لم يكن كثير من الأسر السودانية التي دمر منازلها ومزارعها فيضان النيل مهتمة بأحداث انحسار مياهه خلال الأيام الماضية، وهو الحدث الذي ظل يترقبه بقلق المجتمعان المحلي والدولي خشية من استمرار المأساة، لأن مشهد الفيضان في نظر تلك الأسر كان مؤلماً، وأدخل في نفوسها رعباً وكابوساً لن يزول، ناهيك عن طمسه معالم وتفاصيل حياتها اليومية.
ذكريات وخصوصية
المواطن السوداني عيسى عبد الرحمن (54 سنة)، ولد ونشأ في منطقة ود رملي شمال العاصمة الخرطوم، وهي من المناطق التي دمرها الفيضان بالكامل. يقول "لم أتخيل يوماً أن أعيش بعيداً عن منطقتي. فكل ذكرياتي فيها، وعندما كبرت وبلغت 28 سنة تزوجت بنت خالي، وظل ارتباطي بهذه المنطقة لا يوصف، حيث العمل والزراعة والأصدقاء والجيران، فهي حياة مليئة بالمحبة والجمال. لكن ما حدث لنا بسبب الفيضان كان مؤلماً، فخلال ساعات انهارت كل المنازل والمزارع والمرافق العامة من مدارس ومساجد وغيرها، ولم يبق معلم واحد، وهو شيء محزن على الرغم من إيماننا بحكم الله وإرادته، فأصبحت حياتنا بائسة ولا طعم لها. فمن الصعب على أي إنسان أن يفقد أهم خصوصياته ومكان أنسه وصداقاته من دون مقدمات أو سابق إنذار".
وتابع، في حديثه لـ"اندبندنت عربية"، "أكثر ما يؤلمني عندما يسألني ابني محمد البالغ من العمر 4 سنوات، متى سنعود إلى بيتنا، فأظل تائهاً ساعة من الزمن من دون إجابة، لأن إجابتي ستكون محبطة له، ولا أريد أن أعمق جراحه، بعدما وجد نفسه يسكن في خيمة متواضعة من دون أي خصوصية، بدلاً من منزلنا الذي كان يعج بالحركة والحيوية، فضلاً عن المساحة الشاسعة التي تمكنه من اللعب مع أقرانه. لكن ما يزيد حزني وأوجاعي نهوض أحد أبنائي ليلاً وهو يصرخ من الخوف لأن كابوس الفيضان يطارده في منامه، وظل على هذه الحال أسبوعاً كاملاً. فالفيضان كانت أوجاعه مضاعفة علينا من كل النواحي. ولا أعتقد أنه من السهل نسيان ما خلفه من دمار نفسي ومادي". مشيراً إلى أنهم يتمسكون بمنطقتهم مهما كانت المخاطر، لكن المشكلة تبقى في كيفية إعادة بناء منازلهم، وهو الأمل الذي ينتظرونه من الحكومة السودانية ومنظمات المجتمع الدولي.
آثار نفسية
أما المواطن الطيب سعيد (61 سنة)، الذي يسكن في المنطقة نفسها، فأوضح "المشكلة أن الفيضان غدر بنا ليلاً، وكانت قوته شديدة، مما جعلنا نخرج من منازلنا بسرعة متناهية من دون الالتفات لأغراضنا الشخصية، لأن الخطر كان كبيراً وعامل الوقت مهم لتأمين سلامة الأسرة بخاصة الأطفال الصغار، الذين كانوا في حالة نوم عميق. وهو ما سبب لهم رعباً ظل يلازمهم أياماً عدة، فهذا الفيضان غير مسبوق من ناحية خسائره الكبيرة على أهالي المنطقة، وما سببه من أثار نفسية بالغة التعقيد، فليس سهلاً أن تفقد موطن نشأتك في لحظة وتشاهد منزلك ومنازل جيرانك وأهلك تنهار أمام عينيك، من دون أن تستطيع فعل شيء".
وأضاف "نعم لقد بدأ النيل في الانحسار، وتركنا نصارع محنتنا وما خلفه من دمار. فأنا مثلاً خسرت منزلي الذي انهار بالكامل، بما فيه من أثاث ومعدات وأجهزة كهربائية وملابس وغيرها، إضافة إلى أن الفيضان غمر مزرعتي بما فيها من محاصيل وخضروات".
ويشير سعيد إلى أنه يعيش الآن لدى أحد أقاربه، "الذي استضافنا منذ أول يوم. وإن كان خفف من محنتنا، إلا أن الارتباط بمنطقتنا يصعب الانفكاك عنه، لأنها تمثل الماضي والحاضر والمستقبل، ومهما يكن الأمر فلا خيار لنا غير العودة إلى موطننا".
خسائر فادحة
تشير رقية سعيد (56 سنة)، إلى أنها وأسرتها كانوا يعيشون حياة سعيدة امتدت 38 عاماً في منطقة ود رملي، التي يعرف أهلها بالتكافل الاجتماعي والمشاركة في الأفراح والأحزان، لكن الفيضان قضى على كل شيء، ولم يترك لهم غير الذكريات وبعض الأطلال.
وتوضح أنها لجأت مع أسرتها، بمساعدة المنظمات التطوعية، إلى منطقة بعيدة عن النيل، والآن تعيش في خيمة بعدما فقدت أسرتها كل ممتلكاتها وتنتظر قرار السلطات السودانية لتعويضها بمبلغ من المال حتى تتمكن من بناء منزلها من جديد.
وأضافت "أكثر ما يؤلمني إصابة جارتي بجروح بالغة بسبب انهيار جزء من منزلها عليها، ولولا وجود أبنائها وتمكنهم من إنقاذها بسرعة لكانت تعرضت لكارثة أكبر".
ارتفاع عدد القتلى
ارتفع عدد قتلى الفيضانات إلى 114 شخصاً، وفق ما أعلنت وزارة الداخلية السودانية أمس الثلاثاء، مشيرة إلى انهيار حوالى 33 ألف بيت بشكل كلي، وأكثر من 50 ألف بيت بشكل جزئي.