تقرع موجة فقدان الوظائف أبوابنا. فإعلان "ماركس أند سبنسر" صرف سبعة آلاف موظف إضافي يمثّل ضربة كبيرة، تفاقمها أنباء مقلقة أخرى واردة من قطاع البيع بالتجزئة. في اليومين الماضيين، أفادت "دبنهامز" التي تعاني من أجل البقاء، بأنها ستلغي ألفين و500 وظيفة، أما "ديكسونز كارفون" فستصرف 800 موظف، و"سلفريدجز" 450.
لكن وفي تطور قد يكون مفاجئاً، كانت المبيعات بالتجزئة في المملكة المتحدة قريبة جداً من مستويات ما قبل كوفيد (كورونا) على صعيد القيمة الحقيقية وأعلى في المجال المالي. وفي حين لم نحصل بعد على الأرقام الرسمية ليوليو (تموز)، يبدو أن البيع بالتجزئة كقطاع سيحقق نتائج أفضل مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي. ويعود السبب بالطبع إلى التحول إلى الشراء عبر الإنترنت، الذي يساوي الآن أكثر من 30 في المئة من إجمالي المبيعات بالتجزئة، باستثناء الوقود، مقارنة بـ20 في المئة قبل كوفيد. وثمة مستفيدون كبار. فـ"أمازون" توظف حوالى 15 ألف شخص جديد. وأصبحت "أوكادو" تساوي 18 مليار جنيه إسترليني (حوالى 24 مليار دولار)، وهي وقّعت أخيراً اتفاقية مع "إم أند إس" M and S لإطلاق خدمات الأخيرة عبر الإنترنت. وهوت أسهم "إم أند إس" مذذاك فباتت المجموعة تساوي أكثر بقليل من ملياري جنيه إسترليني.
وأينما يحصل تغير بنيوي كبير في طريقة عملنا وعيشنا، يبرز رابحون وخاسرون. ويتلخّص الفارق بين الوقت الحاضر وما حصل قبل ذلك في وتيرة التغير. فالمبيعات عبر الإنترنت كانت تزداد بنسبة واحد في المئة سنوياً: وهكذا استغرق الانتقال من صفر إلى 20 في المئة 20 سنة. أما الآن فلدينا 10 سنوات من التغيير مضغوطة في ثلاثة أو أربعة أشهر. ويبدو أن البيع بالتجزئة أونلاين Online أكثر نجاعة في طبيعته من البيع بالتجزئة في المتاجر – وهذا أمر جديد تماماً إلى درجة أن البيانات غير متوفرة بعد. وهو يتطلب موظفين أقل وربما طاقة أقل.
وقد يكون له أثر في المستوى الجندري: فالعمل عبر الإنترنت يتطلب مزيداً من المهووسين بالكمبيوتر ومزيداً من سائقي التوصيل، ووفق الإحصاءات، شطر غالب من هؤلاء رجال، في حين تميل المحال إلى توظيف عدد أكبر من النساء.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولهذا كله أثر مزعزع. فهو مزعزع عند المستوى البشري وهذا يشكل أمراً مزرياً لآلاف الأشخاص الذين يوشكون على فقدان وظائفهم. وهو مزعزع أيضاً عند المستوى البنيوي الأوسع إذ يتعرض التصميم المادي لبلداتنا ومدننا إلى تحول. وقبل أن يضربنا كوفيد كانت متاجرنا المادية تكابد ضربة جراء التحول إلى البيع عبر الإنترنت. والآن تضاعفت الضربة [الأضرار]. ولو تطابق التحول إلى البيع بالتجزئة عبر الإنترنت مع التحول إلى العمل من المنزل، فلن تكون المتاجر المادية القطاع الوحيد الذي سيضطر إلى البحث عن دور جديد. ستكون مراكز المدن بأسرها في خضم ذلك.
ويمكننا أن نلقي نظرة على الأنشطة الجديدة في المساحات التي لم يعد مرغوباً فيها في قطاع البيع بالتجزئة. فـ"جون لويس" John Lewis (سلسلة متاجر تجزئة بريطانية كبيرة) تفكر في تحويل بعض المتاجر التي تغلقها إلى مساكن. ومن المستحيل معرفة أي شيء عمّا سيحصل للمباني المكتبية التي أُخلِيت، والسبب أننا ببساطة لا نعرف على أي وجه ستكون العودة إلى الوظائف. فقد يتبين أن العمل من المنزل أقل نجاحاً مما يبدو عليه الآن. وقد تتراجع جودة الإنتاج. وقد يستحيل بناء روح الفريق. ويتجمع الناس في مختلف أنحاء العالم في شكل متزايد في مدن عملاقة. وقد يكون ثمة سبب اقتصادي لذلك. لكننا لا نعرف.
ولكن ما مصير المدن؟
برزت أمس قصة أخرى قد تقدم دليلاً. أوردت صحيفة "فايننشال تايمز" أن "ميرك"، الشركة الأميركية العملاقة للمستحضرات الصيدلانية التي تستخدم الاسم "إم إس دي" في أوروبا، تخطط لتوسيع أنشطتها البحثية في المملكة المتحدة في مركز بتكلفة مليار جنيه إسترليني يقع بالقرب من (محطة قطارات) كينغز كروس في لندن. وسيوظف المركز حوالى 700 شخص. وقد لا يبدو الأمر مهماً حين يُقارَن بالخسائر التي تصيب الوظائف، ولاسيما أن كثيراً من وظائف المركز تُنقَل من مكاتب أصغر في أمكنة أخرى في المملكة المتحدة. لكن لاحظوا أن "غوغل" تمضي قدماً في إنشاء مكتبها الجديد، الواقع أيضاً في كينغز كروس، والذي سيضم أكثر من سبعة آلاف شخص. وأعلنت أن موظفيها يستطيعون العمل من المنزل حتى صيف العام المقبل، لكن من الواضح أنها تعتقد بأن العمل في المكاتب مجدٍ بالفعل.
ويشير قرار "ميرك" إلى الأمر نفسه: اعتقاد بأن وضع الموظفين معاً يسهّل عليهم أن يكونوا مبدعين. علينا أن نكون في المساحة نفسها خلال بعض الوقت على الأقل لنتعاون حقاً. تخيلوا علماء يحاولون تطوير لقاح جديد وهم في المنزل يتواصلون عبر اتصالات "زوم". انظروا كيف تدهورت خدمة الجوازات في بريطانيا لأن عدداً كبيراً من الموظفين لا يزالون يعملون من المنزل.
فما الذي يجب على الحكومات فعله في مواجهة احتمالات غامضة كهذه؟
ثمة مبادئ توجيهية ثلاثة مكرسة منذ زمن بعيد.
الأول، أن على الحكومات حماية الوظائف حيث أمكن. فكلما انتهت وظيفة، يكون لذلك أثر غير مباشر في الوظائف الأخرى. وهذا أمر لم يكن على الحكومة البريطانية القلق في شأنه منذ ركود عامي 2008 و2009 على الأقل، فمنذئذ كان نمو التوظيف قوياً. ولاقى برنامج الإجازات، وتخفيضات ضريبة القيمة المضافة، والدعم الخاص لتناول الطعام خارج المنزل وما إلى ذلك من أفكار ترحيباً. وفي حين تُخفَّف هذه البرامج وصولاً إلى وقف العمل بها، على الحكومة النظر في طرق تضمن عودة الموظفين المفصولين إلى القوة العاملة بأسرع وأسلس ما يمكن.
ويلي المبدأ التوجيهي الثاني الأول. ويتمثل في قبول الصواب الدائم لتعليم الأشخاص مهارات جديدة وتدريبهم عليها في وقت لا نعرف مصادر الوظائف الجديدة. فالعاملون في "إم أند إس" هؤلاء سيكونون مفيدين لأصحاب عمل آخرين، لكنهم قد يكونون في حاجة إلى مساعدة في العثور عليهم.
ويتلخص المبدأ التوجيهي الثالث في تسهيل الطريق أمام أي شركة تسعى إلى تعزيز التوظيف. فلو احتاجت "ميرك" إلى تخطيط سريع لبناء مقرها الرئيسي الجديد، ليس مناسباً في هذه الآونة الوقوف في وجهها.
© The Independent