ملخص
اعتُبر منع روسيا طائرة إيران من الهبوط في قاعدة حميميم الجويةـ تطوراً لافتاً في سياق النزاع الإيراني- الإسرائيلي يضع روسيا على المحك، لا سيما التساؤل عن دورها المحايد، والذي ظل على مسافة واحدة من كل أطراف النزاع منذ انطلاقة الشرارة الأولى لمعركة "طوفان الأقصى".
منعت قاعدة حميميم العسكرية الروسية، الواقعة في ريف اللاذقية، غرب سوريا، طائرة إيرانية تتبع لشركة "ماهان إير" من الهبوط على مدرجها بعد دخولها الأجواء السورية وعادت إلى إيران، بعدما رجحت مصادر أن تكون محملة بالأسلحة والعتاد لمصلحة "حزب الله" والفصائل الإيرانية العاملة على الأرض السورية.
يأتي ذلك في وقت أجرت موسكو اتصالات مكثفة مع الإسرائيليين بغية تحييد المطارات المدنية بعد وابل من الضربات المدمرة تعرضت له مدرجات المطارات المدنية، ولا سيما مطارَي حلب ودمشق شريطة عدم استخدام المطارات في عمليات نقل السلاح إلى "حزب الله" في لبنان أو المجموعات الإيرانية.
النأي بالنفس
هذا التطور اللافت للنظر في سياق النزاع الإيراني- الإسرائيلي يضع روسيا على المحك، لا سيما التساؤل عن دورها المحايد، والذي ظل على مسافة واحدة من كل أطراف النزاع منذ انطلاقة الشرارة الأولى لمعركة "طوفان الأقصى" التي شنتها حركة "حماس" الفلسطينية في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ومنها إلى الحرب اللبنانية التي توسعت في سبتمبر (أيلول) الماضي. ومع كل التداعيات السياسية والعسكرية والقصف الإسرائيلي المتزايد على أهداف ومواقع سورية، بقيت روسيا تنأى بالنفس.
ولم يبدِ مدير مركز "جي أم أس" للأبحاث والدراسات، الدكتور آصف ملحم، في حديثه من موسكو، استغراباً حيال منع روسيا هبوط الطائرة الإيرانية بقاعدة حميميم، "وذلك بغية عدم تحميل موسكو مسؤولية مشكلات إيران في سوريا". وأضاف أن "الوجود الإيراني بحد ذاته يعترض عليه الكثير من العرب أنفسهم، وعلاقة روسيا تتطور مع المحيط العربي، وموسكو تجد نفسها مضطرة للوقوف إن صحّت التسمية، في موقف وسطي ومحايد".
ويشرح ملحم في معرض تفسيره الموقف الروسي بأنه "لا يمكن لروسيا كدولة عظمى، ودولة عضو دائم بمجلس الأمن أن تتبنى الموقف الإيراني، أو بعض مواقف الحركات المسلحة في المنطقة، أو ما ترفعه من شعارات وأهداف بإزالة إسرائيل، في وقت روسيا تدعو إلى حل الصراع العربي- الإسرائيلي وفق قرار مجلس الأمن الدولي الذي يقود إلى حل الدولتين. ولهذا لا تعتبر روسيا نفسها مسؤولة عن نشاط 'حزب الله' و'الحرس الثوري' الإيراني، ومستودعاته ومخازن أسلحته، وروسيا غير مسؤولة عن حمايتها. كما أن إيران غير مسؤولة عن حماية قواعد روسيا في سوريا".
وكانت دمشق منحت القوات الروسية الحق باستخدام قاعدة حميميم الجوية في أغسطس (آب) 2015 لتنفيذ مهمات قتالية ضد الفصائل المعارضة المسلحة. وأجرت روسيا عمليات توسيع لها عبر إنشاء برج مراقبة للملاحة الجوية ومرافق لوجيستية. وبعد عام من اقتصار العمل على هبوط الطائرات الملاحية، تمكنت القاعدة بعد التوسيع من التعامل مع مقاتلات مثل "أنتونوف- أن 124" و"إليوشن" فضلاً عن السوخوي. وأسست داخل القاعدة مركزاً للتنسيق مع الأطراف المتحاربة تنفيذاً لاتفاقيات وقف النار باستثناء التنظيمات المتشددة مثل داعش والنصرة".
وكان التحالف الإيراني- الروسي تبلور في الحرب الأوكرانية في عام 2022 عبر تزويد طهران موسكو بصواريخ باليستية ومئات الطائرات الهجومية من دون طيار، الأمر الذي نفته إيران على رغم تسريبات عن ذلك. وظل الكرملين متمسكاً بهذا التحالف حتى مع الرئاسة الجديدة لإيران حيث التقى الرئيس الروسي فلاديمر بوتين ونظيره الإيراني مسعود بزشكيان في 11 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وأبديا توافقاً حول مختلف القضايا.
وبالحديث عن هبوط الطائرات، يستعرض مراقبون هبوط طائرات روسية في إيران في وقت سابق من عام 2016 ويبلغ عددها أربع مقاتلات من نوع "توبوليف" و"سو 34" في مطار "نوجة" في غرب محافظة همدان، ومن ثم أقلعت لاستهداف مواقع في سوريا، بينما يحظر الدستور الإيراني في المادة 146 منه إقامة أي نوع من القواعد العسكرية الأجنبية على الأراضي الإيرانية حتى لأغراض سلمية. وقال مجلس الأمن القومي الإيراني في حينه إن "هدف هبوط الطائرات الروسية هو التزود بالوقود وحسب".
في المقابل يرى متابعون للموقف الروسي، في منع الطائرة "تحجيماً لطهران"، ويدفع بتأزيم العلاقات بينهما علاوةً على الخلافات الواضحة بالميدان العسكري. ويتحدث الباحث الأكاديمي في العلاقات الدولية سعيد الإبراهيم عن "استياء عارم من قبل الشارع السوري تجاه كلا الطرفين الروسي والإيراني لعدم تدخلهما لوقف الهجمات الإسرائيلية المتلاحقة، إما بنشر منظومات دفاع جوي إيرانية أو تفعيل المنظومات الروسية".
وأردف "ليس مفيداً لإيران توتير العلاقات مع روسيا بخاصة أنها ترغب باتمام صفقات طائرات لتعزيز سلاح الجو الإيراني المتهالك، والحصول على أنظمة صواريخ (بانتسير أس1) طويلة المدى، مع حاجتها لدعم عملياتي وتكنولوجي، واتصالات، الحاجة الإيرانية لروسيا تتزايد يوماً بعد يوم، ليس بالمجال الاستخباراتي والعسكري فحسب بل في المجال السياسي والدبلوماسي، كأن تعترض موسكو حول أي قرار يضر بطهران في مجلس الأمن الدولي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
صراع النفوذ أم التوافق؟
في غضون ذلك، تعد القاعدة الروسية الجوية من أبرز المواقع وأكثرها حساسية حيث تنطلق منها كافة المقاتلات منذ الحضور الروسي إلى سوريا في عام 2015، وظلت العلاقة بين موسكو وطهران بالسياسة توافقية لكن بقيت في أرض الميدان بعيدة وعلى مسافة آمنة بين قواتهما.
ويعتقد مدير مركز "جي أم أس" للأبحاث والدراسات، آصف ملحم، بوجود "خلافات روسية وإيرانية تكتيكية، فعندما حارب الطرفان التنظيمات المسلحة والمتشددة منها، كان ملاحَظاً الاختلاف بطريقة التدريب، والعقيدة العسكرية التي تميز كل طرف عن الآخر، ولا سيما الخلافات بين القادة الميدانيين، لكن على المستوى السياسي لا توجد خلافات نهائياً بين روسيا وإيران".
وكان محيط القاعدة الجوية الروسية "حميميم" تعرض في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي لقصف إسرائيلي طاول مستودعاً للذخيرة والصواريخ. وأفادت المعلومات حينها عن وجود مستودع للإيرانيين. وجاء القصف في أعقاب وصول طائرة إيرانية. وأقلق هذا الاستهداف الجانب الروسي، وأعلن المبعوث الخاص للرئيس الروسي، ألكسندر لافرينتيف، أنه تم إبلاغ تل أبيب بأن الهجمات الأخيرة "غير مقبولة". وأشار إلى طلب إسرائيل ضمانات لمنع مرور شحنات عسكرية عبر سوريا إلى لبنان، لكن الأمر خارج نطاق صلاحيات العسكريين الروس.
وعلى رغم توتر العلاقات بين موسكو وتل أبيب إلا أن اتفاقية منع التصادم بين قواتهما تنفَذ في الأجواء السورية، بدليل عدم تفعيل منظومات الدفاع الجوي ضد الطائرات الإسرائيلية، التي كانت أغلب هجماتها عبارة عن ضربات موجهة للقواعد الإيرانية ونقاط تمركز الفصائل التابعة لها. وكانت موسكو اتهمت تل أبيب بإسقاط طائرة روسية نوع "إليوشن" في سبتمبر (أيلول) من عام 2018 ما أدى إلى مصرع 15 جندياً روسياً. وسقطت الطائرة فوق غرب اللاذقية أثناء اتجاهها إلى قاعدة حميميم، وبغية عدم تكرار حوادث الاصطدام بدأ التنسيق بين البلدين.
الفصائل الإيرانية على المحك
وعن القصف الإسرائيلي للمواقع الإيرانية، يرى الخبير في شؤون الجماعات المدعومة من إيران، فيليب سميث، في دراسة للمركز الأوروبي لبحوث مكافحة الإرهاب والاستخبارات، أن "الضربات الإسرائيلية تدل على أهدافها في إضعاف عناصر القيادة داخل 'حزب الله' والجماعات الأخرى التابعة لإيران، نظراً لأن الحزب بحاجة إلى قيادة بين 3000 إلى 7500 مقاتل داخل سوريا وسط تزايد الضربات الإسرائيلية نقلت إيران بعض وكلائها من سوريا إلى العراق، بما في ذلك لا يقل عن 12 مستشاراً عسكرياً رفيعي المستوى نُشروا في تدمر ودمشق".
وإزاء ذلك يجزم الباحث المتخصص بالشؤون الروسية والأوروبية، آصف ملحم بأن "التدخل الروسي بالصراع الإيراني- الإسرائيلي مرتبط بمقدار التدخل الأميركي بالمنطقة، ولهذا موسكو ستجد نفسها مضطرةً للدخول في صراع مع أميركا، وفي أي منطقة أو بقعة من بقاع العالم، كون روسيا رفعت شعار نظام دولي جديد. ومن الممكن أن تنشر روسيا منظومة دفاع متوسطة وقصيرة المدى في العديد من دول العالم، وستبقى هذه المواجهة مستمرة". وتابع، "السياسة كما تفهمها روسيا هي لعبة مستمرة ولذلك إذا دخلت أميركا على خط الأزمة بين إيران وإسرائيل دخولاً عسكرياً عنيفاً، فإن روسيا بالتأكيد ستتدخل بنفس الصورة وستزودها بكل الاحتياجات من منظومات الدفاع القادرة على مواجهة الإسرائيليين والتعاون العسكري الروسي- الإيراني تعاون وثيق بلا شك".