منذ أن بدأت تتضح بوصلة حراك رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بات تركيزه على قضايا الاقتصاد جلياً، حيث يضع نصب عينيه أربع ملفات رئيسية وهي: ضبط المنافذ الحدودية ومحاربة الفساد وتفكيك نفوذ الفصائل المسلحة على المنافذ المالية وتدعيم الصناعة المحلية.
لكن الطريق نحو تلك الملفات يمر بالضرورة من بوابة البنك المركزي وتحديداً، ما يُسمى مزاد العملة، لذلك سيكون الكاظمي بحاجة إلى مساعدة محافظ "المركزي" علي العلاق.
وتقول مصادر مطلّعة أن الرجلين (الكاظمي والعلاق) يحظيان بعلاقة "متميزة" الأمر الذي قد يسهل حسم تلك القضايا.
لكن بوادر إحراز تقدم في هذا الملف، لم تتضح حتى الآن، مع حديث أعضاء في اللجنة المالية في البرلمان العراقي عن "استغلال" البنك المركزي لصلاحياته بوصفه "هيئة مستقلة" في عدم التعاطي مع الإشكالات التي تقوم السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية بإثارتها.
وتتمحور الفكرة الأساسية لمزاد العملة حول "بيع الدولار إلى المصارف الأهلية وشركات التحويل المالي لإدارة عملية استيراد البضائع" وتصل مبيعاته من الدولار يومياً إلى حدود 180 مليون دولار، لكن شبهات عدة تطال شخصيات سياسية نافذة بالوقوف وراء تلك المصارف لإدارة عمليات فساد.
وكانت وزارة الخزانة قد أدرجت مصارف عراقية - تتعامل مع المزاد - في لائحة العقوبات في أكثر من مناسبة.
وفيما يصف متخصصون بالاقتصاد مزاد العملة بأنه "واجهة استنزاف للدولار وفرصة لبعض المصارف التي تمتلكها جهات متنفذة لتحقيق أرباح كبيرة"، تتحدث غالبية التقديرات عن أكثر من 500 مليار دينار باعها البنك المركزي في عملياته اليومية المستمرة منذ عام 2003.
واشنطن وضبط مزاد العملة
وتبقى قضية مزاد العملة مثار تساؤلات وشبهات، خاصة مع أحاديث متكررة عن قدرة واشنطن على ضبط الحركات المالية للبنك المركزي العراقي برمّتها، حيث تمر جميع التحويلات العراقية الكبرى عبر البنك الفيدرالي الأميركي.
ويتهم مقربون من إيران محافظ البنك المركزي بأنه أحد حلفاء الولايات المتحدة، نظراً للاستجابة السريعة التي يبديها كلما صدرت قرارات أو عقوبات من وزارة الخزانة الأميركية، لا سيما تلك التي استهدفت زعماء فصائل مسلحة على صلة بإيران.
ويرفض مقربون من العلاق تلك "الادعاءات"، ويشددون على إن إحدى أكثر مهام البنك المركزي تعقيداً هي المحافظة على تدفق الدولار إلى السوق المحلي ومنع حدوث إشكالات قد تتسبب بفرض عقوبات على العراق في حال عدم الاستجابة.
لكن القضية لا تبدو مقتصرة على إدارة الخلاف بين واشنطن وطهران. ويتهم مراقبون كثر، البنك المركزي بإدارة "عملية توازن للفساد" بين الولايات المتحدة وحلفاء إيران في العراق. وما أوردته "نيويورك تايمز" في تقريرها الأخير، عن احتمالية "تواطؤ أميركي" في تسهيل عمل البنك المركزي، لم يكن حديثاً يُسمع للمرة الأولى في العراق.
تواجه الولايات المتحدة اتهامات بالتغاضي عن تدفق الأموال إلى إيران عبر العراق. ويقول تقرير الصحيفة الأميركية إن "وزارة الخزانة الأميركية غالباً ما تغض الطرف عن عمليات غسيل أموال تجري في العراق"، فيما يتهم التقرير صراحة، مسؤولين في البنك المركزي بالتواطؤ مع شركات توفر غطاءً لمشاركة إرهابيين في المزاد.
"واشنطن تخفف الضغط عن إيران عبر بغداد"
ويقول أستاذ الاقتصاد السياسي في الجامعة العراقية عبد الرحمن المشهداني، إن "كل العمليات المالية للعراق مراقبة من قبل الولايات المتحدة لكن هناك تغاضٍ واضح عنها"، مردفاً "العراق بات بوابة لتخفيف الضغط على إيران وهذا يجري بمباركة أميركية".
ويكشف عن "دخول مصارف غير عراقية على منفذ بيع العملة بينها مصارف لبنانية وإيرانية تحصل على حصص يومية تقدر بنحو 5 - 8 مليون دولار".
ويشير إلى أن "تعاملات العراق التجارية مع إيران لا تتم من خلال المنظومة المصرفية نظراً للعقوبات المفروضة عليها، وأغلب التعاملات تتم من خلال الدفع المباشر"، مبيناً أن "أدلة عدة على هذا من بينها الأرقام المضخمة جداً بما يخص استيراد الورود والطماطم والبطيخ بأسعار مبالغ بها تتجاوز حاجة العراق".
15 بالمئة نسبة غسيل الأموال في المزاد
وبشأن عمليات غسيل الأموال التي تشوب مبيعات مزاد العملة في البنك المركزي، يقدر المشهداني أن تكون حصيلة غسيل الأموال من المبيعات اليومية للبنك المركزي بنحو "15 بالمئة"، مبيناً أن "الحديث عن كون مزاد العملة بوابة للفساد وغسيل الأموال باتجاه الخارج يجري منذ عام 2010".
ويضيف "جهات سياسية نافذة تقف خلف المصارف التي تمتلك حصصاً من المزاد باتت أيضاً منافذ لتحويلات التجار ويشوب نسبة منها عمليات غسيل أموال".
ويشير إلى أنه "على الرغم من رمي البنك المركزي مسؤولية تلك العمليات المشبوهة على جهات أخرى لكنه لا يمكن أن يخرج من إطار المسؤولية"، مبيناً أن "عليه التدقيق بعد إثارة شبهات على مدى أعوام حول أن المزاد بات مساحة مفتوحة للفساد ومن المفترض استبعاد أي مصرف ترد عليه شبهات".
ويتابع، "أدلة عديدة على تقديم مصارف فواتير بأسماء شركات وهمية ويفترض أن تحال تلك الملفات إلى النزاهة، وهذا ما يثير التساؤلات عن عدم اتخاذ المركزي إجراءات صارمة".
منفذ لغسيل الأموال وتمويل جماعات مسلحة
وكانت المفوضية الأوروبية قد أدرجت العراق إلى جانب دول أخرى ضمن قائمة الدول التي تشكل مخاطر مالية على الاتحاد بسبب القصور في مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
وترتكز حساسية ملف مزاد العملة بكونه المنفذ الوحيد لإخراج العملة الصعبة من البلاد، حيث يعد مرتكزاً للأمن الاقتصادي، لكن الاتهامات ضد هذا المنفذ تجاوزت غسيل الأموال بدواعي التربح، إلى أنه صار واجهة عمليات مشبوهة أخرى تصل إلى حدود تمويل الجماعات المسلحة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتقول الخبيرة المختصة بالاقتصاد سلام سميسم إن "مزاد العملة بات واجهة لاستنزاف الدولار من العراق وفرصة تحقيق أرباح من مال فاسد لصالح جهات سياسية متنفذة تمتلك نفوذاً على مصارف محلية".
وتضيف "ضوابط نافذة العملة لا تتوفر فيها درجات الشفافية اللازمة لمتابعة حاجة البلد الفعلية للاستيراد، وهذا يثير تساؤلات كبيرة عن مصداقية فتح الاعتمادات المتعلقة بالاستيرادات من خلال وزارة التجارة، ولماذا لا تقوم الجهات الرقابية بتتبع تلك العمليات"، مردفة، "لا نعرف بالضبط ما هو دور دائرة غسيل الأموال في البنك المركزي في متابعة تلك القضايا".
وتشير سميسم إلى أن أحد أسباب الإشكالية يتلخص بأنه "لا يمكن استثناء القيادات المصرفية داخل البنك المركزي وغيرها من اعتبارات المحاصصة".
المركزي ينفي التهم
ونفى المدير العام لدائرة المحاسبة في البنك المركزي العراقي إحسان شمران، أن يكون للبنك صلة في أي عمليات مشبوهة أو إدارة تحويلات خارج الإطار العام لقوانينه، مبيناً أنه "بموجب قانون البنك المركزي فإن عملية بيع الدولار تتم من خلال ما يسمى البيع البسيط دون فرض أي تعقيدات ما دام الدينار سليماً"، وفق تعبيره.
وأضاف لـ"اندبندنت عربية": "المصارف التجارية تقدم طلب شراء الدولار لصالح زبائنها بموجب وثائق وإجازات استيراد تقدم لاحقاً، وبناء على ضوابط المصرف بالتحقق من سلامة الأموال بعدم وجود شبهات غسيل أموال أو تمويل إرهاب، يقوم البنك المركزي باستلام الدينار من المصرف وإيداع المبلغ بالدولار لصالحه لدى المصرف الخاص بالمصدّر"، مردفاً "بعد مدة يقدم المصرف التجاري تقريراً للبنك بعملية الاستيراد".
وفيما بيّن أن "الشبهات المتعلقة بعدم دخول بضائع مقابل المال المباع من البنك المركزي ترتبط بدوائر أخرى"، أشار إلى أنّ "وظيفة التقصي تعود إلى مؤسسات مهمة بينها السلطة الجمركية ووزارة التجارة التي تعطي إجازة الاستيراد والهيئة العامة للضرائب التي تمتلك مكتباً ضريبياً في الجمارك".
ولفت إلى أنّ "أهم تلاعب يحصل في المنافذ الحدودية، حيث يجبر بعض الموظفين الزبون على تقليل الكميات المستوردة المسجلة"، مبيناً أن هذه العملية تؤدي إلى "أن يحصل الفاسدون على نحو أربعة أضعاف ما تحصل عليه الدولة من خلال الرسم الجمركي"، معبراً عن أمله بأن "تقوم هيئة المنافذ بمراقبة وضبط المخالفات وعمليات تغيير هوية البضائع المستوردة".
مسؤولية "جهات قطاعية"
وتداولت تقارير رسمية وصحفية أرقاماً هائلة فيما يتعلق باستيراد العراق لسلع تتجاوز حدود حاجته، فيما تبين الوثائق الرسمية أن بعض تلك المواد المستوردة تضاعفت بحدود ألف مرة عما كان العراق يستورده في سنوات سابقة بينها استيراد طماطم من إيران عام 2017 بقيمة 1.66 مليار دولار.
وفي السياق يشير شمران إلى أن "البنك غير متخصص في تقدير احتياج العراق من المواد الواجب استيرادها، وهي مسؤولية الجهات القطاعية ووفقها يتعامل البنك"، مبيناً أن "الجهة التي تصدر إجازات الاستيراد هي التي تحدد مدى حاجة البلد للسلعة المطلوب استيرادها وليس للبنك المركزي مسؤولية عن تحديد احتياجات البلد ليربط ذلك بمبيعاته"، موضحاً أن "العراق يعاني غياب نظام معلومات وطني".
ولفت إلى أن العراق كان يربط أغلب الاستيرادات بموضوع "تقدير الحاجة للمستوردات"، وعلى ضوئها تصدر إجازة استيراد من وزارة التجارة وبناء على الإجازة يحوّل المركزي الأموال لكنها توقفت بعد عام 2003".
وتابع شمران، "عمليات التحويل في البنك المركزي صارمة جداً وتحت رقابة البنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي الذي يمتلك قواعد صارمة في تتبع الأموال، فضلاً عن مكتب مكافحة غسيل الأموال. وفرضنا على المصارف، تفعيل وحدات الإبلاغ عن عمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب"، مردفاً "قصص الفساد بالإمكان تصديقها لو كان البنك المركزي يحمل الأموال من جهته ويعطيها إلى التجار بشكل مباشر وليس من خلال هذه الشبكة المعقدة".
وعن أهمية نافذة بيع الدولار بيّن شمران أنها "تموّل احتياجات العراق من المستورد فضلاً عن تمويل احتياجات وزارة المالية من النقد العراقي".
وختم أن "الاتهامات الواردة على البنك من قبل نواب ومسؤولين تؤثر على الثقة في مؤسسات الدولة وإهدار سمعتها، وهذا يسيء إلى العراق ويبعد فرص الاستثمار الخارجية".
سلطة لا سلطان عليها
أما النائب عن اللجنة المالية في البرلمان العراقي أحمد حمه رشيد فيقول إن "أغلبية أعضاء اللجنة متفقون على أنّ حول مزاد العملة شبهات فساد كبيرة"، مبيناً أن ما يمنع اتخاذ إجراءات بهذا الشأن هو أن "السلطة النقدية مستقلة لا سلطان عليها".
ويتابع "تعهدات رئيس الوزراء بضبط المنافذ وتفكيك سلطة بعض الفصائل المالية وتفعيل الصناعة ومحاربة الفساد، ترتبط بشكل مباشر بقضية مزاد العملة"، لافتاً إلى أنها "أصبحت قضية رأي عام وأحد عوامل تحطيم الاقتصاد".
ويشير إلى أن "هناك تعتيماً حول هذه القضية، واستجابة البنك المركزي للتساؤلات حول مزاد العملة لا تتعدى حدود البيانات، والسلطة التشريعية غير كفوءة في هذا المجال".
ويختم أنه "لا توجد أدوات متوفرة لحل مشكلة المزاد إلا من خلال تعاون البنك المركزي، ولا يستطيع البرلمان أو مجلس الوزراء حلها نظراً لاستقلالية السلطة النقدية".
مزاد العملة و"مقتل" الجلبي
ويعود فتح باب الشبهات حول مزاد العملة إلى سنوات سابقة، حيث قدم رئيس اللجنة المالية في البرلمان العراقي الراحل أحمد الجلبي ملفات تتعلق بفساد في مزاد العملة عام 2015، وعلى إثره قام مجلس القضاء الأعلى بتشكيل هيئة تحقيقية قضائية، وقال بيان للمجلس في 10 نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، إنه قرر تشكيل هيئة تحقيقية قضائية للنظر في الوثائق المقدّمة من الجلبي، موضحاً أن "الوثائق تتعلق بقضايا غسل أموال وتهريب العملة الاجنبية المبتاعة من مزاد البنك المركزي العراقي".
وأوضح البيان أن "الهيئة التحقيقية متكونة من قضاة محكمة تحقيق النزاهة والجريمة الاقتصادية، وأن الادعاء العام سيمثل أمام الهيئة التحقيقية لإبداء طلباته والمتابعة، وسينفذ هذا القرار اعتبارا من يوم 10/11/2015".
وكانت هيئة النزاهة العراقية قد أصدرت بياناً في 11 ديسمبر (كانون الأول) عام 2019 يتحدث عن تفاصيل القضايا الجزائية المتعلقة بملف "مزاد العملة"، حيث قالت إن "من تلك القضايا حالات فساد كبرى في عمل أحد المصارف الأهلية ومؤشرات لحالات تهريب العملة الأجنبية خارج العراق؛ عبر قيام المصرف بشراء العملة الأجنبية لمصلحة شركات بزعم استيراد بضائع"، لافتة إلى أنه لدى التحري والتدقيق تبين أن "تلك الشركات لم تقم بإدخال بضائع للعراق منذ عام 2004".
وأوضحت الدائرة أن "القضايا شملت قيام بعض المصارف الحكومية والأهلية بالتزوير ودخول مزاد بيع العملة بأسماء شركات وأصحاب حسابات خاصة دون علمهم، وتقديم فواتير استيراد مزورة، فضلاً عن إقدامها على مخالفة تعليمات البنك المركزي عند الدخول في المزاد وفق أحكام المادة الـ 3 من قانون غسل الأموال رقم 93 لسنة 2004".
وقال السياسي العراقي ليث شبر في سلسلة تغريدات على "تويتر"، "وصلني البارحة من الصحافي الشهير، روبرت وورث، صاحب مقال العراق تحت حكم اللصوص الملف الكامل الذي أعده أحمد الجلبي حول فساد بيع العملة في البنك المركزي والذي انتهى بمقتله وغلق الملف نهائياً".
وأضاف "أمضيت ساعتين في قراءته وتوصلت إلى قناعة كاملة بأن الرأس الأول للفساد هو هذا المزاد المشبوه الخطير". وأوضح أن "ملف الفساد الذي وصلني عن مزاد العملة الذي يقيمه يومياً البنك المركزي مخيف وخطير وبسببه اغتيل الجلبي".
وأشار إلى أنه "مما لا شك فيه أن الملف موجود منذ سنوات في هيئة النزاهة والأسماء المذكورة في هذا الملف ما زالت تصول وتجول، بل ومنهم من أسس حزباً وأصبح نائباً بعد أن صرف الملايين أما الرؤوس فحدث ولا حرج".