لا يزال يتردد في ذاكرة اللبنانيين صدى انفجارات وقذائف وقصف، أما الصور فحدّث ولا حرج، بالأبيض والأسود والألوان يتوجها لون الدم.
كان الأهالي ينقلون أولادهم من ملجأ إلى آخر، إلى قرية أقل خطراً، يجنبونهم قدر الإمكان مشاهد القتل والدمار، ويقفلون آذانهم بأيديهم أو يرفعون صوت الموسيقى ليخففوا من وطأة الأصوات القوية.
لكن انفجار مرفأ بيروت منذ أيام، أعاد كل تلك الذكريات المتوارية في خلايا الجسد وتلافيف الدماغ.
لا ليس مفرقعات
وكما كل مرة حمل الأهالي أولادهم وخبأوهم في جلباب الاطمئنان المخادع، وحموهم بأجسادهم ولحمهم الحي، وهم يرتجفون خوفاً من خسارتهم والأذى الجسدي، والألم النفسي. بعض الأهالي أخبر الأولاد أنها مفرقعات قوية، أو بالونات أو هزة أرضية، بينما أخبرت فئة الأطفال الحقيقة، وهذا هو الصحيح.
إسعاف نفسي أولي للأولاد
نشر رئيس دائرة الطب النفسي في مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت فادي معلوف، إرشادات للتعاطي مع الأولاد في فيديو قصير، يختصر بوجوب مشاركة المعلومات مع الأطفال بطريقة تتكيف مع الفئة العمرية، لأن الأهل يجب أن يكونوا المصدر الموثوق لأولادهم، وسماع ما يقوله الأولاد والسماح لهم بالتعبير عما يختلج في نفوسهم، مع الحرص على الابتعاد عن استخدام عبارات عن البطولة وعدم الخوف واستبدالها بالتفهّم للحزن والخوف، وتقبل ومراقبة سلوك الأولاد التي تتراوح بين الإكثار من الكلام إلى الإنزواء، ومحاولة العودة إلى الروتين اليومي الذي يؤمن نوعاً من النمطية من اللعب والأكل.
كابوس الماضي
في المقابل، ترى المعالجة بالطاقة ميراي حمال أن أول رد فعل غرائزي أثناء الانفجار كان حماية ابنتها ياسمينا بجسدها، إذ ظنت أن زجاج بيتهم يتكسر بسبب قصف إسرائيلي.
ولاحقاً لم تسمح للطفلة بمشاهدة التلفزيون لأنها لم ترد لها أن ترى مشاهد الحرب العالقة في رأسها والقصص التي سمعتها ولا تزال في رأسها، وبمجرد أن عرفت ماذا يجري أطفأت الشاشة.
أخبرت ميراي ابنتها التي عانت من آلام في أذنيها أن الصوت كان لانفجار كبير حصل، وثمة أناس جرحوا والإسعاف تنقلهم إلى المستشفى.
لكنها حافظت لها على روتين الأكل والنوم في وقت محدد. بعدها شاهدت ميراي الأخبار، مبتلعة مشاعرها التي بدأت تطفو بعد منتصف الليل على شكل تشنج في الرقبة وألم شديد في الرأس والأذنين.
في اليوم الثاني، قررت ميراي أنها لن تسمح بتكرار "ما حصل معنا في الحرب"، حين كان أهلها يخفون ما يجري، ويلهونهم لظنهم أنهم يجنبون أولادهم الخوف "لكننا كنا نشعر بخوفهم وخوفنا بقي داخلنا، كبرنا متضررين نفسياً وبحاجة للشفاء، ولم نعد نتحدث عن الحرب من الجانب النفسي لذا نجد الكثير من الناس يتناولون أدوية الأعصاب ولديهم أوجاع لا يعرفون مصدرها، وأمراض كثيرة بسبب الكبت وعدم إفراغ دواخلنا".
عملت ميراي منذ عام 2010 على شفاء ذاتها من آثار الحرب، وتحرص ألا تتكرر التجربة مع ابنتها.
وتقول في حديث لـ"اندبندنت عربية"، إن "هذا الانفجار جعلها تعي أنه ما زال يوجد الكثير في داخلها، لذا فهي تسمح لنفسها الآن بأن تبكي، وتدوّن مشاعرها".
أخبرت ميراي ابنتها في اليوم الثاني بعد سؤالها عن والدها الذي يعمل على مسح أضرار المعدات في المكتب، أنه بسبب الانفجار يذهب لإصلاح الأمور وإعادتها بشكل أفضل وأجمل. وعن الأهل الذين يطلبون رأيها كمعالجة بالطاقة، تطلب منهم إخراج ما في داخلهم وألا يخفوا على أولادهم ماذا يحدث، فالأولاد سمعوا الصوت في أقل تقدير "ولا نستطيع أن نقول لهم إنه لم يحدث شيء، لأننا نكذب عليهم ونكذّب إحساسهم".
ليست بطولة
من جهة ثانية، تنصح ميراي الأهل بالتحلي بالصبر والسماح لأولادهم بتكرار ما يقولون كما يشاؤون، لأنهم ما داموا يكررون فهم لم يستوعبوا بعد ماذا حدث، وتطمينهم بجمل مؤكدة أنهم بخير ومحميون.
أما بالنسبة إلى الأولاد في عمر 5 سنوات وما فوق الذين شاهدوا ما حدث، فتوضح المعالجة بالطاقة، أنه علينا أن ننهال عليهم بقسط وافر من الحب والأحضان ونجعلهم يرسمون يومياً، ونراقب أي ألوان يختارون، وكيف تتغير الرسمة كل يوم، لنفهم مشاعرهم من خلال الرسم. ونعطيهم معجوناً يفرغون فيه طاقتهم. قد يريدون البكاء أو يمتنعون عن الطعام أو يتبولون بشكل لا إرادي. قد يخافون من الأصوات أو يرفضون الجلوس في الغرفة التي كانوا فيها أثناء الانفجار، كل هذا طبيعي، "علينا تفهم ذلك وتطمينهم والصبر، أما الأهل غير القادرين فمن الأفضل أن يطلبوا المساعدة المهنية من معالجين".
وفي ذات الصدد، تضيف أنها ليست قضية قوة أو ضعف، إنها مشاعرنا التي يجب أن نسمح لها بالتعبير. ليس فقط للأطفال إنما أيضاً للرجال والنساء والأولاد والأطقم الطبية التي شاهدت الأهوال فهم يحتاجون وقتاً.
لم تعالج ميراي أحداً هذه الفترة لأنها تشعر أنها ليست بخير، "لكن معلمتي في هولندا مع فريق كبير يرسلون يومياً عند الثامنة مساء للبنان وكل من يحتاج، الطاقة والشفاء".
وتتابع "ما أقوله لنفسي أقوله للناس، لسنا مضطرين للعب دور البطولة الآن. وتقول يجب ألا يشعر الناجون بالذنب لأن غيرهم لم ينجوا، وألا نقسوا على أنفسنا الكل مدعو لدعم الآخر وإعطاء الحب".
وفي هذا الخصوص، توضح ميراي أن غالبية حالات الأولاد تتلخص بعدم النوم والطلب من أهاليهم ضمهم طوال الليل، أو الخوف من الأصوات. فالصغار أكثر تمسكاً بأهاليهم، وعلى الأهل منحهم الأمان، أما الأكبر سناً، فممكن أن يطلب منهم رسم القلوب وكتابة عبارات الامتنان لأنهم بخير.
العلاج باللعب
من جهة ثانية، تقول مها غزالي زعتري المتخصصة في اللعب العلاجي لمساعدة الأولاد لتخطي الصعوبات العاطفية والسلوكية، إن اللعب لغة الأولاد، ويشرحون من خلاله شعورهم، ليفهموا ويستوعبوا الأمور ويخرجوها من نظام حياتهم.
وتوضح أن التروما إذا لم تعالج تخزّن في الجسم والعقل، "وقد حملناها من أهلنا وتعرضنا لصدمات وأولادنا يتعرضون أيضاً للصدمات. ولأننا لم نعالج صدماتنا تراكم كل هذا القلق".
وتشير مها إلى أنه علينا استيعاب ما حدث معنا لنحاول تخطيه ونجعل أولادنا يتخطونه.
وفي ذات السياق، تقدم جلسات لعب علاجية للأولاد الذين تعرضوا للصدمة إثر انفجار مرفأ بيروت مجاناً، وهو علاج إبداعي تُستخدم فيه ألعاب ومعدات ورمل ودمى ورسم وغيرها، ليتخطى الطفل الأزمة ولا يلجأ إلى سلوك وعادات غير صحية، كأن يصبح أكثر عصبية، وقد يستخدم مواد معينة ليرتاح بشكل مؤقت.
تنصح مها مَن يرد الوقوف إلى جانب أهالي المفقودين بأن يدعمهم من دون نصائح القوة والبطولة وسواها. وتركهم يبكون ويخرجون ما في داخلهم من أسى، خاصة أن الأهالي يشعرون بالذنب كونهم نجوا ولم ينجُ أولادهم.
ماذا نخبر الأولاد؟
تقول مها إن التفاصيل التي نقولها للأولاد تكون بحسب أعمارهم، وكلما كانوا أصغر سناً نقدّم لهم تفاصيل أقل، ولا نكذب عليهم، كأن نقول مثلاً إن هذا صوت بالون أو مفرقعات، "نسأله ماذا سمعت أذناه، وكيف شعر جسده وماذا رأى".
وتشرح أن بعض الأولاد لا يعبّرون أبداً، وفي حال عبّر الولد عن خوف، نقول له إننا أيضاً شعرنا بالخوف وسمعنا الصوت العالي، وإذا كنا لا نعرف ماذا حصل نعترف بذلك، فنحن يجب أن نكون المصدر الموثوق بالنسبة للولد، مع التأكيد له أننا معه ونحميه.
وتقول مها إن الأولاد يمرون حالياً بنوبات ذعر وأعراض ما بعد الصدمة، وإنّ المهم الإبقاء على روتين معين يجعلهم يتوقعون ماذا سيحدث، فيشعرون بالأمان. ويجب التحدث بصوت هادئ والنظر في عيني الطفل ليركز أكثر ولا تذهب أفكاره بعيداً، ونلعب معه، ونسمعه إذا أراد التحدث. ونخبره قصصاً تريحه.
وتشير إلى أن المراهقين يتأثرون بشكل مماثل للأطفال ويجب أن نسألهم ماذا يريدون أن يفعلوا، ونشاركهم اتخاذ القرار، كأن نقترح عليهم مثلاً، الدخول في مجموعات الدعم بين الأصدقاء، أو فرق المساعدات، لتنظيف الطرق، وطلي البيوت، وأفكار إيجابية أخرى.