في يوم من أيام أحد أعوام بداية سنوات الثمانين من القرن التاسع عشر، حدث المشهد التالي في إسطنبول: كان السلطان عبدالحميد يؤدي صلاة الجمعة في أحد المساجد، وما إن انتهت شعائر الصلاة وساد الصمت ثواني، حتى انبرى من بين المصلين شيخ متقدم من السن، راح "يخطب بحماسة منذراً خليفة المسلمين بالبدعة الجهنمية التي تهدد عقيدة الأمة وتحدث الفتن". ليختم مستغيثاً: "أدركنا يا أمير المؤمنين، فإن الفسق والفجور قد تفشيا في الشام فهُتكت الأعراض، وماتت الفضيلة ووُئد الشرف واختلطت النساء بالرجال!". فكان أن صدرت الإرادة السنّية إلى حمدي باشا، والي الشام بـمنع الشيخ أبي خليل القباني من التمثيل وإغلاق مسرحه.
ثورة الشيخ المغرضة
إذاً حين ثار ذلك الشيخ العجوز ويدعى الشيخ سعيد الغبرا، وأبلغ ثورته إلى السلطان مستغيثاً، كان يثور ضد مسرح القباني. والطريف الذي يرويه محمد يوسف نجم في كتابه القيّم عن "المسرحية في الأدب العربي الحديث" هو أن سبب ثورة الشيخ الغبرا لم تكن رغبته في الحفاظ على الأخلاق، بل قلة المبلغ الذي كان القباني يقدمه له لقاء سكوته عن ولادة فن المسرح في دمشق. فالحال إن ما كان القباني يفعله، هو تأسيس ذلك الفن الذي لم يكن له وجود عملي قبله في تلك المدينة. أدت ثورة الشيخ الغبرا، إذاً، إلى توقف القباني عن نشاطه في سورية فارتحل إلى مصر، حيث واصل عمله فيما اضطر محبو المسرح في الشام إلى الانتظار سنوات طويلة قبل أن يبعث فيها فن المسرح من جديد.
هذه الحكاية تكمن في خلفية نصّ مسرحي آخر لكاتب سوري أيضاً، سيكتبه بعد ذلك بأكثر من قرن بعنوان "سهرة مع أبو خليل القباني" كنص مسرحي جمع بين ذينك الكاتبين السوريين اللذين يمكننا القول إن أولهما كان البداية الجدية والحقيقية للمسرح العربيّ المشرقيّ كما ساد حتى نهايات القرن العشرين على الأقل، فيما كان الثاني أشبه بالنهاية المحزنة لذلك الفن الكبير. ونتحدث هنا طبعاً عن نهاية سعد الله ونوس كاتب مسرحية "سهرة مع القباني" التي نشير إليها.
دهشة الأسماع والأبصار
القباني، مؤسس فن المسرح في دمشق، وأحد بناة حركة النهضة المسرحية في مصر بعد ذلك، ينتسب إلى أسرة تركية الأصل، ولد في العام 1834 تقريباً، وامتهن في صباه مهنة القبّان، قبل أن يكشف عن ميوله الموسيقية والغنائية. أما بدايته الفنية الحقيقية فكانت، بحسب محمد كرد علي، في العام 1865، إذ يقول كرد علي في كتابه "خطط الشام": "بيد أن العصر الأخير لم يضفِ على الشام تجلي الآداب الرفيعة فيه، فقام سنة 1882، وفي دمشق أيضاً، رجل من أبنائها هو السيد أحمد أبو خليل القباني وأنشأ داراً للتمثيل ويضع روايات وطنية من تأليفه ونظمه وتلحينه ويمثلها فتجيء دهشة الأسماع والأبصار". ويروى أن المسرح قبل القباني لم يكن له وجود في دمشق إلا في مدارس الإرساليات. أما عمل القباني فبدأ في عهد الوالي مدحت باشا، الذي كان رائداً من رواد الحرية والتقدم. أما محاولة القباني الأولى فكانت عبر مسرحية بعنوان "ناكر الجميل" التي قدمها مع بعض أصدقائه في دار جده، على سبيل التجربة، فكان لنجاحها أثر انعطافي في حياته حيث تابع طريقه بعد ذلك وراح يكتب ويمثل ويلحن مسرحيات مقتبسة من "ألف ليلة وليلة" ومن التراث، وكان من النجاح بحيث افتتح أن مسرحاً خاصاً به، ما أحدث ثورة في العقليات الشامية. وسكت عنه الرجعيون لتهيبهم مجابهة مدحت باشا الذي كان يشمل القباني برعايته. لكن حين قدم القباني مسرحية "أبو الحسن" وعجز في الوقت نفسه عن مواصلة مد المشايخ بالرشاوى التي تسكتهم، ثاروا ضده، وتولى قيادة ثورتهم الشيخ سعيد الغبرا الذي قصد إسطنبول لمحاربته كما أسلفنا.
أما بالنسبة إلى ونوس فستبقى حكاية صراعه الطويل مع المرض، واحدة من أكثر حكايات الأدب العربي الحديث إثارة وقوة. وسيبقى رد فعله إزاء مرضه - الذي قضى عليه في نهاية الأمر - واحداً من التحديات البشرية الأكثر دلالة على إرادة الفنان وعلاقته بالحياة والموت وبذاته وبالآخرين.
مسرح للغضب وأكثر
مهما يكن فإن سعد الله ونّوس، الذي انتهت حياته عام 1997، عرف كيف ينظم موته، هو الذي أبداً لم يعرف كيف ينظم حياته، وعرف كيف يستعد له طويلاً وكيف يستقبل يوم النهاية، وكأنه استمرار لحفلة السمر التي أقامها ذات يوم، من أجل الخامس من يونيو(حزيران)، تلك الحفلة التي حملت اسمها واحدةٌ من أولى وأقوى مسرحياته التي اعتبرت بداية رد فن المسرح على هزيمة 1967، ولا تزال تعتبر حتى اليوم واحدة من أبرز المسرحيات العربية الغاضبة التي كتبت خلال النصف الثاني من القرن العشرين. لكنها لن تكون أجمل مسرحياته وإن كانت أشهرها. ولعل هذه الصفة تصدق أكثر على اثنتين من أعماله الأخيرة، المسرحية التي كرّسها لاستعادة ذكرى سلفه الكبير القباني التي تبدو كمسرح داخل المسرح محاولة أن تقول الغضب، من خلال التراث هذه المرة، وتلك الأخرى المعنونة "طقوس الإشارات والتحولات" التي عاد فيها كذلك إلى التراث إنما برؤية معاصرة وغضب بدا أكثر حدة مما سبق. ولربما يمكننا القول هنا إن مشكلة مسرح ونوس التي تجعله بعيداً بعض الشيء عن الحياة المسرحية اليوم، تكمن في مباشرتها السياسية وفي تحميله المسرح أعباء الأوضاع العربية كلها.
مهما يكن من أمر فإن ونوس، لم يكن في نهاية المطاف كما كان لكثيرين يتوقعون له في بداياته، كاتب مسرحية واحدة، على غرار معظم الكتّاب العرب الذي برزوا خلال تلك المرحلة نفسها، بل كان كاتباً غزيراً ممنهج الإنتاج يجعل من النصوص التي يكتبها ليس فقط مرآة رؤيته للعالم وللواقع منظوراً إليهما بقسط كبير من الغضب والتمرد، بل كذلك تعبيراً عن جيل بأسره وعن حالة غضب بعامة. من هنا كانت مكانة سعد الله ونّوس الأساسية في تاريخ المسرح والأدب العربي الحديث.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
بين البحر والحنين
يقول ونوس عن نفسه: "أنا من قرية ساحلية شمال طرطوس هي حصين البحر، على مسافة عشرة كيلو مترات منها، قضيت فيها الدراسة الابتدائية، ثم انتقلت إلى مدينة طرطوس حيث أكملت المرحلتين المتوسطة والثانوية (...) كان البحر يمتزج بالحنين الداخلي العميق نحو المجهول، نحو السفر ونحو البعيد. للبحر متع يومية ولكن، كيف تفصل الجسدي عن الوجداني وعن الحلم؟ حتى الآن لا أعرف ما هو البحر سوى أنه مسألة كبيرة". ولد سعد الله ونّوس، إذن، في "حصين البحر" في الشمال الغربي لسورية، في 1941. وكان في التاسعة عشرة من عمره حين توجه إلى القاهرة ملتحقاً بجامعتها، حيث نال ليسانس الآداب - قسم الصحافة؛ غير أنه لم يكتفِ من التحصيل العلمي بذلك، إذ إنه، ما إن حاز على تخرجه في جامعة القاهرة، وفي الوقت الذي يمارس الكتابة، حتى تحول إلى باريس حيث نال من جامعة السوربون دبلوم الدراسات المسرحية، مقيماً في العاصمة الفرنسية لتلك الغاية بين 1966 و1968.
خلال الستينيات، وقبل أن تنطلق شهرته ككاتب مسرحي مع مسرحيته "حفلة سمر من أجل الخامس من حزيران"، التي نشرت للمرة الأولى في 1968، مارس ونّوس العمل الصحافي، محرراً في مجلة "المعرفة" التي تصدر عن وزارة الثقافة السورية، ثم ترأس تحرير مجلة "أسامة" للأطفال، وانتقل بعدها إلى بيروت حيث ساهم في صحافتها الثقافية، لكنه، مع اندلاع الحرب اللبنانية، عاد إلى دمشق، ليتولى إدراة المسرح التجريبي التابع للدولة، وفي الوقت نفسه، رئاسة تحرير مجلة "الحياة المسرحية".
مهما يكن فإن معظم ما كتبه سعد الله ونّوس كان للمسرح وحوله، منذ نصوص "حكايا جوقة التمثيل" (1965) حتى "رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة" (1990). أما مسرحياته الأخرى والتي قدمت حتى الآن على معظم المسارح العربية، فتشمل "مأساة بائع الدبس الفقير" (1978)، "فصد الدم" (1978)، "الفيل يا ملك الزمان"، "مغامرة رأس المملوك جابر"، إلى ذلك العمل البديع الذي كانته "سهرة مع أبي خليل القباني" (1973) التي ينطلق فيها في لعبة مسرح داخل المسرح، من تقديم القباني لمسرحية عن هارون الرشيد معلناً انتماءه المباشر إلى ذلك الرائد الكبير، وأخيراً "الملك هو الملك" (1977) و"الاغتصاب" (1990).