مرت 100 عام على إعلان دولة لبنان الكبير من قبل السلطة الفرنسية المنتدبة على لبنان وسوريا في أول سبتمبر (أيلول) 1920، وفي ذلك اليوم وقف الجنرال غورو، قائد القوات الفرنسية في المشرق وعلى جانبيه البطريرك الماروني والمفتي، من على درج القيادة وأعلن قيام لبنان الكبير، مستقلاً عن سوريا وهي أيضاً كانت تحت الانتداب الفرنسي. وكان العديد من العقائديين والمؤرخين في المنطقة، وبعض الأكاديميين في الغرب خلال القرن الـ20 ينظرون إلى أن لبنان "خلقه" الفرنسيون عام 1920، وكأنهم يلمحون إلى أنه لم يكن هناك لبنان قبل ذلك التاريخ، وأن لبنان أصبح عمره قرناً واحداً، في 2020. ويضيف المنظرون، أن هذا الكيان وحدوده هو أول كيان لبناني، ونظام التوزيع الطائفي الذي اعتُمد عام 1943 هو النظام الوحيد الملائم للبنان.
هذا بالطبع غير صحيح تاريخياً وغير صحيح سياسياً، فالكيان اللبناني قديم جداً كمصر وبلاد ما بين النهرين، وغير دقيق التشدد على أن هناك صيغة واحدة تصلح للبنان، إذ إن هناك أفكاراً كثيرة طرحها لبنانيون من كل المكونات.
وهذا تلخيص لما قبل لبنان الكبير، ثم الوضع الحالي، وبعد ذلك تلخيص للخيارات الممكنة، ولعل أزمة الكيان اللبناني ليست وحيدة لا في العالم العربي، ولا في الشرق الأوسط الكبير، من اليمن، إلى العراق، والسودان، وإيران وتركيا، الدول المتعددة المجموعات القومية مرت ولا تزال باختبارات تاريخية هائلة لم تكن دائماً هادئة.
تاريخ ما قبل "لبنان الكبير"
على الرغم من أن الوقائع التاريخية واحدة، إنما هناك قراءات مختلفة ومتناقضة، وقد بدأت منذ انطلاق لبنان الكبير، وكان هناك انقسام لدى اللبنانيين أنفسهم حيال مشروع الجمهورية اللبنانية برمته. إلا أن الانقسامات السياسية والعقائدية لم تمنع أن المولود الجديد عاش حياته لمدة قرن بكامله، بين عهود ذهبية، وسلام وحرب، وعهود كارثية. وهو الآن على حافة انهيار لم يسبق له مثيل في مئويته الأولى.
تاريخ الوجود البشري في لبنان، كتاريخ الشعوب والحضارات المصرية الفرعونية والآشورية الآرامية الكلدانية والسومارية، والفارسية واليونانية، وشعوب الجزيرة القديمة، طويل جداً، وتطور من الفينيقيين إلى مردة جبل لبنان، إلى ما بعد الفتح العربي فالإمارة اللبنانية تحت السلطنة العثمانية. خلال الحرب العالمية الأولى اتفقت فرنسا وبريطانيا على تقاسم مناطق الشرق الأوسط بعد انكسار السلطنة، وانبثق عن اتفاق سايكس بيكو، ووعد بلفور والاتفاق البريطاني - الحجازي عدد من الدول الحديثة، ومنها دولة لبنان الكبير.
منذ القرن السابع ميلادي، والديموغرافيا تتغير في لبنان مع تكتل المسيحيين، وخصوصاً الموارنة، وبعدهم الدروز في الجبال، بينما باتت السواحل والسهول بأكثريتها من الطوائف الإسلامية، وتوسع جبل لبنان وانحسر تحت الخلافات المتتالية، فوصل كيانه السياسي إلى شمال سوريا وانحسر إلى شمال لبنان الحالي، فكَبُر وصغر حسب المراحل، إلى أن جاء العثمانيون وأخرجوا المماليك، وتحول جبل لبنان إلى إمارة بقيادة درزية وعمق ماروني، لثلاثة قرون، وبعد حربين أهليتين في الجبل عامي 1840 و1860 أعلنت القوى العظمى إقامة "متصرفية جبل لبنان"، المستقلة ذاتياً عن السلطنة العثمانية، أو ما عُرف "بلبنان الصغير" وهو أول كيان لبناني حصل على اعتراف دولي في التاريخ الحديث، ولكنه كان من دون بيروت، وطرابلس وسهل البقاع.
تعرض لبنان الصغير لحصار عثماني خلال الحرب العالمية الأولى، مما أدى إلى تجويع أهله وهلاك ثلث سكانه، وهجرة ثلث آخر، وبعد انتصار الحلفاء والعرب على تركيا، أعطت فرنسا خياراً للبنان الصغير أن ينال استقلاله بحدوده، أم تُوسع رقعته لتضم بيروت والساحل والجنوب والبقاع، فاختارت حكومة جبل لبنان أن توسع حدوده، وأُعلنت الدولة الجديدة في أول سبتمبر 1920.
الانتداب الفرنسي
عام 1926 اتفق السياسيون اللبنانيون على دستور شبيه بالدستور الفرنسي، ولكنه مُطعم بنظام طائفي، مما زرع بذور الصراعات المستقبلية، فلا هو علماني، ولا هو فيدرالي، فاتحاً أبواب التأثير الخارجي عليه بعد الاستقلال، واستفاد اللبنانيون من دون شك من التنظيم الإداري والمؤسسات الثقافية الفرنسية لعقدين.
معادلة الاستقلال عام 1943
ولكن البورجوازية اللبنانية المسيحية- الإسلامية التي تشكلت تحت الانتداب الفرنسي أرادت الاستقلال الوطني "للبنان الكبير" وأنتجت ميثاقاً وطنياً قائماً على قاعدتين، الأولى، معادلة توزيع طائفي غير فيدرالي، وثانية، هي معادلة هوية نصفية بين من يؤمن بالقومية العربية، وأكثريتهم من المسلمين، ومن يؤمن "بقومية لبنانية"، ومعظمهم من المسيحيين، ولعل هذه الخيارات نجمت عن انتقال لبنان من كيان جبل لبنان إلى دولة لبنان الكبير عام 1920، فأنتجت البورجوازية الحاكمة شعار "لبنان ذي وجه عربي" لإرضاء الطرفين، بدلاً من فيدرالية دستورية كلاسيكية.
لبنان الجمهورية الميثاقية
بين عامي 1943 و1975 عاش اللبنانيون فترات الازدهار الاقتصادي، والاجتماعي والتجاري، مستفيدين من الخليج، وعدم المشاركة بالصراع العربي الإسرائيلي (إلا في عام 1948)، والصداقات الدولية، فتحول البلد إلى ما كان يُسمى "سويسرا الشرق"، وباتت هناك طبقة غنية وأخرى بورجوازية تستفيدان من السلم الأهلي، ودم التموضع الإقليمي، واقتصاد الخدمات، إلا أن "الاتجاهات القومية" القديمة استمرت تحت الرماد وقد وُصفت خطأً طائفياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوالت الأحداث والتأثيرات على لبنان منذ الاستقلال في محطات كانت تهز الجمهورية الميثاقية من دون أن تسقطها من الانتساب إلى الجامعة العربية، إلى حرب فلسطين واستقبال اللاجئين، إلى حرب أهلية عام 1958 التي كانت إنذاراً أولياً أن الخلاف على الهوية كان قابعاً تحت الرماد، وعلاقات لبنان الإقليمية كانت أصبحت موضوع خلاف بين فريقين داخل "لبنان الكبير" على الاتجاه غرباً أو شرقاً، والرئيس كميل شمعون، المؤيد للغرب اصطدم مع اليسار المؤيد للسوفيات والناصريين وتدخل الأميركيون.
وأتى حكم شبه عسكري، ولكنه برلماني الوجه، وأعاد الرئيس الجنرال فؤاد شهاب الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي لعقد ونصف العقد، ونعم لبنان الكبير بالازدهار لبضع سنوات إضافية، بيروت كانت تصطف مع الدول المحافظة العربية بوجه الأنظمة العربية الحليفة لموسكو، على الرغم من أن الطبقة الحاكمة كانت تسعى لتجنب الصدامات والحروب، إلا أن هذه الأخيرة أتت إلى لبنان، وليس العكس.
وبعد خروجها من الأردن، استوطنت منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان واشتبكت مع إسرائيل في الجنوب، واصطدمت أحياناً مع ميليشيات اليمين المسيحي، انقسمت الأحزاب اللبنانية تحت الرئيس شارل حلو بين مؤيد ومعارض للمنظمة، اليمين ضد، واليسار والقوميون العرب مع، بينما مؤسسات الدولة برئاسة الرئيس سليمان فرنجية منذ عام 1970 حاولت إيقاف المواجهة، ولكنها فشلت، وانفجرت حرب طويلة عام 1975.
لبنان الحرب الطويلة
وانقسم "لبنان الكبير" بين مناطق سيطرت عليها منظمة التحرير، وانضمت إليها ميليشيات "اليسار العروبي" تحت راية "الحركة الوطنية"، ومناطق سيطرت عليها أحزاب اليمين، التي توحدت تحت الجبهة اللبنانية والقوات اللبنانية، وبعض قطع الجيش بشكل غير رسمي، في صيف 1976، دخلت قوات حافظ الأسد لبنان، واشتبكت أولاً مع الفلسطينيين لتردعهم، وبعد ذلك هاجمت المناطق المسيحية لسنوات.
واجتاحت سوريا وإسرائيل لبنان، واحتلتا أجزاء واسعة منه حتى عام 1990، وكانت الدول العربية ساعدت النواب اللبنانيين لتوقيع اتفاق الطائف في ما بينهم في السعودية عام 1989، إلا أن قوات الأسد تمكنت من اجتياح كامل المناطق المسيحية بعد حرب داخلية طاحنة، داخلية بين القوات اللبنانية والجيش، وركزت وضعها في المناطق الإسلامية بمساعدة "حزب الله"، وسيطرت على بيروت نهائياً، فسقط 90 في المئة من "لبنان الكبير" بين يدي محور إيران.
لبنان ما بعد الطائف: الاحتلال السوري
بعد 15 سنة من حرب أهلية مدمرة، انتقل لبنان إلى مرحلة احتلال سوري شامل لـ15 سنة ثانية ما بين عامي 1990 و2005، تخللها تمدد للمنظومة الأمنية لنظام الأسد "حزب الله"، وحرب محدودة مع إسرائيل، وحملات قمع داخلية للمعارضة اللبنانية، في الجنوب، استمرت منطقة يديرها "جيش لبنان الجنوبي" المتحالف مع إسرائيل، في خروجها عن السلطة اللبنانية و"حزب الله" والأسد، حتى عام 2000، عندما انسحبت إسرائيل وانسحب معها عديد الجيش الجنوبي إلى داخل أراضيها في مايو (أيار) عام 2000.
ثورة الأرز عام 2005
بعد عام 2000 تحركت المعارضة، والمجتمع المدني والاغتراب اللبناني على محاور عدة ضد الاحتلال السوري، وتمكن لبنانيون في أميركا والغرب من إنتاج قرار دولي رقم 1559 دعا إلى سحب قوات الأسد من لبنان، رد المحور باغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، فانفجرت تظاهرات وحدت المعارضة من كل الطوائف، ورد "حزب الله" بمسيرة حاشدة "لشكر الأسد"، فردت ثورة الأرز بحشد أكثر من مليون مواطن، فتدخلت أميركا وفرنسا ودعت النظام لكي يخرج من لبنان، وهكذا فعل في أبريل (نيسان)، إلا أن "حزب الله"، الذي رفض نزع سلاحه، استمر بمحاولة إبقاء "لبنان الكبير" تحت سلطة إيران، عبر اغتيالات وتحركات أمنية.
انقلاب حزب الله عام 2008
في مايو 2008، اجتاح "حزب الله" غربي بيروت ذات الأكثرية السنية، وهاجم القرى الدرزية في الجبل، وأسقط حكومة فؤاد السنيورة، ونسق مع قطر، لإعادة تركيب السلطة في لبنان، تحت نفوذ الحزب، ومنذ الانقلاب، أُضعفت ومن ثم أُخمدت ثورة الأرز. أضف إلى ذلك حكم إدارة أوباما في أميركا، الذي ترك ملف لبنان جامداً بسبب الاتفاق النووي الإيراني.
الربيع العربي و"حزب الله"
منذ عام 2011 حول "حزب الله" لبنان إلى قاعدة كبرى للانفلاش الإيراني في المنطقة، لينطلق منه إلى الانخراط في حروب المنطقة في سوريا والعراق واليمن، ووصل إلى فنزويلا، وزوايا أخرى من العالم، فحول الدولة الصغيرة التي ساعد الفرنسيون على إنشائها عام 1920 إلى مساحة جغرافية يستعملها الحزب ليقوم بعمليات عسكرية وأمنية ومالية في مختلف بقاع العالم، مورطاً هذا البلد المتعدد الطوائف في أزمات دولية، وضد العالم العربي والغرب معاً.
ثورة أكتوبر 2019
في أكتوبر (تشرين الأول) 2019 تفجرت ثورة شعبية عارمة عابرة للطوائف في بيروت ومعظم المدن اللبنانية رافضة كل الطبقة السياسية منذ عام 1943، ومطالبة بإسقاط النظام برمته. فتصدى لها "حزب الله" وقمعها، ولكن نار الثورة لم تنطفئ، وسقط لبنان تحت سحاب كورونا عام 2020 وسقط اقتصاده أيضاً، وفي الرابع من أغسطس (آب) دمر انفجار المرفأ نصف بيروت، فانفجرت عواطف المواطنين بكل الاتجاهات، "حزب الله" لا يزال متربعاً على صدور اللبنانيين، والعالم منشغل بكورونا ومشاكله، والعرب يواجهون إيران في عقر دارهم.
اللبنانيون يفجرون خياراتهم
ثورة أكتوبر وانفجار بيروت وكأنهما أحدثا فجوة في ثقة أكثرية الشعب اللبناني في نظامهم وفي عمق كيانهم، منهم من يريد إسقاط كل المؤسسات وإقامة دولة جديدة من دون ميليشيات، ويختلفون على شكلها، وهويتها، وحياديتها وعلاقاتها، واقتصادها، وطائفيتها. والبعض يريدها اشتراكية، والبعض الآخر ليبرالية علمانية، وآخرون يتمسكون بهوية تقليدية طائفية، ولكن أكثرية اللبنانيين الساحقة تريد دولة من دون أي ميليشيات وانتماءات إقليمية لإيران والتكفيريين، إلا أن عدداً متزايداً من اللبنانيين بات رافضاً الاستمرار "بلبنان الكبير" ما دام "حزب الله" ملتصقاً به، ونقرأ في مواقع التواصل الاجتماعي تغريدات من عمق الألم تعلن سقوط الكيان الذي أعلن في سبتمبر 1920، فما دام "حزب الله" متمترساً في لبنان الكبير، يدعو هؤلاء اللبنانيون المقهورون لإقامة "لبنان صغير" على أرض لبنان الكبير، بعيداً عن مناطق "حزب لله". والملفت للانتباه أن هؤلاء اللبنانيين الداعين للانفصال عن الحزب عملياً يريدون مساحة للعيش المشترك بين سنة، ومسيحيين، ودروز، وكل من انفصل عن الحزب من الشيعة.
بكلام آخر، أكثرية اللبنانيين يريدون لبناناً أصغر يعيشون فيه، بسلام وبعيدين عن الميليشيات الإيرانية، وما يقصدون فعلاً هو رفض العنف، والفاشية، والإرهاب، وثقافة الموت، ولو اضطروا إلى أن يعيشوا في "ألمانيا غربية" بعيداً عن ستالينية "ألمانيا الشرقية" التي يمثلها "حزب الله"، وحلمهم أن يسقط "الاتحاد السوفياتي" الذي يمثله النظام الإيراني، لأنه بعد التغيير الكبير في مرحلة ما بعد "حزب الله"، سينتج اللبنانيون نظاماً ديموقراطياً، تعددياً، فيدرالياً، مسالماً، منفتحاً على المنطقة، يجمع سلام وبساطة "لبنان الصغير" بمقدرات وتنوع "لبنان الكبير"، ولأكثر من 100 عام.