سيُنقذ الشباب مُدننا؛ فكل من مشى في قلب لندن، أو فلنقُل وسط نيويورك، في الأيام الأخيرة، سيعي أنها بلدة أشباح؛ فالمباني المكتبية اللامعة فارغة تقريباً، باستثناء البوَّابين عند مكاتب الاستقبال. والمقاهي التي كانت يوماً صاخبة، مُغلقة. والشوارع فارغة. والحياة معدومة.
نعرف جميعاً أن بعض مظاهر الحياة ستعود حين تفتح المكاتب أبوابها من جديد، لكن ما هو مقدار هذا البعض؟ ومتى نراه؟ الوضع مُخيف من منظورين؛ اقتصادي واجتماعي. فكِّروا ماذا سيحصل لبلدات كانت يوماً تضج بصخب التصنيع، حين يقفل صاحب العمل الرئيسي أبواب متجره أو مصنعه، فتقفز معدلات البطالة، ويرحل الشباب الطامحون عن بلداتهم. إن البلدات تموت، ويشكل ذلك مصدر تعاسة للجميع، ويجب بذل الجهود على مدى سنوات لمقاومة الحرمان الاجتماعي الذي يُرافق الخسارة.
لكن الوضع لم يبدُ كذلك في إيزلينغتون بشمال لندن ليل السبت الماضي. فالمكان كان يغصُّ بالشباب الذين فاضت بهم الشوارع والحانات، وبدا الإغلاق وكأنه لم يحصل قط. لقد عادت الحياة. وكان السبب وراء ذلك وجيهاً جداً بالطبع. لقد فاز نادي أرسنال بكأس الاتحاد الإنجليزي لكرة القدم. فبعد سنتين صعبتين، بات أرسنال في القمة، ووصوله إليها يستحق الاحتفال في نظر كثيرين، لكن أهمية حي إيزلينغتون (في شمال العاصمة) لا تقتصر على أنه مقر فريق كرة القدم الشهير؛ فهو يضم ثاني أكبر كُتلة من السكان الأكثر شباباً ضمن الأقسام الإدارية اللندنية، إذ يبلغ متوسط العمر بين قاطنيه 31.9 سنة، ما يجعله مقراً لواحدة من كُتل السكان الأصغر سناً في البلاد. وعاد إيزلينغتون خلال الأسابيع القليلة الماضية تدريجياً إلى الحياة، في تناقض واضح مع الحي المالي للمدينة الواقع على بُعد ميل (1.6 كيلو متر) إلى جنوبه، وذلك يُوحي بما سيحصل في المستقبل.
بالطبع، فإن أحد العوامل الأساسية التي ستحدد وتيرة الانتعاش الاقتصادي في المُدن يتمثل في مدى استمرار الناس في التنقل إلى وظائفهم فيها. ولا نعرف بعد إذا كان عمل الناس من المنازل يؤدي حقاً إلى رفع الإنتاجية أو تخفيضها، أو إذا كان نموذج العمل من المنزل مُستداماً في الأجل البعيد، أو مدى تراجع جودة العمل وتردي الخدمة إن لم يلتقِ الناس في موقع مركزي. أشعرُ بأن القرب المادي أهم بكثير مما يعيه الناس، وأن الكثافة البشرية في المدن هي السبب وراء تفوقها أكثر بكثير على محيطها الريفي في مجال الإنتاجية، لكن سنرى إن كان هذا الشعور في محله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وبوسعنا أن نكون أكثر ثقة بسلامة الاعتقاد أن الشباب يختارون العيش في مراكز المدن ويحركون عجلة النمو الاقتصادي في الوقت نفسه. وقد يكون المثال العالمي الأفضل هو انتعاش برلين، التي وصفها في عام 2003 رئيس بلديتها كلاوس فوفيرايت وصفاً شهيراً مفاده بأنها "فقيرة، لكن مثيرة". فقد تدفق الفنانون الشباب إلى برلين الشرقية القديمة، مستغلين الإيجارات المنخفضة، وحولوها إلى بؤرة الإبداع الأولى في ألمانيا. ولم تعد اليوم فقيرة، بل إن الإيجارات المرتفعة للغاية استدعت فرض ضوابط على أسعارها. وفي لندن كانت الإيجارات المنخفضة هي ما مكَّن حي هاكني في شرق العاصمة من السير على خطى برلين نفسها تقريباً.
ثمَّة خلاصتان هنا. الأولى أن التكاليف الأدنى تُولِّد فرصاً لأنشطة ما كانت لتزدهر لولاها. وقد أصبحت لندن مكاناً غالياً في شكل استثنائي للراغبين في العمل من المدينة. وإذا انخفضت الإيجارات التجارية، كما هو مرجح في ضوء انتقال بعض المكاتب إلى أماكن أخرى، يمكن عندها أن تزدهر أنشطة كانت فرصتها بالحياة معدومة لولا هبوط الإيجارات.
والخلاصة الثانية، هي أنه على الرغم من أننا لا نستطيع حالياً التكهُّن بطبيعة هذه الأنشطة فإن الشباب هم من سيخلقها. فما من أحد توقع حصول ازدهار في التكنولوجيا المالية قبل 10 سنوات، لكن تُعَدُّ لندن اليوم العاصمة العالمية في هذا المجال. وتتخذ التكنولوجيا المالية من شمال المدينة مقراً لها، قرب أولد ستريت، في قسم إيزلينغتون الإداري. ولم يحصل ذلك وفق خطة معينة، فإيجارات المنطقة كانت ببساطة منخفضة وهي ملاصقة للمركز المالي التقليدي الأعلى تكلفة، وكان رُوَّادها أشخاصاً يبلغون العشرينيات وأوائل الثلاثينيات من العُمر.
بالطبع، لا يتعلق الأمر فقط بجزء داخلي بعينه لمدينة ما يجتذب اهتماماً يفوق حصته العادلة، ويكون هدفاً لكثير من النكات، المبررة عموماً. فالأمر يتصل بالشباب وبالانتعاش.
لا نعرف الطبيعة الخاصة بوظائف المستقبل، لكننا نُدرك أن الشباب هم من سيخلقها. وإذا اختار هؤلاء العيش والعمل في أماكن مُتقاربة، كما أعتقدُ أنهم سيفعلون، فستزدهر هذه الأماكن. وإذا لم يعُد المُستأجرون الحاليون بحاجة إلى مكاتبهم اللامعة هذه، ستُصبح المساحات مفيدة لشيء آخر. فالوظائف ستختلف، لكن الصخب سيكون نفسه.
© The Independent