الروائية السورية ريما بالي، من مواليد حلب 1969، ولمّا اندلعت الحرب التي استمرّت ثلاث سنوات، غادرت على أثرها إلى إسبانيا، واستقرّت هناك عام 2015. وسبق أن صدر للروائية السورية عمل روائي أول بعنوان "ميلاجرو"، أما الرواية الثانية فهي بعنوان "غدي الأزرق" (دار الآداب)، فهي وإن كانت من نسيج العالم السابق، أعني عالم الحرب السورية التي خبرت الكاتبة مراراتها ونأت بنفسها عن أخطارها، العالم الذي أخرجت منه روايتها الأولى، فإنّها سعت إلى تنمية عالمها وابتكار دراما ثنائية الطرف، قطباها الراوية خريجة كلية الآداب ندى وزوجها المهندس نبيل وابنهما الشهيد غدي الذي مات وهو يعمل مسعفاً متطوّعاً في الهلال الأحمر السوري، والقطب الآخر الشابتان الإسبانيتان، مارتا وإيفا، النزيلتان في المصحّة التي تعمل فيها الطبيبة السورية ندى، ومأساة استغلالهما الجنسي من مواطنهما بابلو وادّعاء إحداهما بأنّ الأخير كان قد قتل ابنها الذي أنجبته منه، خارج علاقة الزواج، خوفاً من حصولها على ميراث الأراضي الشاسعة المزروعة كروماً، والمستثمرة لصناعة النبيذ.
تضع الكاتبة أحداث الرواية على لسان الراوية العليمة التي سبقت الإشارة إليها على أنها مساعدة اجتماعية في المصحّة التي باتت تعمل فيها، بعد هجرتها القسرية إلى فرنسا، وانفصالها عن زوجها، الوزير في الحكومة السورية، والذي يعدّ من الفئة المعتدلة المنتمية إلى حزب البعث الحاكم. أما الانفصال فكان بسبب مقتل ابنهما، غدي، في أثناء قيامه بمهمات تطوّعية في حلب، واحتراق قافلة الهلال الأحمر السوري التي كانت تهمّ بنقل جرحى الحرب بين الطرفين المتقاتلين، بنيران المقاتلات المحلية، ومن دون أن تصدر عن والده الوزير أي ردود مستنكرة أو شاجبة، كتلك التي صدرت عنها، هي أمه التي ربّته وأمّلت روحها بغده المشرق، فانتهى أمام ناظريها ممزّق الجسد قتيلاً، شأن العشرات بل مئات الآلاف من الشباب والصبايا السوريين ضحايا هذه الحرب المهولة.
البطلة السلبية
لكنّ الكاتبة ريما بالي، في مسعى منها إلى مدّ جسور مأساة بطلتها السلبية (ندى) إلى رحاب إنسانية أوسع، تشرع في حكاية الرواية من لحظة زمنية متأخّرة، أي لحظة وصولها إلى فرنسا واشتغالها مساعدة طبيب في إحدى المصحّات النفسية، وبداية تعرّفها إلى مأساة الفتاتين الإسبانيتين، واهتمامها بتفاصيل هذه المأساة. وبينما تروح تستعيد، عبر تقنية الفلاش باك، ماضيها القديم، وطفولتها في حلب، وجذور تربيتها المسيحية لدى إحدى مدارس الراهبات تدعى مدرسة جاندارك، وفي كنف أب هو بطرس خياط المنتمي إلى حزب البعث، في بداية صعوده ومنتقد الفساد فيه لاحقاً، بحسب الكاتبة، تعود، وفي حركة مكوكية، إلى اللحظات السابقة لمأساتها الأولى (مقتل ابنها غدي) واللاحقة بها، لتبيّن انسجام موقفها، هي البطلة السلبية، مع تربيتها الإنسانية والمسيحية الأولى، والمتمثّل بمغادرتها البلاد، إثر مقتل الابن الوحيد، وانقطاعها الإرادي عن أخبارها، وانصرافها إلى مآسي الآخرين، في بلاد الغرب، باعتبارها انعكاساً لمظالم الرجل (شرقياً كان أو غربياً) حيال المرأة، وتجلّياً لمؤسسات قمعية أرسى دعائمها عبر التاريخ، وأخضع جمهور النساء لها أنى كان، بدليل إقرار الراوية بقراءة أعمال نوال السعداوي الداعية المصرية إلى تحرر المرأة العربية:"وبين الحين والآخر، كنتُ أمتّع نفسي بقراءة بعض الروايات، وبعض المقالات، أو مقتطفات من كتابات نوال السعداوي...". (ص18)
ولئن كان خطاب الراوية، ومن ورائها الكاتبة، ريما بالي، واضحاً، في مطلع الرواية لنسبة "الفساد والانتهازية في صفوفه (الحزب) والممارسات المدمّرة التي كان يقوم بها أعضاؤه" (ص19)، فإنّها لم تذهب بعيداً بتوصيف الحزب والنظام، ولم يكن لديها خطاب ضمنيّ (سياسي) ينبئ عن اتّجاه معارض للسلطة. وإنما كان، بالمحصّلة الأخيرة، خطاباً تصالحياً وغير عنفي، وغير إقصائي ولا جذري، بدليل أنّ البطلة "ندى"، وعلى الرغم من انتقادها المرير لزوجها نبيل، لموقفه حيال مقتل ابنه وتحميله إياها وزر ذلك بسبب تربيتها وتنميتها كلّ ما يقوّي شخصيته ويجعله شريك الآخرين من مواطنيه في آلامهم ومحنتهم. بدليل أنّها، أي ندى، كانت لا تزال تحتفظ لزوجها بمكانه في قلبها، وهذا ما يكشفه المشهد الأخير من الرواية. "افتحي ندى، هذا أنا. - نبيل؟ - مفاجأة؟ - أبداً، ليست كذلك. كنتُ أنتظرك، بين لحظة وأخرى!" (ص256)
تقوم بنية الرواية، المؤلّفة من ثمانية فصول (جان دارك، عبّاد الشمس، ساعة الذئاب، لعنة الدم، فصل جديد، دون كيشوت، أمل، الموسم الأزرق) غير متّسقة في حجمها، ولا في عدد مشاهدها أو أجزائها، على تنقّل السرد والوصف بين محورين اثنين، وحكايتين متوازيتين: حكاية البطلة السلبية الأولى، المتمثّلة في مقتل ابنها غدي في موطنه مدينة حلب (سوريا)، وتداعيات المأساة المستمرّة في كيانها، وحكاية الفتاتين إيفا ومرتا، المصابتين بالإيدز، وطفل إيفا الذي زعم أبوه بابلو أنه مات لحظة الولادة، وتبيّن أنه استبدله بطفل ميت، ومضى به إلى والدته لتربيه بعيداً من إيفا أمه الحقيقية التي أصابها الانهيار منذ ذلك الحين. وتنتهي رحلة التقصّي التي تقوم بها البطلة ندى، برفقة بوريس صديقها الشاب، إلى أسبانيا، وتحديداً إلى قرية الفتاتين كاستتيخو دي لا سييرا، وتفضي بها إلى اكتشافها أن طفل إيفا لا يزال على قيد الحياة، وقد صار فتى مالئ القوام، والحيوية. وبهذا تكون خاتمة الحكاية الموازية نوعاً من البلسم أو الأفق الجديد الذي ينفتح بديلاً من الأفق المغلق والقاتم الذي رسمته الحكاية الأولى.
تندرج رواية الكاتبة "غدي الأزرق" للكاتبة ريما بالي، في خانة الروايات الواقعية الرمزية، التي لا تقصد الكاتبة فيها إلى بناء عالم مكين العناصر، أو رسم إطار مكانيّ وزمانيّ معلوم، على مقاس المرجع الذي يستعير منه مسرح الأحداث، وإنما تكتفي ببعض النقاط - العلامات منه لتعيين الأحداث الممكنة الحصول، وترجمة تصوراتها عن الشخصيات القليلة نسبياً، والمختارة بعناية لكي يتسنّى لها توقيع سماتها مع الأحداث الجارية على امتداد الرواية.
ويمكن القول إنه، على الرغم من الرومانسية والبعد الإنساني البسيط أحياناً، تنساب أحداث الرواية بسلاسة بيّنة، تعينها على ذلك لغة طيّعة، ومتينة، من دون أن تتعمّد الجمالية البيانية التي تقدر عليها، تاركة الاستشهاد بالشعر، رفيق الروائيين هذه الأيام، ورواة "ألف ليلة وليلة" منذ مئات السنوات، إلى ختام الرواية.
"فبرغم جميع حرائقه/وبرغم جميع سوابقه /وبرغم الحزن السّاكن فينا ليل نهارْ/وبرغم الرّيح...وبرغم الجوّ الماطر والإعصارْ/الحبّ سيبقى يا ولدي: أحلى الأقدارْ" (نزار قباني).