومساءلتها عن حالاتها المتحوّلة وتلك الثابتة، واستخلاص مأساويّتها في إزاء الموت والوحدة وفراغ المعنى، كما تشير في غير موقع. ففي القصيدة "الغرفة 23"، الثانية من المجموعة الشعرية، ترفع الشاعرة النقاب عن ذاتها، وتتولّى النطق، في غنائية لافتة، عن هذه الذات لتوصيف كيانها الوجداني الذي بات نهباً للتعطيل، والتنويم، وتبلّد الحواسّ، سبيلها إلى ذلك "العين" وحدها. وتقول: "ماذا في أجزاء كفّي سوى مستقبل يصعد من ميتولوجيا العين،/ العينُ/ تحقق سعادتي/ كلّما رمشْتُ/ وُلدتْ عينٌ في عينيّ" (ص:14)
في ما يشبه عين الرؤيا التي يسمّيها جبران "العين الثالثة"، أو العين شريكة اليد في التعبير عن حزن الشاعر العارم لغياب المحبوبة، لدى بول إيلوار في كتابه "عاصمة الألم". وإذ ندرك أنّ ثمة سلكاً رابطاً ما بين العين والقلب، ربطاً مستداماً ولا انقطاع فيه، نعرف أنّ الشاعرة قصدت أن تلبث "العين" راصدة كلّ ما يتساقط من ظلامها، أوراق/ ورغباتٌ مستعاره"، وحارسة "لحظات غيري مع الرحيل". وكأنما وظيفة هذه العين المولودة في العينين، أن تلفت نظر الذات إلى ما يصنع مأساتها، على النقيض مما تبديه في الشواهد الواردة أعلاه ("العين تحقق سعادتي")، باعتبار أن المقول يحتاج إلى سياق القصيدة كلها لتنكشف دلالته.
عالم داخلي
وإذ يسأل القارئ عن لغة الشاعرة التي لم يتسنّ له معاينتها في مجموعات أولى لها، ليدرك التحوّل في أسلوبها، يتبيّن له أنّ ثمّة كثيراً من التبسيط الظاهر في معجم نصّار، ناجماً عن تنخّل دقيق للكلمات، وانتباه إلى دلالاتها، وانتقاء لتعابير يمكن أن تتقاطع مع تعابير لشعراء آخرين، ولكنّها لا تقع؛ فحقولها المعجمية محدودة على قدر عالمها الداخلي (الغرفة، الجدار، الشاشة، النافذة، الخ) المطلّ على عالمها الجوّاني (شوارع روحي، طابور الانتظار، ينام الظلام بقربي)، وأرقام ترمز بدورها إلى عمر المتكلّمة أو إلى غرفة اللقاء العابر مع أحدٍ ما في المكان.
لا تقدّم الشاعرة ليندا نصار تنازلات للقارئ في ما تصوغه من صور شعرية، وما تركّبه من أخلاط صادمة، بالمنظور السوريالي الإيجابي، الدالّ على رسوخ في درب الثورة الشعرية، على قول جوليا كريستيفا؛ فهي تصنع الصوّر الشعرية، والمشاهد، صنعة، من مثل هذه:"السماء المقلوبة في عينيّ / تتحسّسني بغيومها" أو: "يصرخُ في جرحها / عنكبوتٌ صغير" أو: "تراقص بحيرة خرساء من الانتظار".
ولا حاجة بنا إلى القول إنّ الغالبية العظمى من هذه الصور الاستعارات المكنية (التشخيصية) تقصد بها الشاعرة خلق انطباع داخلي لدى القارىء بوقوع الذات المعبّرة، أو كيان الشاعرة، في حال من التعطّل والتنويم والوحدة وتبلّد الحواسّ، على النحو الذي يظهّر غنائية مدروسة، بل موزّعة توزيعاً ذكياً لئلا تطغى على الأبعاد الفكرية الأنطولوجية الماثلة فيها.
هي غنائية وجدانية وفكرية، كما قلنا، يمكن للقارىء تبيّنها أيضاً في قصيدة "قفل لثياب غرفة شفافة" حيث تحاور فتاة نفسها، وثيابها، وصوتها، ورائحتها، وعطرها، ثم تسأل عن ذاك "العاشق المفترض" الذي يتوارى خلف كلّ ما سألت عنه واستفسرت عن نفاذه، لتكتشف آخر المطاف أن كلّ حواسّها، وأثوابها، وما عليها، باتت غريبة عنها، ومفارقة ذاتها. وقد يكون السبب في ذلك عائد إلى أنّ الكائن الشعري فيها قد تغيّر، وبات مفارقاً ذاتها الأولى الطبيعية، البريئة التي كانت ذات يوم، ولم تعد كذلك.
ولئن انتمت الشاعرة ليندا نصار إلى جيل من الشعراء والشاعرات اللبنانيين والعرب، في أواخر القرن العشرين، فإنها انخرطت في كتابة قصيدة النثر وفي يقينها أنّ الاستزادة المعرفية في شؤون الشعر بعامة وفي إشكاليات قصيدة النثر وصلاته الطبيعية بالشعر والشعرية بصورة خاصة، ثمّ التجريب في الكتابة والتنخيل والتقصّي في بناء العالم الشعري الفريد، وتكوين الحساسية الشعرية الخاصّة بالشاعر، هي الكفيلة بمنحها المكانة المستحقة والإقرار المأمول من مجتمع النقد، في حال كان منصفاً.
وبناء عليه، ندع الكتاب "غرفة 23، وقصائد أخرى" يقول خطابه الرصين والهادئ، عن ذات شعرية هي سليلة عالم متشظّ ومتفجّر، وإنسانّ تيّاه، وطبيعة مفارقة جوهرها الأول. أوَ يكون الشعر غريباً عن عالمه؟ ليندا نصّار تجيب عن السؤال، وتؤدّي المهمة على خير وجه.