يتناول برنامج "أريد أن أصدّق" لـسكارليت موفات، الذي تبثّه "هيئة الإذاعة البريطانية" (بي بي سي) مواضيع شتّى يمكن تلخيصها بأسئلة تترواح بين "هل يخضع العالم لسلطة نخبة غامضة؟ هل بيونسيه وجاي زي جزء من هذه النخبة؟" وبين "هل الأمير تشارلز مصّاص دماء؟ أم هل تنحدر العائلة المالكة من سلالة سحالي فضائية؟".
وهذه الـ"بودكاست" (المدوّنة الصوتية)، تُعتبر من البرامج الإذاعية المثالية لاستقطاب المستمعين الشباب، كما أن أسلوب الثرثرة الذي تستعمله موفات للدردشة مع صديقها الحميم سكوت دوبنسون يبدو مثالياً لتناول نظريات المؤامرة والسخرية منها.
ومع ذلك، لا يسعني إلّا أن أتّفق مع دارا أوبراين، الكوميدي (ومقدّم عدد من البرامج العلمية) الذي أعرب عبر "تويتر" عن خيبة أملٍ كبيرة إزاء إجراء حلقة حديثة من البرنامج عن هبوط الإنسان على سطح القمر. نعم، ثمّة الكثير من النظريات حول الهبوط على القمر، لكنّ إلقاء ظلال الشكّ على أحد أعظم إنجازات الإبداع الإنساني يُسيء إلى الإنجاز بذاته، وإلى كلّ من يرغب في معرفة المزيد عنه.
ومن الواضح جداً أنّ دوبنسون نفسه لا يصدق أنّ موفات لا تؤمن بحقيقة هبوط الإنسان على سطح القمر، ولكن كما أشار أوبراين، القصة وما فيها أنّ "بي بي سي" لم تَعُدْ تريد إنتاج حلقات إضافية من برنامجها عن علوم الفلك الذي استمرّ عبر الأثير بين عامَيْ 2011 و2017، لكنّها مستعدّة لبثّ مثل هذا المحتوى.
وكتب أوبراين "أُحاول ألّا أكتئب اليوم وألّا أتأثّر لمعرفتي بأنّ بي بي سي ستتوقّف عن إنتاج برنامج "ستارغايزينغ لايف" Stargazing Live وستدفع لسكارليت موفات كي تقدّم مدوّنة صوتية تشرح فيها كيفية عدم تصديقها الهبوط على سطح القمر".
أعتقد أنّ مهمّة "بي بي سي" هي جذب أكبر عدد ممكن من المتابعين، ولذا أتفهّم قرارها تكليف موفات إعداد البرنامج المذكور. ولا أنكر أنّ مواضيع البرنامج مسلّية في معظمها، إلّا أنّ أيّاً منها لا يرقى إلى مستوى المحتويات التعليمية التي يُفترض أن يشكّل تقديمها جزءًا أساسياً من مهمة هذه المؤسسة العريقة ورسالتها. ولا شكّ في أنّه ينبغي أن تعطي "بي بي سي" الأولويّة دائماً لبرامج العلوم والطبيعة، لا سيما أنها معروفة بتغطياتها المهمة، لكن بوسعي أن أتفهّم اتجاهها نحو برامج المدوّنات الصوتية التي لا تكلّف الكثير في مثل هذا الوقت الذي تتعرّض فيه ميزانيتها للخفض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يتعلّق الأمر هنا بموفات أو المدوّنات الصوتية عموماً، وفق ما ورد في تغريدة أوبراين قبل أن يقرّر حذفها لتجنيب المذيعة وابلاً من الإساءات. فلا مشكلة لديّ مع ما تبقّى من السلسلة ولا أرى أنّه من واجب موفات الحرص على أن يكون لدى "بي بي سي" ما يكفي من المحتوى العلمي في برامجها أو كيفية تقديم هذه البرامج، إنما يتعلّق الأمر بمؤسسة إعلامية أجادت في تبديد الخرافات ونظريات المؤامرة، لا سيما تلك المتعلّقة بالجيل الخامس، طيلة فترة جائحة كورونا ومن الضروري أن تقاوم إغراء نشر نظريات مؤامرة تلبيةً لحاجات الجماهير الشابة ليس إلّا. أنتجت الخدمة العالمية لـ"بي بي سي" أخيراً مدوّنة صوتية، كانت دقيقة من الناحية التاريخية وحازت جوائز، عن هبوط الإنسان على سطح القمر، غير أنّ منصّاتها كلها يجب أن تكون منسجمة مع بعضها بعضاً، ويجب ألّا يُبطل أحد برامجها الذي تشكّل المعلومات محتواه الأساسي برنامج آخر من النوع الذي يمكن أن يضرّ أكثر مِمَّا ينفع.
مهما كانت نبرة مناقشة الهبوط على سطح القمر خفيفة الظلّ، ومهما كان ضئيلاً الضرر الناجم عن محتوى كهذا، إذا أردنا دحض نظريات المؤامرة، فعلينا أن نفنّدها كلها من دون استثناء. أتفهّم أنّ موقفي قد يبدو مبالغاً فيه، ولكن إذا سنحت الفرصة لعدم تداول نظريات مؤامرة وترويجها، علينا أن ننتهزها.
فالقادة، على شاكلة دونالد ترمب، يتسبّبون بما يكفي من الضرر بمجرّد التلميح إلى نظريات المؤامرة قبل أن يُحاول الادّعاء أنه فقط سمعها أو قرأها، وأن لا علاقة له، أو واسطة، بما يقدمه إلى العالم من مزاعم. ولعلّ آخر نظريات المؤامرة هذه التي طرحها هي تلك التي تفتقر إلى المنطق ولا أساس لها بشأن أهليّة كامالا هاريس للترشّح لمنصب الرئيس أو نائب الرئيس. وقد لا تكون المدوّنة الصوتية لـ"بي بي سي" المذكورة آنفاً على مستوى بعض الأمور التي تفوّه بها ترمب وتركها عالقة في الهواء، لكنّها تستند إلى المبدأ ذاته.
وإذا أردنا أن نتوقّع من زعمائنا وقادتنا أن يتعاملوا بشكلٍ أفضل مع نظريات المؤامرة ويمتنعوا عن نشرها، فعلينا أن نتوقّع التصرّف ذاته من مؤسسة بحجم "بي بي سي"، لها هذه المسؤولية الكبيرة وهذا الجمهور الواسع.
© The Independent