المرأة المناسبة في الوقت المناسب. جاسيندا أرديرن نالت التقدير خلال الأسبوع الماضي بطريقة ردها على وحشية هجوم كرايستشيرش. غير أن إشادة العالم بفصاحتها وعطفها أغفلت ما هو أهم.
كانت أرديرن من طينة مختلفة. فهي كافحت منذ بداية الأمر على غرار مسؤولة سياسية حقيقية، وازدرت القاتل، وشنت هجوماً على العنصرية وردّت بقوة على الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بسبب دعايته الانتخابية المقززة - وعرض فيها الفيديو الذي صوّره القاتل بنفسه – وانتقدت الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وأكدت أن قوانين حيازة الأسلحة في نيوزيلندا ستتغير إلى الأبد.
أبلت بلاء يليق بها، وجمعت بين التعاطف الإنساني والقيادة السياسية الحازمة. فبهتت أمام أرديرن صورة "قياداتنا" البائسة.
أتى رد معظم هذه القيادات على جرائم القتل الجماعي على شاكلة عبارات مبتذلة تعرب عن الحزن وسيل كلام تافه عن "الإرهاب، وغالباً ما رافق ردهم ثناء مبالغ فيه على قوات الأمن التي أخفقت في معظم الحالات في الحؤول دون وقوع الجريمة. لكن في كرايستشيرش، يبدو أن رجال الشرطة قطعوا الطريق على القاتل قبل أن ينتقل إلى مسجد ثالث.
ووصفت أرديرن المسلمين الذين قتلوا في بلادها بالقول "إنهم نحن." يمكن أن نتوقع التعليق نفسه من ترودو أو حتى ماكرون، لكن يجب ألا ننشغل بلعبة المقارنة. كانت أرديرن بمفردها، وتحدثت بعبارات جامعة. وفي وقت يروق بقية العالم الحديث عن "الجهادية العالمية،" تحدثت أرديرن عن العقيدة العالمية لتفوق البيض.
عندما ألقى السناتور العنصري الأسترالي فرايزر أنينغ - الذي تحدث ذات مرة عن "الحل النهائي" للهجرة - بلائمة المجزرة في كرايستشيرش على "برنامج الهجرة الذي سمح للمتعصبين المسلمين بالهجرة،" وصفت أرديرن تعليقاته ببساطة بالـ "مخزية."
وفي الأحوال كلها، كان جلياً أن جريمة كرايستشيرش، وهي جريمة ضد الإنسانية، ارتكبها أسترالي مهاجر متعصبٍ. وتجري الآن على نحو أكثر جديةً دراسةُ تاريخ أستراليا الحديث العنيف تجاه المسلمين والمهاجرين، وهي سمة بغيضة غالباً ما يحجبها ميلنا إلى شوائب "أصدقائنا" الأستراليين.
كانت التغطية الصحافية لهذه الواقعة المأسوية في كثير من الحالات في وضع يرثى له بالطبع. واستخدم عدد من وسائل الإعلام النيوزيلندية وكذلك الصحف البريطانية شريط الفيديو الخاص بالقاتل، إلى جانب بيانه المجنون، للترويج لقصصهم الإخبارية. وكان الأمر فشلًا ذريعاً. حاول محرر "ديلي ميرور" أن يشرح سبب إزالة الفيديو من موقع صحيفته بالقول إنه "لا يتماشى مع سياستنا المتعلقة بفيديوهات الدعاية الإرهابية". هل يخطر في بال أحد أنه يحتاج إلى "سياسة" تُلزمه عدم نشر مادة تحرض بطريقة ما على جريمة قتل؟
وفي أستراليا نفسها، تصدرت اللحظة التي وجه فيها أنينغ لكمةً إلى الصبي الذي كسر بيضة على رأسه، "الأخبار"، عوض أن تتصدرها تعليقاته الشائنة عن المسلمين. زار صحافيون بطبيعة الحال مسقط رأس منفذ عملية القتل الجماعي - واكتشفوا أنه كان ذات يوم طفلاً "ملائكياً". لكن هل لهذا أي معنى؟
ثمة صورة تظهر طفلاً ذا شعر أدكن يرتدي تباناً وجوارب صوفية، على شاكلة ملاك صغير تشتهيه كل أم، باستثناء أن هذا الصبي هو هتلر. والصورة موجودة في الأرشيف الفيدرالي الألماني.
لا مناص من أن الأطفال بريئون ولكن القتلة كانوا ذات يوم ملائكة صغار. وعليه، إذا عدتَ إلى الماضي البعيد فستجد أسترالياً صغيراً بريئاً كان يعيش في مدينة عادية (الى اليوم) اسمها غرافتون. أخبرنا الصحافيون أنها كانت مشهورة الى اليوم بأشجار الجاكراندة. هل ترون ما أقصد؟ لقد كان الجمال والربيع يحيطان بصغيرنا الملاك الذي تحول إلى قاتل.
ويحدث كل هذا بينما كان أقارب ضحايا المسجد يتحدثون بلغة الملائكة الحقيقيين في التعبير عن حبهم لبلد لجوئهم وعن ودهم تجاه أصدقائهم البيض وجيرانهم وإعجابهم بأرديرن. لا يُطالب اللاجئون عادة بالديمقراطية - على الرغم من أن المهاجرين المسلمين في نيوزيلندا (سواء كانوا لاجئين أم لا) يعيشون في كنف نظام ديمقراطي - لكنهم، على الدوام، ينتظرون الكرامة والعدالة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وهذا هو بالضبط ما قدمته لهم جاسيندا أرديرن. مع ذلك، وأثناء كتابتي هذه الكلمات، عثرت في صفحة موقع إلكتروني تابع لمحطة تلفزيون نيوزيلندية على تعليق بُث على يوتيوب "بعد مراجعته" - يقول إنه "يا حبذا لو رُميت كذلك رئيسة الوزراء الغبية بالرصاص ."
كانت جاسيندا أرديرن محقة تماماً في إدانة وسائل التواصل الاجتماعي لنشرها فيديو الهجوم - ورفضها اقتراح أحد الصحافيين زيارة مؤسس فيسبوك، مارك زوكربيرغ، إلى نيوزيلندا، قائلة " أنا لست مهتمة بممارسة العلاقات العامة."
لذا، أرسلت وزير خارجيتها، وينستون بيترز، إلى اسطنبول "لمواجهة" أردوغان جراء استخدامه الشائن لفيديو القتل في تجمع انتخابي. وكان أردوغان أشار كذلك إلى أن أي شخص يأتي إلى تركيا حاملاً مشاعر معادية للمسلمين سيُعاد إلى وطنه في نعش "مثل أجداده" أثناء حملة غاليبولي عام 1915.
وكان والدايّ ليصفا أردوغان، شأن أنينغ، بـ"الكريه". فقد قُتل نيوزيلنديون وأستراليون بأعداد كبيرة في غاليبولي. وتبعت غزوهم الأحمق للإمبراطورية العثمانية إبادةٌ جماعية في عام 1915 للمواطنين المسيحيين، نساء ورجالاً، وسقط منهم مليون ونصف المليون أرميني. وما حصل كان جريمة قتل جماعية أضخم بما لا يُقاس من جريمة كرايستشيرش، لكنها جريمة لطالما أنكرها أردوغان.
أما في ما يخص ترمب، فقد طلبت منه أرديرن التعبير عن "تعاطفه وحبه لجميع المجتمعات الإسلامية". وأفضل ما استطاع أن يفعله ترمب هو مسارعته - في الليلة ذاتها - الى رفض أي كلام يعتبر "إرهاب" أصحاب فكر تفوق البيض تهديداً قاتلاً مطرداً. فهو أجاب عن سؤال بهذا الشأن بالقول "ليس فعلاً الأمر على هذا المنوال." لم يمت ذلك بصلة الى السياسة الدولية، بل كان تعليقاً حقيراً مثيراً للاشمئزاز. ولكن ماذا تتوقع عندما يرطن قاتل أسترالي ورئيس أميركي بلسان واحد؟
ينبغي ألا تُرفع جاسيندا أردرين إلى مصاف ملاك. فالسياسيون قد يرتقون ويبلغون الذرى إذا كان في مقدورهم ذلك، وأقتبس هذه العبارة من السير توماس مور. لكننا نعيش في عصر تتهافت فيه القيادة السياسية في بلدان خاضت ذات يوم حروباً عالمية في سبيل حريتها.
لذلك دعونا لا نقارن رئيسة الوزراء النيوزيلندية اليوم برئيسة الوزراء البريطانية التي تُلحق الأذى بنفسها وتسهم في تدمير بريطانيا. فعملية الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، بريكست، هي كذلك وليدة المشاعر ذاتها المعادية للمهاجرين التي حملت أسترالياً على ارتكاب جريمة قتل جماعي الأسبوع الماضي.
© The Independent