تلمّع صفحات على مواقع التواصل الاجتماعي، يديرها مدوّنون محترفون، صور السياسيين العراقيين وتشوّه أخرى وتقود حروبهم على الإنترنت، لكنها على الرغم من انتمائها إلى ساسة من حيث التمويل والمضمون، لكنها لا تحمل أسماءهم أو شعاراتهم بل أسماء شعبية عراقية مألوفة لدى الجمهور.
على سبيل المثال ظهرت في العام 2017 صفحات خاصة تحمل أسماء مختلفة منها "الك ونة"، "حكم العوائل"، "حرامي الجادرية"، "الفاسد لا يصلح" وصفحة "حرامية"، فضلاً عن صفحتَي "قصف سياسي" و"سرسري متقاعد"، وتدير تلك الصفحات حروب السياسيين ضد بعضهم بعضاً.
واتُهم صحافيون بإدارة صفحات تابعة لسياسيين عراقيين كثيراً ما انتقدوهم في كتاباتهم أو في برامجهم التلفزيونية، لكنهم عملوا معهم كجزء من "جيش إلكتروني" يدير صفحات تنتقد خصومهم السياسيين وتحاول النيل منهم بطرق شتى سراً.
الأسماء التي اختارها القيّمون على تلك الصفحات مألوفة جداً لدى العراقيين وحصلت على نسب متابعة عالية تراوحت بين 100 و400 ألف متابع على "فيسبوك"، لكنها في الوقت ذاته تروّج أفكاراً تسعى من خلالها إلى تغيير اتجاهات الرأي العام. ونظراً إلى أن معظم العراقيين ينشطون في مناقشة المسائل السياسية على مواقع التواصل فإن تلك الصفحات كانت تستفز ذلك الميل لديهم وتُدخلهم في سجالات لا تنتهي.
نوعان من الصفحات
نوعان من الصفحات ظهرت على "فيسبوك"، النوع الأول، هو تلك التي حملت أسماء مستعارة وقريبة من الشارع، أما النوع الثاني، فكشف عن تبعية لساسة تروّج لهم ولنشاطاتهم. ومعظم الصفحات المنتمية إلى النوع الأول توقفت بعد أشهر على انطلاقها، فعلى سبيل المثال، صفحة "سياسي حشاش" التي كانت تهاجم رئيس الوزراء العراقي السابق نور الدين المالكي توقفت منذ نوفمبر (تشرين الثاني) 2017 على الرغم من وصول عدد متابعيها إلى 331 ألفاً، بينما استمرت الصفحات التي تحمل توجهات صريحة مثل صفحة "العبادي واضحاً" التي تنشر ولا زالت نشاطات رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي.
يتقاضى مديرو تلك الصفحات رواتب شهرية من سياسيين، إذ يُنشئون تلك الصفحات ثم يشرفون عليها لبضعة أشهر وفق الأوضاع في البلاد، ثم تغلق وتنتهي، وتظهر صفحات أخرى في ظروف مختلفة، فالصفحات التي تُفتح أيام الانتخابات غير التي تفتح عند الأزمات الأمنية، أو حين تشتد الصراعات بين الكتل النيابية حول قانون يحاول بعض الساسة تمريره، فيما يرفضه منافسون لهم.
وإحدى أبرز الصفحات الناشطة التي تُدار من قبل "الجيوش الإلكترونية" هي صفحة "حرامية" التي يتابعها حوالي 573 ألفاً على "فيسبوك"، وصفحة "بسمارج منج يالوحة" التي يتابعها أكثر من 333 ألف شخص.
من طائفية المؤتمرات إلى "فيسبوك"
يتذكر مَن يتابع الوضع العراقي، كيف كانت حروب السياسيين العراقيين بين العامَين 2006 و2007 حين كانوا يحرّضون الناس مذهبياً ضد بعضهم بعضاً، إذ قادوا حرباً طائفية امتدت سنتين، في ذلك الوقت كان الناس يتابعون سياسة التحريض التي مارسها سياسيون في مؤتمراتهم التي يتبادلون فيها التهم، أما اليوم، فإن تلك الحروب تُدار من قبل محترفين على مواقع التواصل الاجتماعي.
وتملك معظم الأحزاب والشخصيات السياسية "جيوشاً إلكترونية"، تخصّص لها أقساماً في مكاتبها الإعلامية. كما أن صراعات هذه "الجيوش" على مواقع التواصل الاجتماعي تشكّل انعكاساً واقعياً لخريطة الصراعات السياسية القائمة بين الكتل والأحزاب، وبينما تتصارع "جيوش" في ما بينها حول قضية معينة، نجدها تتوحد في قضايا أخرى تناغماً مع تقارب الكتل وتباعدها حول تلك القضايا.
وتكسب تلك الصفحات المتابعين في شكل سريع يصل عددهم إلى أكثر من مئة ألف في غضون أيام معدودة، بفضل إعلانات ممولة، كما تنشر مقاطع كوميدية لاستدراج المتابعين بسرعة. كما تنشر وثائق وصوراً مفبركة أحياناً بهدف تخوين واتهام خصومها. وتتضمن وثائق مزعومة لملفات فساد إداري ومالي غير متداولة في وسائل الإعلام، بينما تقوم صفحات أخرى بتعديل (مونتاج) وثائق لوزارات وهيئات رسمية عبر برامج "فوتو شوب" لإضفاء نوع من الصدقية على الأخبار.
وغالباً ما تحصل هذه المنشورات على تفاعل واسع من الجمهور الذي يميل إلى تصديقها ويبني عليها مواقفه، فيما تنهال التعليقات سريعاً. ويستخدم سياسيون هذه الوثائق في بياناتهم وتصريحاتهم على وسائل الإعلام، ما أضفى عليها نوعاً من "الصدقية الكاذبة".
الإعلام يتأثر
وأصدر "بيت الإعلام العراقي"، وهو منظمة مجتمع مدني محلية تصدر تقارير دورية حول الإعلام وتأثيره في المجتمع، تقريراً بعنوان "الجيوش الإلكترونية ترفع لثامها"، خرج بنتائج عدة منها، أن وسائل الإعلام التقليدية انخرطت في حملات "الجيوش الإلكترونية" عبر تبنّي ما تنشره في صفحاتها ضمن تغطياتها اليومية، على الرغم من أنها مفبركة. وأسهم الإعلام في أن يكون وسيلةً لتعميم منشورات صفحات "الجيوش الإلكترونية".
واستند التقرير إلى متابعة ومراقبة أكثر من 200 صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي على مدى ثلاثة أشهر، أظهرت بوضوح كيف تُدار هذه الصفحات وماذا تستهدف ومتى، وكيف لعبت أدواراً سلبية في فترات السلم والأمن في البلاد، وأسهمت في إقحام الجمهور في أزمات سياسية.
وتضمن التقرير رصداً دقيقاً وموثّقاً بالصور لتاريخ إنشاء صفحات وتعريفاتها وعدد متابعيها مع عينة من منشوراتها، إضافة إلى عدد المتفاعلين بـ"الإعجاب والتعليقات والمشاركة على الصفحات الشخصية" لتسليط الضوء على سرعة انتشار وحجم هذه الأخبار بين العراقيين على مواقع التواصل.
وكشف التقرير عن الأماكن التي تُدار منها هذه الصفحات بعد وقوع بعض القائمين عليها في أخطاء تقنية وعدم إخفاء الخصوصية أثناء وضع المنشورات، عبر تشغيل خدمة الموقع (GPS)، إذ إن عشرات الصفحات تتضمن موقع البلد الأساس الذي أُنشئت فيه، أكانت في العراق أو في دول الجوار أو دول أوروبية.
وكشف التقرير أيضاً، عن انخراط صحافيين في ظاهرة "الجيوش الإلكترونية" عبر إدارة صفحات سراً أو تضمين صفحاتهم حملات تتناغم مع تلك التي تشنّها الجيوش الإلكترونية. كما أن منشورات معظم الصفحات مكتوبة ومحررة بطريقة محترفة لغوياً، لكنها تفتقر إلى المهنية عبر تبنّي صياغات تهجمية أو تهكمية ضد أحزاب وشخصيات وفئات اجتماعية، واستخدام عبارات كراهية مباشرة مثل "خيانة"، "جواسيس"، "عملاء"، "حمقى"، "غدر" و"جبان".
حروب الساسة ومحاولات إسقاط بعضهم للآخر انتقلت إلى "فيسبوك" في عملية منظمة لا يُتوقع أن تنتهي قريباً، إلا في حال بروز مواقع تواصل تلقى رواجاً أكبر بين العراقيين.