يمُرُّ الاقتصاد العالمي بفترة صعبة، خصوصاً بعد أن اعتبرت منظمة الصحة العالمية فيروس كورونا "وباءً"، وقد كانت هناك خسائر في البورصات العالمية الرائدة تقترب من 30 في المئة. وبدأت البلدان التي تَفَشَّى فيها الفيروس تُعلن - واحدةً تلو الأخرى - عن سياسات تدعم الحياة الاقتصادية.
وبالنسبة لتركيا، فقبل أيامِ كورونا كان سعر الليرة منذ خمس سنوات ينخفض مقابل الدولار، مما جعل هذا الانخفاض وكأنه ظاهرة طبيعية في الأسواق التركية، ولكن الوباء سرَّعت هذه العملية وأدَّت إلى مزيد من الخسائر، وفي الأيام الأخيرة حطَّم الانخفاض رقماً قياسيّاً بانحدار مفاجئ.
ولكيلا نذهب بعيداً، فإن الليرة التركية خسرت منذ بداية هذا العام فقط 19 في المئة من قيمتها مقابل الدولار.
صحيح، إن الدولار الأمريكي عُملة احتياطية في الاقتصاد العالمي، وبالتالي لا يمكن اعتبار هبوط الليرة التركية بمعزل عن مسار الدولار في العالم. فهناك العديد من عُملات الدول النامية - مثل تركيا - فقدت قيمتها مقابل الدولار في العام الماضي، بل لا نجد في تلك الدول مَن تمكَّن من تغيير هذا المسار خلال وباء "COVID-19"، ففي الفترة من يناير (كانون الثاني) إلى يوليو (تموز) 2020 فَقَدَت 110 عُملات من أصلِ 161 قيمتَها مقابل الدولار الأمريكي واليورو والجنيه الإسترليني، لكن هذا لا يعني أن الحكومة معذورة بشكل لا نهائي، وأن مِن حقها أن تقف مكتوفة اليدين من دون أن تتخذَ تدابير وإجراءات اقتصادية من شأنها أن تُخفّف وطأة الأزمة عن كاهل المواطن الذي تأثر من هذه الكارثة العالمية بشكل لا يُطاق.
ولكن هيهات! فبدلاً من أن تقوم الحكومة بمثل هذه المعونات، قامت بإطلاق حساب بنكي وطلبت من المواطنين التبرُّع لهذا الحساب.
نعم، لا تُوجد لدى أردوغان ولا حكومتِه خريطة طريق ولا رؤيةٌ استراتيجية، ولا عقل مؤسسي، ولذلك نراه يُطلق شعارات فارغة لا تُسمن ولا تُغني من جوع، كعادته كلما وقع في أزمة واحتاج إلى التلاعب بعقول الناس من خلال خطابات وطنية أو دينية. وللأسف، فقد نجح في كثير من المرَّات من خلال إقناع جماهير عريضة بمثل هذه التُّرَّهات.
فعلى سبيل المثال، عندما انخفض سعر الليرة التركية مقابل الدولار في شهري فبراير (شباط) وأبريل (نيسان) الماضيين صرحت وكالة الأناضول - الوكالة الرسمية للبلاد - بأن بعض المؤسسات المالية التي تَتّخِذ من لندن مقرّاً لها تُهاجم الليرة التركية.
وبعد ذلك، بدلاً من اتخاذ تدابير اقتصادية فاعلة، اكتفى الرئيس رجب طيب أردوغان بالإدلاء بتصريحات، مثل: "لا يمكنهم تفكيك أُمَّتنا، ولا يمكنهم إسكات الأذان من مآذننا".
ولسوء الحظ، آمنت قاعدة حزب العدالة والتنمية بهذه التصريحات، وساد لديها التصوُّرُ بأن الحادث لم يكُن أزمة اقتصادية، بل كان هجوماً من أعداء الإسلام على اقتصاد البلاد.
ثم في يونيو (حزيران)، انخفضت قيمة الليرة مرَّة أخرى مقابل الدولار. وفي هذه المرَّة أيضاً أكد أردوغان أنهم لا يأخذون بعين الاعتبار تقديرات وكالات التصنيف الائتماني التي "فَقَدَت موضوعيَّتَها ومصداقيتها". ووصفَ الاقتصادَ الإسلامي بأنه "مفتاح الخروج من الأزمة"، مشيراً إلى أنه سيقوم بتطبيقه بعد فترة انتهاء وباء فيروس كورونا. وهكذا استغلَّ العاطفة الدينية مرَّة أخرى. وكلنا نعلم أنه لا يقول مثل هذه الأقاويل إلا لتهدئة الجماهير المُتعاطفة مع الدين.
وبالطبع، هو يعلم أنه لن يُوجد في البلاد من يقول له: "ها هو الميدان! فإذا كانت لديك وصفة اقتصادية إسلامية فلماذا لا تطبقها على أرض الواقع؟".
لسوء الحظ، هناك جماهير عريضة من أتباع حزب العدالة والتنمية تبتلع المُصطلحات، مثل "الاقتصاد الإسلامي" من دون أن تتساءل عن الخطوات العملية التي تتخذها الحكومة.
ويكفيهم أن يستخدم أردوغان مصطلحات دينية كثيرة، ويقرأَ القرآن أمام الكاميرات، ويُردِّدَ بين حين وآخر مقولةَ "إن القوات الأجنبية تُهاجمنا، لكنها لن تكون قادرة على تفكيك وحدة أُمَّتنا".
وعندما تفاقمت الأزمة في شهر يوليو، وهبطت الليرة بشدَّة، اتَّخذَ قرارَ تحويل آيا صوفيا إلى مسجد، وقرأ القرآنَ أثناء حفل الافتتاح أمام الكاميرات مرة أخرى.
ومما يحز في النفس أن هذا المعبد المقدس لدى الديانتين منذ عصور قديمة أصبح الآن لعبة في أيدي السياسيين الذين يستغلونه كورقة لجذب أصوات الناخبين لصالح حزب العدالة والتنمية.
ولكن آيا صوفيا لم تستطع هي أيضاً مَنْعَ سقوط الليرة التركية مقابل الدولار. فاضطُرَّ أردوغان هذه المرَّة إلى خلق أزمة مع اليونان.
ولم يكتفِ بفتح هذه الجبهة فحاول فتح جبهة أخرى مع الإمارات العربية المتحدة، وصرح بأنه لا يعترف بالاتفاق الذي توصَّلتْ إليه مع إسرائيل، وكأنه يتخذ دور حماية مصالح الشعب الفلسطيني.
وكخطوةٍ من شأنها أن يدغدغ المشاعر الوطنية للأتراك وَلَّى وجهَه شطرَ لبنان ليحصد من أزمتها ما يستغلُّه في الساحة السياسية، فصرَّح وزير الخارجية التركي بأن الرئيس أردوغان وعد بمنح جواز السفر التركي للتركمان الذين يعيشون في بيروت.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا لا يتفوَّه - ولو بكلمة - لصالح المسلمين الأيغور الذين يُعانون في الصين، بينما يلوك بالفلسطينيين والتركمان في لبنان كوسيلة لتمرير بعض سياساته من خلالهم، وكنت أتمنى ألا يسمح الفلسطينيون لأردوغان بالتلاعب بهم.
فبينما يحتاج الشعب إلى حل اقتصادي عاجل، تُنتج حكومة حزب العدالة والتنمية الكثيرَ من شعارات دينية ووطنية.
وها هي لقطة من كلمته التي ألقاها أخيراً في الاحتفال بالذكرى التاسعة عشرة لتأسيس حزب العدالة والتنمية الأسبوع الماضي، قائلاً "إن حركتنا اتَّخذتْ -قبلَ كل شيء - كتابَ الله وسنة نبيِّه دليلاً. إن مسيرة النبي إبراهيم من حران إلى فلسطين هي من هذا القبيل. إن مسيرة موسى إلى البحر الأحمر هي مثل هذه المسيرة. ومسيرة سيدنا محمد إلى مكة مسيرةٌ تاريخية". هذا ما قاله أردوغان.
ولكن المُواطن في هذه الظروف القاسية لا يُريد منه الاستماعَ إلى خطبة الجمعة، إنه يُريد منه حلاً للأزمة.
وفي اليوم نفسه، قال صهره وزير المالية بيرات ألبيرق "لقد دفع أجدادنا هذا الثمن بحياته مرَّات لا تُحصى. والآن جاء دورنا. واليوم سنُضَحِّي من أجل الاستقلال ليس بسواعدنا فقط، بل سنضع قلوبنا تحت المسؤولية".
أجل، للأسف، بدلاً من الحلول الملموسة يتم استخدام كل هذه الخطابات الدينية والوطنية بسبب الأزمة الاقتصادية وانخفاضِ قيمة العملة التركية، وعلى أعلى المستويات في الدولة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أخيراً، أودُّ أن أتحدَّث عن أداء أردوغان وحزبه بلُغة الأرقام بعيداً عن الشعارات والعوطف! فالبيانات الرسمية التي نشرتها الدولة نفسها تقول إن الضريبة التي جمعتها حكومات حزب العدالة والتنمية خلال 18 عاماً من حكمها في البلاد بلغت تريليونين و150 مليار دولار أمريكي. وقد صُرِفَ مقدار 13 في المئة فقط منها في الاستثمارات، في حين أن نسبة 22 في المئة منها ذهبت إلى الفوائد المترتبة على ديون الدولة. كما أن نسبة 40 في المئة منها ذهبت إلى التحويلات الجارية.
نعم، إن نسبة 13 في المئة فقط من الضرائب التي تم تحصيلها خلال حُكم حزب العدالة والتنمية ذهبت للاستثمار، وبعضُها غير لا يُعرَف أين مصيرها وكيف صُرِفَت. وحتى لا يتنبَّه الشعب إلى مثل هذه التفاصيل المُذهلة يأخذ أردوغان المُصحف ويُلوِّح به على رؤوس الجماهير في ساحات المهرجانات الانتخابية.
نعم، إن الإسلامويين السياسيين، أي أعضاء حزب العدالة والتنمية الحاليين، عندما كانوا في المُعارضة كانوا يتحدَّثون عن الحقوق والقانون والديمقراطية، ولكنهم بعدما استولوا على السُّلطة تبيَّن أنهم ليس لديهم أي نظرية ولا استعداد للطريقة التي يتعاملون بها مع من يُخالفونهم في الرأي بأسلوب حضاري/ ديمقراطي، وبطبيعة الحال عندما استتبَّ لهم الأمر وضعوا مُعارضيهم أمام خيارين:
فإما أن يُبايعوهم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وإما أن يُعارضوهم، وبالتالي يتم اعتبارهم أعداء خائنين للوطن وإرهابيين.
لقد كانت تركيا قبل نحو عقدين من الزمن تعيش أزمة في شتى المجالات؛ من الأخلاق إلى القانون، ومن الاقتصاد إلى الإدارة، وكان من إحدى الوصفات التي تم تسويقها هي أيديولوجية الإسلام السياسي، وقد استطاعوا تغليفها بمقدار كبير من الشعارات المقدسة، مما جعل الشرائح المجتمعية المحافِظة يتحمسون لها على أمل الخلاص من أزماتهم التي يُعانون منها، ولكن النتيجة هي ما نرى من الدمار في كل القطاعات على المستوى الداخلي والخارجي. وفي ذلك عبرة لمن يعتبر، حتى يأخذَ الجميع حذرهم من أن أمثال هذه الأيديولوجيات تجرُّ الويلات على الشعوب والمجتمعات.
ولن تستطيع تركيا أن تتحمَّل "أردوغانا" ثانياً بعد هذه التجربة المريرة.