دمار غير مسبوق حلّ بمعظم أحياء بيروت، وباتت غالبية منازلها تلملم ما تبقى من أطلالها، فالانفجار الهائل في مرفأ بيروت لم يوفر المباني التاريخية والتراثية التي يعود عمرها إلى قرون من الزمن، ما أسال لعاب بعض سماسرة العقارات الذين توجه بعضهم فوق أنقاض أوجاع الناس، وما خسروه من أرواح وممتلكات، وما أصابهم من جروح، بين المناطق المنكوبة في محيط المرفأ، لا سيما في مناطقة الجمّيزة ومار مخايل والمدور والكرنتينا والأشرفية وغيرها من أحياء العاصمة، مستغلين مأساة الناس الذين فقدوا منازلهم وباتوا بلا مأوى لعرض مبالغ مالية لشراء البيوت والممتلكات والعقارات نقداً، وبالعملة الصعبة.
وتشير أرقام مديرية الآثار في وزارة الثقافة اللبنانية إلى أن انفجار بيروت دمّر مئات الأبنية التراثية في بيروت، التي بلغت حوالى 640 مبنى تاريخياً، 60 منها معرضة لخطر الانهيار الكامل، وهي في معظمها أبنية تراثية بجدرانها المزخرفة ونوافذها الملونة، وقناطرها العالية تحولت في ثوان إلى مجرد واجهات تخترقها فجوات ضخمة، ولم يبق منها ركن قائم، وهي من بين ما لا يقل عن ثمانية آلاف مبنى متضرّر من الانفجار. والأبنية التراثية عبارة عن مساكن ومتاحف وقاعات فنون ومواقع دينية، تقع معظمها في الأحياء التاريخية في الجميزة والأشرفية وشارع مار مخايل التراثي، ويعود بناء بعضها للعهد العثماني والانتداب الفرنسي، وتقدر الكلفة الإجمالية الأولية لأعمال تصليح وترميم هذه الأبنية، بمليار دولار أميركي.
تغيير ديموغرافي
وبعد شيوع الأخبار المتعلقة بقدوم مجموعة من السماسرة لشراء عقارات تراثية أصابها دمار التفجير، سارعت نقابة الوسطاء العقاريين إلى التنصل من هؤلاء السماسرة، مؤكدة أن من يحاولون الشراء ليسوا سماسرة قانونيين. كذلك حذّر رئيس "حركة الأرض اللبنانية" طلال الدويهي من استغلال مصائب التفجير التدميري الذي ضرب المنطقة القريبة من مرفأ بيروت، وقال "بدأ سماسرة التغيير الديموغرافي بالتجول مستفيدين من المصائب التي ضربت البنى التحتية ومقومات العيش لمكون أساسي لبناني هو المسيحي"، وأضاف "نعم رصدنا عدداً من السماسرة الموجهين من جهات هدفها التآمر على الحضور المسيحي في لبنان، وهؤلاء السماسرة يجولون بين الأضرار والمصائب، ويعرضون شراء كرامات الناس على خلفية سياسية لئيمة، ونرصد ونتابع هذه المؤامرة الحقيرة والدنيئة التي تبني أحلامها في التغيير الديموغرافي على مصائب الناس الأبرياء".
سلطة تولّد اليأس
من جهته، أكد السياسي دافيد عيسى أنه "بعد انفجار مرفأ بيروت، نشط بعض السماسرة لشراء عقارات ومنازل تراثية في الأشرفية والجميزة والصيفي"، مستبعداً أن يكون هناك مخطط معين يستهدف المنطقة، ومعتبراً أن ما يحصل ينمّ عن جشع وطمع السماسرة الذين يحاولون الاستفادة من وجع الناس، وتراجع أسعار المنازل كونها مدمرة، معتبراً أن الأمر يتعلق بالتجارة والربح، ولا علاقة له بأي تغيير ديموغرافي، باعتبار أن السماسرة ينتمون لطوائف عدة، وهدفهم كسب المال ولو على حساب أوجاع وآلام الناس.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت عيسى إلى أن "العقارات التي يتوجه إليها السماسرة بشكل أساسي هي تلك القريبة من الأوتوستراد، وبالتحديد تلك التي من جهة المرفأ باتجاه منطقة الدورة في ضواحي العاصمة"، مشيراً الى أن "أبناء أحياء الأشرفية والجميزة والصيفي، كانوا أكبر من المصيبة التي حلّت بهم، وتمكنوا من الوقوف بوجه هذا المشروع"، مشدداً على أن" التغيير الديموغرافي يحصل بسبب حال اليأس التي تولدها السلطة الحاكمة في جميع المناطق اللبنانية من دون استثناء".
ورأى أنه بالرغم من الدمار والأزمة الاقتصادية الخانقة، يحرص سكان الأحياء التاريخية على عدم التفريط في منازلهم، وقال "لن نسمح بقيام أية عملية بيع، ونشجع السكان على التمسك ببيوتهم من خلال إقناعهم بأننا غير متروكين، وأن المجتمع الدولي سيساعدنا في الإعمار والنهوض من جديد".
لائحة التراث العالمي
ويتخوف النائب في البرلمان اللبناني جورج عقيص من أن يكون هناك مخطط لاستغلال الدمار الذي حدث في بيروت، لا سيما في مناطق ذات طابع تراثي وأخرى ذات أكثرية سكانية مسيحية، ما قد يضرب صورة بيروت الثقافية وتعايش الطوائف فيها، ويكشف عن أنه "لقطع الطريق على هذه المحاولات، تقدم باقتراح قانون معجل مكرر باسم تكتله النيابي يجعل المناطق المشار إليها أرضاً منكوبة غير قابلة للمساس تحت أي ذريعة، والعمل على وضعها ضمن لائحة التراث العالمي".
كما منع وزير الثقافة في حكومة تصريف الأعمال عباس مرتضى إجراء أية معاملة بيع أو تصرف أو تأمين تتعلق بالعقارات المتضررة، ومنع تسجيلها في الدوائر العقارية إلا بعد الانتهاء من أشغال الترميم كافة، وبعد موافقة وزارة الثقافة التي تشير مصادرها الى أن إداراتها لن تسمح بتغيير وجه بيروت الحضاري، خصوصاً أن تاريخها يعود لأكثر من خمسة آلاف عام، وأعمال الحفريات الأثرية وسط بيروت تدل على تنوع الحضارات التي مرّت بالمدينة، حيث عُثر على طبقات متعددة من الآثار الفينيقية والهيلينية والرومانية والعربية والعثمانية التي تبعد عن بعضها مسافة ضئيلة، وأن بيروت تعتبر من أقدم المدن على الساحل الشرقي للبحر المتوسط.
المدارس أيضاً
بدورها، أعلنت المديرة العامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) أودري أزولاي، عن حشد المجتمع الدولي وجعل التعليم والثقافة والتراث الركائز الأساسية لجهود إعادة الإعمار، كاشفة عن أن حوالى 160 مدرسة خاصة وحكومية في بيروت والمناطق المحيطة بها تضررت بشكل متفاوت نتيجة الانفجار، وهو ما قد يحرم أكثر من 85 ألف طالب من اللبنانيين وغيرهم حق التعلم.
وتعتبر إعادة تأهيل المدارس شرطاً ضرورياً للتعليم الأساسي والثانوي، وتم تعيين "يونيسكو" لقيادة جهود الشركاء والجهات المانحة لإعادة تأهيل المدارس، ولضمان ألا يتوقف التعليم أبداً، وبحسب أودري، فستقود "يونيسكو" أيضاً جهود التعبئة الدولية لاستعادة وإعادة بناء ثقافة وتراث بيروت، بناء على تقييم الحاجات الفنية للبنان، كما ستقوم بتطوير خطة العمل الدولية للثقافة في بيروت مع جميع شركائها، في لبنان والخارج.
عرقلة إعمار سوريا
وفي سياق الأضرار الفادحة التي أحدثها تفجير المرفأ، والتي لا تنحصر في لبنان، تشير المعلومات إلى أن المرفأ وفّر الكثير من حاجات النظام السوري عبر استيرادها إلى لبنان من خلال شركات محلية، ومن ثم تهريبها إلى سوريا من طريق معابر خاصة يشرف عليها "حزب الله"، ويعتبر الباحث وأستاذ العلاقات الدولية في جامعة باريس خطار أبو دياب، أن "تفجير هذا المرفق البحري المهم يشكل ضربة لجهود إطلاق عملية إعادة الإعمار في سوريا، التي كان الروس يخططون لها"، مشيراً الى أن ميناء بيروت يعتبر أحد أهم مرافئ شرق المتوسط، ويعول عليه كثيراً كقاعدة رئيسة في هذا المجال، كون المرافئ السورية محدودة الفاعلية"، مؤكداً أن هذا التفجير لن تقتصر آثاره الاقتصادية على لبنان، بل ستمتد إلى جميع دول المنطقة ومنها سوريا، موضحاً أن "الهدف البعيد لمن قام بهذا العمل الإجرامي هو التدخل في عملية إعادة تركيب المنطقة التي باتت أكثر وضوحاً الآن".