المنصة الحوارية التي وفرها المغرب للفرقاء الليبيين، وبرعاية من بعثة الأمم المتحدة في ليبيا، قد تبدو خطوة إيجابية، خصوصاً أنها حظيت بدعم إقليمي، وبمباركة دولية، وقد انبثق عنها بلورة 4 وفود ليبية تحركت بين شمال وجنوب البحر المتوسط، مستطلعة مواقف الفرقاء الإقليميين أيضاً. وتبرز لها دوافع اقتصادية مرتبطة باستئناف ضخ النفط الليبي المتوقف من يناير (كانون الثاني) الماضي، وهو ما أسفر عن احتجاجات شعبية، سواء في غرب أو شرق ليبيا.
في هذا السياق، يبرز أمام منصة بوزنيقة سيناريوهان؛ الأول أن تكون فرصة حقيقية لبلورة توافق ليبي، ولكن أمامها مجموعة من التحديات الماثلة والمؤثرة. أما السيناريو الثاني فهو أن وقف إطلاق النار الراهن مجرد هدنة لالتقاط الأنفاس، بينما تستعد الأطراف المتصارعة في ليبيا لاستئناف المعارك من جديد.
أسباب دعم بوزنيقة
على المستوى الإقليمي بدا أن المجهود المغربي قد لقي ترحيباً مصرياً، وذلك بالمباحثات التليفونية التي جرت بين وزيري خارجية كل من مصر والمغرب سامح شكري وناصر بوريطة، عشية بدء المنصة الحوارية المغربية، وقد ساهم في ذلك أمرين، موقف مصري بتفضيل الحل السياسي الليبي، رغم اضطرار القاهرة أحياناً إلى التلويح بخطوط حمراء موجهة أساساً ضد التدخل التركي، والأمر الثاني موقف مغربي بعدم التدخل في مفردات هذا الحوار، وكذلك عدم وجود أجندة مغربية محددة في هذا الصراع، وهو الموقف المعلن من جانب القاهرة أيضاً، وقد أفضى هذا التوافق فيما يبدو لوجود وفد من حكومة الوفاق رحب به في القاهرة.
وفيما يخص الموقف الدولي فإن هذه المنصة قد تمت هندستها من جانب البعثة الأممية في ليبيا، بهدف تجسير المسافات بين الأطراف الليبية، ولو نسبياً، وهو موقف رحب به الاتحاد الأوربي.
وقد اتجهت اجتماعات بوزنيقة التمهيدية إلى محاولة التوافق على تثبيت وقف إطلاق النار والاستناد إلى قاعدتي المحاصصة في المنافع، ورسم خرائط طريق للتمثيل السياسي، خصوصاً في المناصب السيادية.
أزمة التمثيل ومناهج الحوار
تواجه المنصة المغربية تحديات مرتبطة بالأطراف المتحاورة، ذلك أن استبعاد العناصر الممثلة للأطراف العسكرية، خصوصاً من شرق ليبيا، يجعل المنصة فاقدة أهلية التأثير على الأرض، كما أن افتقاد التشاور الداخلي قبيل بوزنيقة، واختيار عناصرها عبر هذا التشاور جعل العناصر الليبية المستبعدة تشكك في شرعية تمثيل الموجودين في بوزنيقة، خصوصاً بعد حديث الناطق باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري عن أطراف هذا الحوار، وأجندته، وطبيعة مراميه، ومدى قدرته في ضوء مشاكل تمثيله السياسي في مناقشة معضلات الحوار الليبي، خصوصاً اتفاق الصخيرات الذي تجري محاولات إحيائه حالياً، ولكن مع تطوير بشأن الأوزان السياسية، والمحاصصات الاقتصادية، وهو منهج غربي بامتياز سبق تجريبه في كل من العراق والسودان، وهو الأمر الذي يحذر منه قطاع من النواب الليبيين الذين يرون فيه لعبة دولية خطرة تؤسس لمحاصصة جهوية، ليست في صالح ليبيا.
ولعل هذه الانتقادات الواسعة القائمة على تساؤل القبائل الليبية الرئيسة، وهي التي أشار لها المسماري، جعلت خالد المشري، رئيس المجلس الأعلى للدولة الليبية والمحسوب على الغرب الليبي، وهو أحد المشاركين الرئيسين في المنصة الحوارية المغربية يقر بأن الحوار في المغرب تشاوري، وغير ملزم، وأنه أقرب إلى جلسة عصف ذهني بين مختلف الأطراف الليبية لبحث كيفية الخروج من الأزمة الراهنة، وهي غير ملزمة في نتائجها، ولعل هذه التصريحات تكون تمهيدية لإنجاح حوار مرتقب بين المشري وعقيلة صالح رئيس مجلس النواب الليبي إذا ما نجحت مشاورات الفريقين في وضع أسس لحوار الرجلين، أهمها ما يتعلق بمناقشة طبيعة المناصب القيادية وفقاً للمادة 15 من اتفاق الصخيرات الموقع 2015، والتي تنص على أن مجلس النواب يقوم بالتشاور مع مجلس الدولة خلال ثلاثين يوماً من تاريخ إقرار هذا الاتفاق، وذلك بهدف الوصول لتوافق حول شاغلي المناصب القيادية للوظائف السيادية، وهي "محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس جهاز الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ثم رئيس المحكمة العليا، والنائب العام".
ويمكن القول إن مشاورات بوزنيقة التمهيدية قد أسفرت عن تنشيط كل الأطراف لأدواتها للتأثير على هذه المشاورات؟، ولو في نطاقات أخرى، حيث تم تشكيل أربعة وفود إلى ثلاث دول (عربية وأوروبية)، بغية طرح كل طرف رؤيته الأمثل للحل؛ لكن هذه اللقاءات التي تستأنف جولتها الثانية خلال أيام في بوزنيقة المغربية، فضلاً عن العاصمة المصرية القاهرة، وانتهت بمونترو السويسرية، قد لا تكون أكثر من مجرد مشاورات فردية، وتبقى قيمتها في أنها استكشافية، وتعد محاولات "جس نبض"، قد تفضي إلى استئناف المسار السياسي، وتساهم في إنجاح الجولة الثانية من الحوار الليبي في بوزنيقة، خصوصاً مع تصريحات سامح شكري وزير الخارجية المصري الذي رحب بمجهودات الأمم المتحدة لإحياء المسار السياسي، وشرح محددات الموقف المصري من الأزمة الليبية في عدد من النقاط هي تثبيت الوضع العسكري وعدم تفاقمه وإتاحة الفرصة أمام كل الأطياف الليبية للارتكان إلى حل سلمي ليبي - ليبي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
تحديات بوزنيقة
تواجه هذه الجولة من الحوار الليبي تحديات أساسية، وهي أن ملفي التصدير التركي للمرتزقة على الأراضي الليبية وما يسببه من تهديدات أمنية للمواطن العادي يبدو شبه غائب عن المنصة الحوارية المغربية التي تركز على مسائل المحاصصات، وكذلك أساليب ضمان وحماية المنشآت النفطية على المستوى القريب على الأقل، خصوصاً في ضوء اقتراح أميركي أن تكون هناك بعثة أممية عسكرية لحماية الهلال النفطي، وأخيراً منظور كل طرف لمسألة شروط استمرار وقف إطلاق النار الدائم الاختراق فعلياً على الأرض.
وفي هذا السياق، فإن الجيش الوطني الليبي، وقادته هم أبرز المشككين أن يكون لحوار بوزنيقة نتائج إيجابية فيما يتعلق بالشق الأمني، ولعل ذلك ما يفسر اشتراط ضمان دولي لسلامة الهلال النفطي، وعدم تغيير الأوضاع على الأرض، وذلك في ضوء أمرين؛ الأول عدم قدرة تركيا على تفعيل اتفاقية الحدود البحرية مع ليبيا إلا باستعادة السراج نفوذه على هذه المنطقة، والأمر الثاني هو احتياج حكومة الوفاق للعائدات النفطية حتى تستطيع تمويل موازنة الحكومة الملزمة دفع مرتبات أكثر من 1.8 مليون موظف حكومي إلى جانب توفير ولو الحد الأدنى من الخدمات الصحية والكهرباء والمياه والوقود للمواطنين.
أما فيما يخص أسس استمرار وقف إطلاق النار فإن هناك نقاط تباين في ما يخص وضع مدينة سرت، وطبيعة الأوزان الأمنية والعسكرية فيها؛ ذلك أن رئيس مجلس النواب يرى أن تكون تحت حماية جميع المناطق الليبية وتكون مقراً للمجلس الرئاسي كخطوة تمهيدية للتوحيد الوطني الليبي، بينما يرى السراج أن تكون منزوعة السلاح وتحت حماية قوات مشتركة من شرق وغرب ليبيا لحكومة الوفاق.
وبينما يسكت السراج في بيانه عن وقف إطلاق النار عن مسألة تفكيك الميليشيات التابعة له، ولا يطرح سوى خروج القوات الأجنبية والمرتزقة من الأراضي الليبية، فإن بيان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح يصر على مسألة تفكيك الميليشيات التابعة للسراج.
وبطبيعة الحال، هذه التحديات الماثلة تتعلق بالأوزان العسكرية على الأرض، وبالتالي القدرة على الحصاد السياسي لهذه الأوزان لكل طرف، وهو ما يعني أن أي خطوة اقتراب من حل هذه المعضلات ستستلزم حزمة إجرائية لا بد لها من ضمانات دولية وإقليمية، وإلا ستلحق بوزنيقة باتفاق الصخيرات، ولن تكون هناك فرص للاستقرار في ليبيا.
التشكيك في نتائج مؤتمر برلين
أقر ممثلو الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، وفرنسا، وروسيا، والصين، وإيطاليا، وألمانيا، وتركيا، ومصر، والإمارات العربية المتحدة، والجزائر والكونغو، إضافة إلى الأمم المتحدة، والجامعة العربية والاتحاد الأفريقي، إعلاناً من 55 نقطة يُلزم الموقعين دعم ثلاثة أهداف رئيسة هي: "مضاعفة جهودهم للتوصل إلى تعليق مستمر للأعمال القتالية، وخفض التصعيد ووقف دائم لإطلاق النار، والاحترام والتنفيذ الكاملين دون لبس أو تردد" للحظر الذي تفرضه الأمم المتحدة على السلاح؛ ودعم مفاوضات مدعومة من الأمم المتحدة على مسارات عسكرية، وسياسية ومالية. وقد حضر حفتر وفايز السراج، إلى برلين، لكن أياً منهما لم يحضر القمة رسمياً أو يوقع الإعلان الختامي، لكن ذكر أنهما وافقا على تعيين ممثلين في لجنة عسكرية مشتركة من المقرر أن تجتمع في جنيف في أواخر يناير لمناقشة وقف إطلاق نار محتمل، وكان ذلك تغييراً في موقف حفتر، الذي كان قد رفض قبل أيام تعيين ممثلين خلال اجتماع عقد في 13 يناير في موسكو.
وبينما كانت تُجرى المشاورات، كان نواب البرلمان وأعضاء المجلس الأعلى للدولة الذين لم يحالفهم الحظ في السفر إلى أي من الدولتين، يصبون جام غضبهم على زملائهم، ويؤكدون أن الذين ذهبوا إلى بوزنيقة المغربية هم أشخاص اختارهم المشري والبعثة الأممية بعناية، وفي هذا السياق قال أحد أعضاء المجلس لـصحيفة "الشرق الأوسط" إن هؤلاء أقلية لا يمثلون أغلبية المجلس، وما يتحدثون فيه لا يعنينا في شيء.
بموازاة ذلك، وبشكل مفاجئ، أعلن قبل يومين عن وصول وفد آخر من المنطقة الغربية إلى القاهرة، يضم أعضاء بمجلس النواب المنعقد في طرابلس، وأعضاء بالمجلس الأعلى للدولة، وبعض قيادات عملية "بركان الغضب"، التابعة لقوات حكومة الوفاق؛ لكن قبل أن يلتئم الوفد الذي قدم بعض أفراده من عواصم مختلفة، سارع المشري إلى نفي توجه أي وفد من مجلسه إلى القاهرة، لكن الجزء الغاطس من سفينة الأزمة يكتنفه كثير من الغموض، ويعبر عنه تحرك معسكري السراج وصالح، في حين يقف النواب المحسوبون على القيادة العامة لـ"الجيش الوطني" موقف المشاهد؛ بل والرافض لكثير مما تطرح هذه المشاورات الفردية. واستكمالاً لهذه المشاورات، انتهى مؤخراً في مدينة مونترو السويسرية، اجتماع ضم شخصيات ليبية - بعضها يعيش خارج البلاد - نظمه مركز "الحوار الإنساني"، وسط ترحيب أممي، والتأكيد أيضاً على ضرورة تشكيل مجلس رئاسي، مكون من رئيس ونائبين، وحكومة وحدة وطنية مستقلة، وإجراء انتخابات في مواعيد لا تتجاوز 18 شهراً.
وأصدر اجتماع مونترو الذي انطلق منتصف الأسبوع الماضي، بحضور البعثة الأممية لدى ليبيا، مجموعة من التوصيات، داعياً مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى الاتفاق بخصوص المناصب السيادية والمسار الانتخابي في آجال معقولة، قبل انتقال المؤسسات التنفيذية ومجلس النواب إلى مدينة سرت، خلال المرحلة التمهيدية للحل الشامل" لممارسة مهامها السيادية". وبينما رحبت السفارة الأميركية لدى ليبيا بالمشاورات التي أجريت في مونترو، قالت البعثة إنه بناء على هذه اللقاءات، وغيرها، بما فيها تلك الجارية في المغرب، وبعد أسابيع من المحادثات المكثفة مع الأطراف الرئيسة الليبية والدولية، ستطلق بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا الترتيبات اللازمة لاستئناف مؤتمر الحوار السياسي الليبي الشامل، وسيتم الإعلان عن ذلك في الفترة القادمة، داعية المجتمع الدولي لتحمل مسؤولياته لدعم هذه العملية، والاحترام المطلق للحق السيادي للشعب الليبي في تقرير مستقبله.