مواقع وصفحات عدة تحمل وصفات لصناعة "قناع بطلك الخارق المفضل" أو "زي بطلك الخارق المفضل". لكن أياً من هذه الصفحات لا يحمل كيفية صناعة البطل الخارق نفسه. أبطال خارقون عديدون عرفوا طريقهم إلى الساحة الشعبية والإعلامية في مصر في الآونة الأخيرة. بدءاً بـ"سيدة القطار" و"بائع الفريسكا" و"ابنة بائعة الرصيف" ومروراً بـ"بائع التين" و"سائقة الميكروباص" و"فتاة العربة" وانتهاء بـ"سبايدر مان سفارة إسرائيل" و"شاب المدرعة" وفتاة العباءة" وفي أقوال أخرى "ست البنات"، وذلك في ترتيب زمني من الأحدث للأقدم يموج الحديث بين الناس وعبر الشاشات الفضية وعلى أثير مواقع التواصل الاجتماعي وأخيراً في الدوائر الرسمية بين الحين والآخر بتغن وتغزل وتمعن.
هيمنة "سيدة القطار"
بالتمعن في أبرز الموضوعات والقضايا والقصص الخبرية التي شغلت اهتمام المصريين ووقت الإعلام الرسمي وجهد مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية، تتضح هيمنة شبه كاملة وسيطرة شبه فائقة لقصة "سيدة القطار"، ورحلة البحث عنها ثم سباق الحصول على لقاء معها وزوجها، فإن تعذر ذلك فأقاربها أو زوجها أو غيرها من ركاب القطار.
قصة سيدة القطار دارت أحداثها قبل أيام قليلة في القطار المتوجه من المنصورة (عاصمة محافظة الدقهلية) إلى القاهرة حين سمعت السيدة الأربعينية صفية أبو العزم صوت سجال شديد في العربة، واتضح أن المحصل طالب مجنداً عسكرياً بدفع قيمة التذكرة بطريقة غير لائقة، فهرعت لتؤنب المحصل، وبادرت بدفع قيمة التذكرة نيابة عن المجند. في تلك الأثناء كان أحد الركاب يصور ما جرى، وقام بتحميل المقطع على مواقع التواصل الاجتماعي، وما هي إلا دقائق قليلة حتى أصبحت السيدة حديث الساعة وحتى الساعة. وبذل إعلاميون وآخرون جهوداً مكثفة حتى عثر على السيدة التي تحولت بين رحلة قطار وضحاها إلى "أيقونة" و"سوبر هيرو" على الساحة المصرية.
الساحة متخمة
أخذت الساحة تمتلئ بحوارات مع السيدة، ثم زوجها، وبعدهما أقاربها وجيرانها. وتبنى الإعلام التقليدي بأذرعه المختلفة مهمة نشر القصة وعرضها والقيام بدور همزة الوصل بين جموع المعجبين الغفيرة والسيدة. رجل أعمال قدم لها رحلة عمرة حال فتح أبواب العمرة. مجندان قدما لها خاتماً ذهبياً. طبيب أمراض جلدية مشهور قال إنه متكفل علاجها وأسرتها مدى الحياة في مجال تخصصه.
ومضت قصة "سيدة القطار" قدماً في التطور والتألق والتوسع، فبادر وزير النقل اللواء كامل الوزير بالإعلان عن عقوبات موقعة على رئيس القطار في ما أسماه "واقعة سيدة القطار وإهانة مجند"، وذلك بمجازاته بخصم 50 يوماً من أجره. وأعلن كذلك أن هيئة السكك الحديدية لن تطالب أفراد القوات المسلحة ب"استمارة السفر" التي تعبأ من قبل العسكريين لإعفائهم من سداد قيمة التذاكر التي تسددها عنهم القوات المسلحة المصرية، مؤكدأ أنه سيتم الاكتفاء بارتداء الزي العسكري.
بيان القوات المسلحة
في سياق عسكري أيضاً، فاجأت القيادة العامة للقوات المسلحة المصرية جموع المصريين ببيان شكرت فيه السيدة المصرية التي شهدت الواقعة، وأثنت على تمسكها بدفع ثمن تذكرة المجند، مؤكدة على أن ما فعلته هو تعبير عن أصالة المرأة المصرية التي تحمل في قلبها كثيراً من العطاء والإنسانية والأمومة".
من جهة أخرى، قالت السيدة في برنامج تلفزيوني إن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي كرمها بإرسال وفد لتوجيه الشكر لها. ويشار إلى أن "سيدة القطار" تستضاف منذ الواقعة بصفة يومية في أغلب برامج الـ"توك شو" التي تخصص للواقعة مساحة كبيرة من الوقت والاهتمام. وتردد السيدة في هذه البرامج ما قالته في القطار من عبارات تعكس إيمانها الشديد وتقديرها لدور القوات المسلحة وأفرادها بقولها "هذا اللبس الذي يرتديه المجند له احترامه وقدسيته، وهذا المجند راجل وشهم وجدع، ولو ملايين الدنيا كلها مش تكفيهم، ربنا يكفيهم شر طريقهم".
شر الطريق وفرشته
من شر الطريق إلى فرش الطريق بالأحذية التي تبيعها سيدة مصرية أخرى في محافظة البحيرة، تمكنت ابنتها التي تساعدها في عملها البسيط على الرصيف من التفوق في امتحانات الثانوية العامة والالتحاق بكلية الطب، التي أصبحت هي الأخرى حديث الساعة في مصر، ولُقبت الأم بـ"سيدة الفرشة" وابنتها بـ"طالبة فرشة الأحذية". وقبلها بأيام، تم تداول فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي لشاب في الثانوية العامة يبيع "الفريسكا" (حلوى تقليدية تباع على الشواطئ المصرية) يتحدث عن أمله في الالتحاق بكلية الطب كذلك بعد ما حصل على أكثر من 99 في المئة في امتحانات الثانوية العامة. شوهد الفيديو ملايين المرات عنكبوتياً. وتضاعفت شهرة الطالب المجتهد حين انتقل الاهتمام من الشبكة العنبكوتية إلى الإعلام التقليدي، ومنه إلى سلسلة من التكريمات والتبجيلات الرسمية وأخرى من رجال أعمال وشركات كبرى.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مواطن مصري آخر حاز الاهتمام ونال كثيراً من التكريم والتبجيل هو "بائع التين"، الذي تحول في دقائق معدودة من بائع متجول، شأنه شأن الملايين غيره، إلى أيقونة للشرف والعمل والكفاح. فقد صوره أحدهم بكاميرا هاتفه المحمول أثناء اعتداء موظفة في جهاز القاهرة الجديدة على بائع تين أثناء حملة لإزالة التعديات على الطريق، إذ بادرت بإلقاء التين في الشارع بعد ما رفض البائع الانصراف. وبعد انتشار الفيديو الذي تضامن مع البائع "المسكين" عوقبت الموظفة واحتفي بالرجل بطرق معنوية ومادية كثيرة.
ظاهرة الاحتفاء
ظاهرة الاحتفاء بنماذج ناجحة جداً في ظروف بالغة الصعوبة، أو قصص شهامة في لحظات أو أجواء غير متوقعة، حكايات حقيقية أقرب ما تكون إلى الخيالية لفرط مثاليتها ورقيها، أو مواقف يتعرض فيها فقراء أو بسطاء لظلم أو عنف أو محاولة لتطبيق القانون دون أخذ ظروفهم في عين الاعتبار ليست جديدة. لكن الجديد هو تواتر العشرات منها على سطح المجتمع المصري هذه الآونة.
هذا التواتر خلق حالة معنوية يمكن وصفها بـ"المرتفعة" لدى القاعدة العريضة من المصريين، لا سيما وأن كل هذه الحالات أبطالها الخارقون والخارقات ينتمون إلى قلب أو قاعدة الهرم الاجتماعي والاقتصادي. المثير أن الاحتفاء الشديد بهذه النماذج المتواترة، والاهتمام العميق من قبل الإعلام الرسمي وشبه الرسمي بعرض تلك النماذج واستضافتها هي وأهلها وأقاربها وجيرانها، والاحتفاء الحكومي المبهر جداً بها وبتكريمها جعل البعض يتساءل عن الأسباب.
نماذج مصرية أصيلة
البعض يرى أن هذه نماذج مصرية أصيلة تعيش بيننا، لكن حان وقت إبراز أعمالها الرائعة في زمن عزت فيه الروعة، أو وقت فترت فيه الشهامة، أو ظروف وضعت كثيرين تحت ضغوط معيشية تحتاج دفعات معنوية. الآلاف من مستخدمي "فايسبوك" و"تويتر" من المواطنين العاديين والصحافيين يمطرون هذه الأيام "سيدة القطار" و"بائع الفريسكا" و"فتاة نصبة الأحذية" بعبارات الإعجاب والتشجيع. لكن غيرهم أيضاً يرى مبالغة شديدة وإفراطاً واضحاً في تواتر ظهور هذه النماذج والاحتفاء بها.
وبين هذا الفريق وذاك، يرى استشاري الطب النفسي خليل فاضل ما يستدعي التأمل والتفكر. فهو يرى أن "جانباً من هذا الاهتمام الكبير يعود إلى حالة من الخواء الفكري والثقافي لدى كثيرين، ممن يشعرون أنهم لا يفعلون شيئاً ذا قيمة حقيقية، وهو ما يدفع إلى التعلق بالنماذج الإيجابية، وكلما كانت تلك النماذج قريبة منهم وتشبههم، كلما زاد تعلقهم بها". ويتحدث فاضل عن "صناعة الأيقونات" باعتبارها ضرورة لتسليط الأضواء على قصص الاجتهاد والكفاح مثل "شاب الفريسكا". وفي الأحوال العادية، تحظى هذه النماذج ببعض الاهتمام بعض الوقت، ثم تذهب إلى حال سبيلها. لكن في ظل إقامة كثيرين على أثير مواقع التواصل الاجتماعي (وهي المصدر الرئيس لاكتشاف هذه النماذج) طيلة اليوم وبعض ساعات الليل، يحدث نوع من الإفراط في الاهتمام ويجد أصحاب قصص النجاح أو الجدعنة أنفسهم يتحولون إلى أيقونات".
أيقونات ورموز
إذا كان الدكتور خليل فاضل يرى أن تحويل هذه النماذج إلى أيقونات ربما يكون مقصوداً لإشاعة أجواء إيجابية في المجتمع، لا سيما بين الفئات البسيطة التي تعاني أكثر من غيرها وتحتاج قدراً من الطاقة الإيجابية، فإن أستاذ العلوم السياسية، الباحثة في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية إيمان رجب، رأت في مقال لها أن كل جيل لديه شوق للاقتداء برمز أو نموذج، وأن هناك سياقات متعددة تختزل هذه الرموز في أشخاص بأعينهم مثل لاعب الكرة المصري الشهير محمد صلاح أو الفنان محمد رمضان، والترويج لفكرة أن الطريق للنجاح يتطلب التحول إلى لاعب كرة قدم أو العمل بالتمثيل، وهذا التوجه في جوهره يختزل، وأحيانا يقلل من شأن قدرات الشباب وإمكاناتهم. ويبدو أن هناك ضرورة للتفرقة بين "الرمز" أو "الأيقونة" من جهة، والشخص الذي قام بعمل بطولي أو مهم من جهة أخرى. فالرمز هو من يقوم بعمل مهم ذي شأن وفائدة من خلال عمل مؤسسي له ملامح ومعايير ومقاييس.
من جهة أخرى، فإن عموم المتلقين للـ"سوبر هيروز" أو "الأبطال الخارقين" الذين يملأون الساحتين العنكبوتية والإعلامية التقليدية هذه الآونة، يختلفون فيما بينهم في النظر إلى هؤلاء "الأبطال". فبينما حسين عبد العليم يرى في تغريدة له أن "الست دي أمي (سيدة القطار) وأنها تستحق جائزة نوبل في الإنسانية"، ترى إيناس فكري في تدوينة أن المسالة أخذت أكثر من حجمها ولكن بطريقة ساخرة. تقول إنها العام الماضي وبينما كانت تحجز تذكرة قطار من شباك التذاكر، كان يقف أمامها شخص أجنبي لم يجد معه خمسة جنيهات ليستكمل سعر التذكرة، وأنها بادرت إلى دفعها له، مطالبة بأن يتم تلقيبها بـ"سيدة الشباك".
تقييم الأبطال "الخارقين"
إذا كان الاختلاف في تقييم "الأبطال الخارقين" الذين ظهروا على الساحة هذه الأيام بين معجب متيم وآخر غير منبهر بالقدر الكافي لا يفسد لقصص إنجازاتهم وبطولاتهم قضية، فإنه كما جرت عادة التسييس والاستقطاب في العقد الماضي، هرع إلى الساحة من يحاول التشكيك في هذه النماذج وكأنها من صنيعة الدولة بغرض الإلهاء. قنوات ومنصات معروفة بمعارضتها للنظام المصري تأخذ على عاتقها حالياً مهمة التشكيك والسخرية، بل والربط بين بزوغ نجم هذه النماذج وخفوت نجم الدعوات للتظاهر.
يشار إلى أن مصر شهدت خلال العقد الماضي بزوغ وخفوت عشرات النماذج والقصص لأشخاص قاموا بأعمال اعتبرها البعض في حينها "عظيمة"، وبعضها بقي على عظمته، والبعض الآخر خفت نجمه أو فقد قيمته. فبين "الشاب الذي تسلق 22 طابقاً من عمارة سكنية في الجيزة من الخارج حتى وصل إلى انتزاع علم إسرائيل، حيث مقر سفارتها القديم وتم التعامل معه في أغسطس (آب) 2011 باعتباره بطلاً قومياً وأُهدِي شقة سكنية من المحافظة قبل أن يتنازع عليها معه عدد من الشباب ادعى كل منهم أنه المتسلق الحقيقي، و"ست البنات" أو "فتاة العباءة" التي تم تداول صور لتعدي رجال أمن عليها أثناء تظاهرات ميدان التحرير ليتم تنصيبها "ست البنات" في أحداث 25 يناير 2011 قبل أن يتحول الرضى والتبجيل إلى صب لعنات بعد التشكيك في الصور مرة، والطعن في أسباب تواجدها في الميدان تارة أخرى، و"سائقة الميكروباص" التي أهداها الرئيس المصري سيارة ميكروباص بعد عرض مشكلتها في برنامج تلفزيوني وتقديراً لها على كفاحها، و"فتاة العربة" التي شوهدت عبر منصات التواصل الاجتماعي تجر عربة بضائع فاستقبلها الرئيس وأهداها عربة وتم تخصيص شقة سكنية لها، و"ست بمئة رجل" التي صُوِرت وهي تحمل زوجها على ظهرها ليتلقى العلاج، وكرمت ضمن الأمهات المثاليات، وتحفل الحياة في مصر، لا سيما في عصر مواقع التواصل الاجتماعي، بكثير من النماذج المتأرجحة بين "الرمز" و"الأيقونة" و"السوبر هيرو" مع اختلاف المواقف والآراء والتحليلات.