قامت حضارات العالم على ضفاف الأنهار. وضفاف النيل إحدى هذه المسارح الحضارية القديمة التي جمعت بين الارتباط بالزراعة والتنقل، إضافة إلى ارتباطه الوثيق بالمعتقدات الدينية واعتماد الناس عليه في كل أشكال الحياة.
وفي الوقت الذي ينوء الاقتصاد السوداني تحت وطأة أزمات التضخم وإعادة إدارة السياسات الاقتصادية بعد سقوط النظام السابق، أخذ الفيضان - الذي ارتفعت فيه مناسيب النهر وروافده بشكل غير مسبوق منذ 1912 -، بالمورد الحيوي المتبقي وهو الموسم الزراعي لهذا العام. وقد قُدرت الخسارة حتى الآن بـ 200 ألف فدان، وهو يفوق ما أعلنته السلطات السودانية "بتضرر 117 ألف فدان من المحاصيل الزراعية في ولايتي الخرطوم والشمالية وحدهما. ما سيؤثر سلباً في الواردات من الخضر والفاكهة، ويلحق ضرراً بالمزارعين والمنتجين، جراء السيول والفيضانات التي تشهدها البلاد". وهي تُضاف إلى معاناة قطاع الزراعة عموماً في السودان من المشكلات وسوء السياسات الإدارية أيضاً.
خسارة فادحة
من المناطق التي حاصرها الفيضان من جميع الجوانب وأتلف محصولها الزراعي لهذا العام منطقة الفكي هاشم والجعليين والمناطق المجاورة لها، وهي مكونة من 6 قرى باسم القرى المتحدة، حيث أُغلقت الشوارع المؤدية لها، وأثرت في المساكن وأصبح التحرك بواسطة المراكب.
يقول جمال مساعد من أهالي المنطقة الواقعة شمال الخرطوم وتبعد حوالى 25 كلم من العاصمة، لـ"اندبندنت عربية"، إن "الفيضان قضى على المنطقة التي يُعد 80 في المئة منها أراضٍ زراعية، ويقطنها حوالى 7000 نسمة ما زالوا صامدين، وبالجهد الشعبي حاولوا تلافي بعض الأضرار، إلا أن قوة الفيضان كانت أقوى منهم".
ويضيف مساعد أن "الزراعة تغطي مساحة كبيرة تبلغ حوالى 15 ألف فدان من الموالح (الغريب فروت، البرتقال، والليمون)، والموز وبعض الفواكه الأخرى والخضر، والبقوليات مثل الفول المصري والفاصولياء وأعلاف الماشية. وكل هذه الزراعة أثمرت وكنا على وشك قطافها". ويوضح أن "معاناة أهل المنطقة مع الفيضانات وما تحدثه من جرف للأراضي الزراعية وتلف للموسم الزراعي، ونفوق الحيوانات، تتكرر كل فيضان لقرب المنطقة من النيل، ولكن هذه المرة الخسائر أفدح".
ويذكر مساعد أن "تلف المزارع والبساتين وتراكم المياه أدى إلى ظهور مشكلات صحية بانتشار البعوض والذباب، ففي يوم واحد تم تسجيل 100 حالة إصابة بالملاريا. كما أن فقدان المحاصيل، تركت سكان المنطقة من دون مصدر رزق، لأن المحاصيل كانت تنقل إلى الخرطوم ويبيعها للتجار المصدرين". ويشدد على أن "هذا الإنتاج الكبير لا يقابله اهتمام أو مبادرات من الدولة، فغالبية المزارعين أصحاب دخل محدود ولا يستطيعون تطوير هذه الزراعة من تقليدية إلى حديثة، ولا يستطيعون مجابهة آثار الفيضانات المدمرة للاستفادة من آثارها الإيجابية في الزراعة وزيادة الانتاج".
نشاطات بشرية
وتعتقد الدكتورة أمل السيد إدريس اختصاصية المبيدات والأسمدة الحيوية في معهد بحوث البيئة والموارد الطبيعية والتصحر في المركز القومي للبحوث في الخرطوم، أن "الفيضان بصورة عامة غير مضر، ولكن ما فاقم من آثاره الكارثية هو التوسع السكني في السهل الفيضي للنهر، ونشاطات الإنسان المختلفة، وضعف التوعية من مخاطر الفيضان. وعلى الرغم من تكراره سواء بهذا الشكل أو إذا ما كان على شكل فيضان خاطف، فإنه لا يوجد استعداد خصوصاً مع انخفاض قدرة الأرض (التربة الطينية) على امتصاص المياه، وإنشاء المباني والمنشآت غير المقاومة للمياه. وشوهدت كيف تنهار بسرعة شديدة مع جريان الفيضان".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتوضح إدريس، في حديث مع "اندبندنت عربية"، أن "الآثار الماثلة أمامنا إضافة إلى الخسائر البشرية والصحية، هناك فقدان المحاصيل وإمدادات الغذاء، ففيضان هذا العام سبّب خسائر جسيمة للمخزون الغذائي وموسم الحصاد (المحصول) والحيوانات ومعدات المزارع والحبوب نتيجة للغرق أو الغمر".
وتعتبر أن الزراعة تلعب دوراً كبيراً في الحيلولة دون الفيضان أو تفاقمه، وذلك إما بإزالة الغطاء النباتي من بعض الضفاف، أو زراعة أنواع معينة من الأشجار التي تتسبب جذورها في خلخلة التربة وبجعلها عرضة لتدفق المياه من خلالها في زمن الفيضان. وكذلك قيام بعض أصحاب البساتين بعمل جسور لحمايتها. وهذا من شأنه أن يقلِّص من السهل الفيضي الذي يُعد متنفساً في زمن الفيضانات".
وتعتبر أن "تدخل الدولة في إصدار قوانين تمنع التعدي السكني على الأراضي المخصصة للزراعة وتمنع البناء عليها لما يصاحبه من تأثيرات سلبية بيئياً وإيكولوجياً، يخفف كثيراً من آثار الفيضان وينقذ المواطنين والنشاط الاقتصادي المتمثل في الزراعة، خصوصاً الزراعة الموسمية للمحاصيل الرئيسية مثل الذرة التي يعتمد عليها معظم سكان السودان وكذلك الفواكه والخضر المهمة. فانجراف العديد من أشجار الفاكهة في البساتين على النيل سيسبب خسارة كبيرة للصادر".
جانب مضيء
وتفيد إدريس بأنه "مع كل هذه الآثار السلبية، فإن الفيضانات وبخاصة الصغيرة يمكن أن تحقق فوائد كثيرة للزراعة، مثل شحن المياه الجوفية، ما يجعل التربة أكثر خصوبة، وتعمل على توفير المواد الغذائية التي تنقصها. وتمد مياه الفيضان المناطق القاحلة البعيدة بزيادة توزيعها بعد هطول الأمطار. ومن ناحية أخرى، تلعب دوراً مهماً في الحفاظ على النظم البيئية في الممرات النهرية وتعتبر عاملاً رئيسياً في الحفاظ على التنوع البيولوجي الناتج من الفيضانات". وتضيف "بعد انحسار النيل وتجمع الطمي الذي يحمل العديد من المواد العضوية الطبيعية المهمة للنباتات كعناصر غذائية، يمكن زراعة الخضر التي تنمو بسرعة وتكون غنية بالفيتامينات والعناصر الصغرى والكبرى والمواد الرئيسية مثل الكربوهيدرات والبروتينات والدهون".
مشروع الجزيرة
أحد مشاريع الزراعة الرئيسية في السودان التي ترتبط بالنيل هو مشروع الجزيرة الزراعي الذي أنشأته الإدارة البريطانية عام 1925 لمد المصانع البريطانية بحاجتها من خام القطن الذي شكل العمود الفقري لاقتصاد السودان ما بعد الاستقلال. ويقع المشروع الذي يُعد قاطرة الاقتصاد السوداني في السهل الطيني وسط السودان بين النيلين الأزرق والأبيض ممتداً من ولاية سنار وحتى جنوب الخرطوم. ويصنف كأكبر مشروع مروي في أفريقيا وأكبر مزرعة في العالم ذات إدارة واحدة. ولكن كثيراً ما تم تسييس قضاياه إبان النظام السابق بإصدار قانون 2005 المعدل في 2014. ووفقاً لهذا القانون فقد أدت عمليات إعادة الهيكلة في المشروع وتصفية بناه التحتية "الهندسة الزراعية، وسكة الحديد، المحالج والورش" إلى تشريد آلاف العاملين، كما تراجعت مساحات القطن. وتمثَّلت المشكلات أيضاً في أن إعطاء حرية زراعة المحاصيل أدى إلى تقليص المنتجات الزراعية ولم تجد التسويق الكافي. كما أدى إعفاء الخفراء والمفتشين الزراعيين إلى تدهور عام في مشروع الجزيرة، وأدى تقليص مهمات إدارة المشروع إلى فقدان عدد كبير من أصوله. وظل مشروع الجزيرة منذ نحو قرن من الزمن المصدر الرئيس لتوفير العملات الصعبة لخزانة الدولة عبر زراعة القطن، لكن مع تقلص مساحاته فقد السودان أسواقه العالمية لتصدير المحصول. ومن الآثار التي تم رصدها هو أنه صاحبه انهيار في كثير من المرافق الحيوية في ولاية الجزيرة، التي يقطنها نحو 3.7 مليون نسمة، خصوصاً الصناعات التحويلية والحركة التجارية.
فيضان خفيف
يلاحظ البروفيسور عبد اللطيف البوني، أستاذ العلوم السياسية، في حديث مع "اندبندنت عربية"، أنه "على الرغم من وقوع مشروع الجزيرة بين النيلين الأزرق والأبيض، فإن الفيضانات لا تغمره، والسبب في ذلك أن الإدارة البريطانية صممت مشروع الجزيرة بطريقة ممتازة على الخريطة الكنتورية، واستطاعت من خلالها دراسة تضاريس الارتفاع والانخفاض عن مستوى سطح البحر. وقد أنشأت مصارف على درجة عالية من الجودة، وجدوى المشروع قائمة على المطر والري. أما الري الصناعي فهو تكميلي، ولكن بعد التنوع الزراعي أصبح يُروى من الخيران والترع (القنوات المائية)".
ويضيف البوني "يستهلك مشروع الجزيرة الذي تبلغ مساحته مليونين و200 فدان حوالى 7 مليارات متر مكعب من حصة السودان من المياه البالغة 18 مليار متر مكعب، وإذا زادت الأمطار عن حدها فإنها تكسر قنوات الري وتعرض المشروع لفيضان خفيف، ولكن مزايا الأمطار عموماً بالنسبة إلى الزراعة، أنها إضافة إلى الري تزيل الآفات الزراعية وتسمِّد الأرض".
عدم تشجيع
ويوضح البوني "أن الفيضان لم يؤثر في مشروع الجزيرة بشكل مباشر، ولكن هناك مشاريع زراعية أخرى محاذية للنيل موجودة في ولاية الجزيرة هي الأكثر تضرراً. وعلينا أن نفرق بين منطقة الجزيرة ومشروع الجزيرة الذي هو جزء منها، وخارجه مناطق زراعية كبيرة على ضفاف النيل تتأثر مباشرة بالفيضان". ويضيف أن "في هذه المناطق، غمرت الفيضانات العروة الصيفية (الخضر التي تُزرع خلال الصيف)، وهي موسم واحد ويمكن تعويضها في العروة الشتوية، ولكن الخسارة الفادحة، في الزراعة البستانية التي تعرضت للفيضانات، لأن عمر أشجار المانجو والموز يتفاوت بين سنتين وأربع سنوات حتى يؤتي ثماره. وتعد هذه الفواكه عناصر أساسية في الصادرات السودانية وتعتمد عليها السوق المحلية. وهناك خسارة في محاصيل أساسية مثل الذرة واللوبيا وأعلاف الماشية".
ويعبر البوني عن تفاؤله أنه "بعد انحسار مياه الفيضان ستكون ملايين الأفدان جاهزة للزراعة، وهذا هو الجانب الإيجابي، لأن المعطيات الطبيعية موجودة ولكن التحدي الأساسي في عدم تشجيع الدولة، وعدم اهتمام المواطنين بالانتاج". وأضاف أنه "ما على الجهات المسؤولة إلا القيام بشيء واحد فقط هو نثر البذور في تربة جاهزة للزراعة من دون أن يكلفها ذلك رياً أو سماداً، وذلك بالاستفادة من الطمي الذي يخلفه الفيضان، وهي فرصة لخلق سودان أخضر من دون أي تكلفة أو أعباء مالية".