كان من المفترض أن يكون الحدث الأكبر في مهرجان البندقية السينمائي لعام 1989، عرض فيلم ستانلي كوبريك الأخير "عيون مغمضة على اتساعها" في افتتاح دورة المهرجان. ولكن، فجأة، كان هناك حدث سرق الأضواء من فيلم كوبريك: كان الحدث العرض العالمي الأول لفيلم "قبل المطر" الذي حُقّق بعد رحيل مبدعه، تكريماً له وحفاظاً على عمله، وذلك لأن هذا المبدع يُعتبر من أساطين فن السينما في العالم. إضافة إلى أن ثمة بينه وبين مهرجان البندقية صلة أساسية: فهذا المهرجان كان هو الذي قدمه إلى العالم - غير الياباني - في بداية سنوات الخمسين، عارضاً واحداً من أهم أفلامه، "راشومون"، ومانحاً إياه جائزته الكبرى. المبدع السينمائي الذي نعنيه هو المخرج الياباني أكيرا كوروساوا الذي رحل عن عالمنا في سبتمبر (أيلول) من العام 1989، عن عمر يناهز الثمانين، واعتبر رحيله، يومها، خسارة كبرى لفن السينما في العالم.
حياة في السينما ومن أجلها
لئن كان كوروساوا اشتهر على نطاق عالمي واسع مع عرض "راشومون"، فإنه بدأ عمله السينمائي قبل ذلك بكثير، مساعد مخرج أولاً، ثم مخرجاً بعد ذلك. وهو حين حقق "راشومون" مازجاً فيه قصتين تعودان إلى بدايات القرن العشرين، كان أضحى مَعْلماً من معالم السينما في بلده، عبر سلسلة من الأفلام التي كانت ذات بدايات تقليدية، لكنها سرعان ما راحت تتخذ منحنيات أخرى وتغوص في العديد من الأساليب.
غير أن شهرة كوروساوا، لا تعني أبداً أنه كان ناجحاً في بلده، إذ، منذ البداية، اختار هذا الفنان الطريق الأصعب. لأنه جاء من السينما إلى السينما، وليس من أي إبداع ياباني تقليدي آخر. إذ من المعروف أنه، منذ صباه، اعتاد مرافقة شقيقه الذي كان يعمل معلقاً على الأفلام الصامتة. وحين أصبح شاباً كان من المحتّم أن يتجه إلى فن السينما، فعمل مساعداً مع المخرج ياماموتو منذ أواسط الثلاثينيات. وفي عام 1943 حقّق فيلمه الأول "سوغاتا سانسيرو"، وهو منذ ذلك الحين لم يتوقف عن العمل في أفلام متنوعة، وإن كان فيلم "الملاك الثمل" الذي حققه في عام 1948، بدايته الفنية الحقيقية. بعد ذلك الفيلم حقق كوروساوا 21 فيلماً يعتبر بعضها من كلاسيكيات السينما العالمية، إذ، إضافة إلى "راشومون" كان هناك "الكلب المسعور" (1949) و"الأبله" (1951) و"أن تعيش" (1952) و"الساموراي السبعة" (1954)، ثم "عرش الدم" و"الحضيض" و"ذو اللحية الحمراء" حتى "درسو أوزالا" و"ران" و"كاغيموشو" و"سوناتا آب" و"لست مستعداً بعد" (آخر فيلم حققه بنفسه).
أنواع لا تنتهي
بشكل عام، يقسم المؤرخون أفلام كوروساوا إلى أنواع عدة، فهناك الأفلام المعاصرة التي تناولت أحداثاً اجتماعية راهنة، وهناك الأفلام التاريخية الكبرى التي نهل فيها من التاريخ الياباني نفسه، وهناك الأفلام الأدبية، أي المقتبسة بشكل عام من أعمال أدبية كبرى تحمل تواقيع غوركي ودوستويفسكي وشكسبير. ومن جراء اشتغال كوروساوا على هذه الأعمال، كان في اليابان يعتبر "غربياً"، حتى وإن كان حرص دائماً على أن يضفي على مقتبساته أجواء يابانية تقليدية.
واتهام كوروساوا بـ"النزعة الغربية" كان يؤلمه كثيراً، ويشعره بأنه في الوقت الذي يعترف العالم كله بأهميته، عجز عن فرض سينماه في بلاده. ولعل هذا ما جعله يشعر باليأس في العام 1970، ما دفعه إلى محاولة الانتحار. تلك المحاولة هزّت وقتها العالم كله، فتدافع السينمائيون العالميون ومؤسسات الإنتاج الأجنبية إلى دعمه، وعلى هذا النحو موّلت له الهيئات السوفياتية الرسمية واحداً من أجمل أفلامه "درسو أوزالا"، كما موّل جورج لوكاس الأميركي، جزئياً، فيلمه "كاغيموشا" ("البديل" المستوحى من دوستويفسكي)، وساهم مارتن سكورسيسي في تحقيق "أحلام" (أحد أجمل أفلام كوروساوا وأكثرها ذاتية)، بينما أنتج الفرنسي سيلبرمان فيلم "ران" المقتبس بتصرف عن "الملك لير" لشكسبير.
الجانب الآخر من الفن
كل هذا بات معروفاً في العالم، وهو صنع بالطبع مكانة ذلك الفنان الاستثنائي. غير أن ما كان معروفاً أقل بكثير، هو أن كوروساوا كان رساماً كبيراً إضافة إلى كونه مخرجاً سينمائياً كبيراً. وهو لم يكتفِ بأن يضع رسوماً ممهّدة لتصوير أفلامه، بل كان يحوّل العديد من تلك الرسوم إلى لوحات مستقلة تعلق على جدران البيوت والمعارض. ولقد وصل الاهتمام، الأوروبي خاصة، بكوروساوا الرسام، إلى درجة إقامة معارض عديدة لتلك الرسوم بشكل مستقل عن انتمائها إلى أفلام شكّلت الممهّد لها. ولقد حدث ذلك بشكل خاص بالنسبة إلى الرسوم العديدة التي أنجزها كوروساوا في العام 1990 لمناسبة تحقيقه واحداً من أجمل وآخر أفلامه، "أحلام" الذي صور فيه عدداً من أحلام قال إنه حلم بها في فترات متفرقة من حياته وظلت مطبوعة في ذاكرته حتى أنه لم يكن في حاجة إلى تدوينها نصوصاً على الورق، بل اكتفى بتخطيطات لها ملونة على شكل إسكتشات. وهو، كما تقول الحكاية، ما لبث أن حوّل تلك الإسكتشات إلى لوحات قبل أن يحوّلها في فترة لاحقةٍ إلى مشاهدَ سينمائيةٍ مُوّلت من قبل منتجين غربيين بمبادراتٍ قام بها عدد من السينمائيين الأميركيين.
وكان من بينهم مارتن سكورسيزي الذي أوصل اهتمامه بالأمر إلى حدّ أنه لعب دور الرسام فنسان فان غوغ في واحد من اسكتشات الفيلم يصور حلماً لكوروساوا يتعلّق بالفترة التي كان فيها الرسام الهولندي منكبّاً في الريف الفرنسيّ على رسم لوحته التي تصوّر عقباناً في حقول القمح تطارد الرسام. ويروي كوروساوا في سيناريو ذلك الإسكتش كيف أنه حلم نفسه "طالباً في معهد الفنون الجميلة وحدث لي أن التقيت فنسان فان غوغ. ولكنه للأسف لم يكن يملك سوى النزر اليسير من الوقت يكرسه لي، هو الذي كان يريد أن يستفيد من بقية وقت لا يزال أمامه قبل أن يموت. ومن هنا بارح المكان في وقت رحت أتابعه، حتى وجدت نفسي داخل لوحاته". ونعرف أن هذا الحلم الذي يرويه كوروساوا على هذه الشاكلة كما أنه رسمه بألوان خلابة في لوحات تمهيدية، سيبقى الأشهر بين الأحلام الي ضمّها ذلك الفيلم، والتي خلّفت لنا إضافة إلى الفيلم نفسه عشرات اللوحات التي عُرضت في باريس وغيرها وراح الهواة يتخاطفونها بحيث باتت اليوم من ذخائر الفن التشكيليّ العالميّ. ومن أحلام كوروساوا الأخرى الجديرة بالذكر في الفيلم نفسه (والتي لكل واحد منها لوحاته كما أشرنا) "جبل فوجي بالأحمر" و"القرية ذات الطواحين المائية" و"الشياطين الزاعقة" و"الشمس تحت المطر" و"النفق" الذي يبدو أكثر الأحلام إثارة للرعب بحيث يستحقّ أن يوصف بأنه "كابوس"، و"العاصفة الثلجية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
متع بصرية لا تنتهي
في النهاية، بقدر ما جاء فيلم "أحلام" في ذلك الحين متعةً بصرية وفكرية ووضع أفكار السينمائي الياباني الكبير على مشرحة التحليل النفسي، أتت اللوحات أعمالاً فنية متكاملة ومبهرة. ولكن هنا، مرة أخرى وكما كانت الحال دائماً بالنسبة إلى المتفرجين اليابانيين الذين أعرضوا عن أفلام ذاك الذي قدّره العالم كله وفُتن بأعماله، لم يهتمّ الجمهور الياباني العريض بذلك الجانب الآخر من إبداع كوروساوا، معتبرين أعماله "تغريبية" مؤكدين تلك النظرية التي ما خابت أبداً في تاريخ المبدعين الحقيقيين: النظرية التي تقول إن لا مكانة لنبيّ في وطنه.
مهما يكن لا بد أن نذكر أن كل هذا لم يعِره كوروساوا اهتماماً خلال حياته حتى وإن كان أشعره بالمرارة، ولا بعد مماته طبعاً هو الذي ظلّ حتى أيامه الأخيرة مفعماً بالنشاط، مصمماً مشاريعه. وفيلم "قبل المطر" الذي افتتحنا به هذا الكلام كان واحداً من تلك المشاريع، أعده المبدع وصمّمه بدقة ورسم كل خطوة فيه قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، فكان أن تلقف مساعدوه وأولاده وأصدقاؤه تلك الأوراق، وحققوا فيلماً عُرض في الذكرى الأول لرحيل ذاك الذي كان يُطلق عليه في اليابان، على الرغم من كل شيء اسم "الإمبراطور".