في أواسط سنوات الثمانين فاجأ المخرج السينمائي الفرنسي الطليعي آلان رينيه جمهوره بفيلم جديد لم يكن متوقعاً منه عنوانه «ميلو». صحيح أن رينيه اعتبر الفيلم، في ذلك الحين، جزءاً من ثلاثية تنتمي إليه، لكنه أشار بكل وضوح إلى أنه لئن كان قد اقتبس قصة الفيلم من مسرحية كتبها هنري برنشتاين في 1929، فإنه لم يفعل هذا إلا لأنه وجد الروابط محكمة بين فهمه للفن وللمجتمع وفهم برنشتاين لهما، وعلى الأقل كما عبر عن ذلك في تلك المسرحية الاستثنائية. والحقيقة أن الذين يعرفون سينما آلان رينيه ويحبونها، وهم كثر في العالم كله، يعتبرون أفلاماً له مثل "هيروشيما... يا حبي" و"العام الماضي في مارينباد"، وحتى "بروفيدانس" من الأفلام الأساسية في كلاسيكيات السينما العالمية، دون غض النظر عن تجديداتها الأسلوبية واللغوية والمتعلقة بأساسيات المفاهيم السينمائية، هؤلاء دهشوا بل صدموا، لكي نكون أقرب إلى الصواب، أمام فيلم لا يعبأ بما له أدنى علاقة بسينما رينيه. وتساءلوا: هل نضبت منابع هذا المخرج الاستثنائي حتى يلجأ لاقتباس مسرحية تبدو أقرب إلى "مسرح البوليفار" الترفيهي أكثر منها إلى أي شيء آخر؟
اختيارات شعبية لمخرج طليعي
حتى اليوم وبعد ما يقرب من أربعين سنة، لا يزال السؤال مطروحاً ولا تزال الدهشة قائمة بعد رحيل المخرج نفسه بسنوات. لكن الفيلم لا يزال هنا موجوداً ويشاهد باستمرار ولو من على شاشات التلفزة. بل ثمة من يقول إنه يعتبر اليوم الأكثر مشاهدة بين أفلام رينيه. فالجمهور أحبه وتفاعل مع أحداثه النابعة من "غرابة" الحياة اليومية ومن تنميقية حواراته، حتى من دون أن يعتبره، كما أراد بعض النقاد، مجرد "استراحة محارب" في التاريخ الثقافي و"السينيفيلي" لمخرجه الذي لم يبد أبداً أي ندم لتحقيقه. بل أدهى من ذلك اعتبره خاتمة لثلاثية سينمائية حققها بالفعل في تلك الآونة تعتمد على نوع غير معهود لديه من النصوص، وكان الأول فيها فيلم "الحياة رواية" (1983)، والتالي "الحب حتى الموت" (1984)، قبل "ميلو" (1986)... وكلها تنطلق من حكايات ميلودرامية تبدو وكأنها تنم عن انقلاب سينمائي حقيقي لدى ذاك المخرج الذي كان وحده معادلاً لكل "الموجة الجديدة" في فرنسا في الخمسينيات والستينيات. غير أن هذا ليس تماماً موضوعنا هنا.
فالموضوع هو أن رينيه، ومن دون أن يقصد ذلك تماماً، تمكن بفيلم "ميلو" من أن يعيد الكاتب المسرحي هنري برنشتاين، صاحب تلك المسرحية التي اقتبس فيلمه عنها، إلى قلب الساحة الفنية الفرنسية، بعد غياب طويل. إذ على الرغم من أن برنشتاين كتب عشرات المسرحيات التي اجتذبت أعداداً هائلة من المتفرجين الفرنسيين في فرنسا النصف الأول من القرن العشرين، فإن مسرحياته لم تعش طويلاً بعد زوال عصر "البراءة" واتسام المسرح الفرنسي في النصف الثاني من القرن نفسه بأردية جديدة تغوص في الفكر والذكاء، على الرغم من ذلك كانت مسرحيته "ميلو" الوحيدة التي تبدو قادرة بعد على أن تقاوم دون أن يعرف أحد لماذا. فما السر في حكاية اجتماعية تدور حول صديقين عازفين يحقق أحدهما (مارسيل) نجاحاً فيما يتزوج الثاني (بيار) من امرأة يحبها مكتفياً بما قسم له؟
حكاية غرام ثلاثية
الحقيقة أن الميلودراما، في عنوان الفيلم تنطلق من وقوع الزوجة رومين في غرام مارسيل أيضاً إلى درجة تقرر معها قتل زوجها حين يقع مريضاً، لكنها إذ تعجز عن ذلك تهجر الرجلين مع ثالث لتكتشف أنها تحب بيار ومارسيل معاً. وهي إذ تجد الدروب مسدودة أمامها تنتحر تاركة بيار يعتقد أن علاقة قد قامت بينها وبين مارسيل... ولكن بعد مرور ثلاث سنوات سيكتشف بيار أن أي علاقة لم تقم وأن رومين ماتت مظلومة.
من الواضح أن رينيه كان له منطقه في أفلمة المسرحية، وهو تمكن على أي حال، من خلال تحقيق الفيلم من أن يكذب نبوءة كان برنشتاين نفسه قد عبر عنها أكثر من مرة. فبرنشتاين كان من عادته أن يقول في كل مرة تأمل فيها لوحة لكلود مونيه كان صوره فيها فتى صغيراً «هذه اللوحة الجميلة، هي كل ما سوف يبقى مني». حين حقق رينيه فيلم «ميلو» وأعاد اسم هنري برنشتاين إلى الواجهة، أثبت عملياً أن ما بقي من هذا الأخير كثير، وأن بعض مسرحياته، على الأقل، بإمكانه أن يعيش. والدليل على هذا أنه ما إن عرض فيلم «ميلو» حتى راحت مسرحيات برنشتاين تقدم من جديد واحدة بعد الأخرى، وبشكل مفاجئ أصبح هذا الكاتب كاتباً معاصراً على الرغم من أن ثلاثة عقود كانت قد انقضت على رحيله.
الكاتب المبارز سريع الغضب
فالواقع أن هنري برنشتاين رحل في نوفمبر (تشرين الثاني) 1953، وكان لا يزال في قمة مجده، حيث إنه، بعد أن كان قد نفى نفسه إلى الولايات المتحدة طوال فترة الحرب العالمية الثانية، عاد في عام 1945 حيث أعاد تأسيس مسرحه وشرع يكتب من جديد أعمالاً نالت حظوة الجمهور وإن لم تنل حظوة النقاد. وكان هذا الواقع الأخير يغيظ هنري برنشتاين الذي كان في هذا المجال سريع الغضب، بل إنه اشتهر أيضاً بأن حالات غضبه كانت سرعان ما تتحول إلى مبارزات بالسيف كان يخرج منها، على الدوام، منتصراً!
ولد هنري برنشتاين بباريس في 1867، وبدأ اهتمامه بالمسرح منذ وقت مبكر، ولقد ترسخ ذلك الاهتمام لديه خاصة في بروكسيل التي كان لجأ إليها هرباً من الجندية عام 1897، ثم عاد منها وقد شمله العفو فعكف على كتابة مسرحيات لفت بعضها نظر المسرحي الكبير أنطوان فعمل على إخراجها، وهكذا منذ 1900، وبفضل إخراج أنطوان، بدأ الجمهور المسرحي الفرنسي يتعرف على أعمال متتالية لبرنشتاين مثل «السوق» (1900) و«العودة» (1902) و«الحظيرة» (1905). غير أن موهبة برنشتاين الحقيقية لم تظهر إلا في عام 1905 حين ظهرت له مسرحية «زخة المطر» وأتبعها بمسرحيات أخرى أبرزها «السارق» و«شمشون». ولعل القاسم المشترك الأساسي بين هذه الأعمال هو القسوة التي ينظر بها برنشتاين إلى شخصياتها والانهيار العاطفي الذي يجعلها تصاب به من خلال أحداث استثنائية، ومن هنا اتسم معظم أعماله بنزعة ميلودرامية شديدة الوضوح حببته إلى الجمهور في تلك المرحلة الانعطافية من تاريخ الفن الفرنسي. وليس الفرنسي فقط، حيث نعرف أن مسرحيات عديدة لبرنشتاين ترجمت إلى لغات كثيرة ومثلت (ومن بينها اللغة العربية، حيث تفيدنا قائمة المسرحيات التي قدمها جورج أبيض، بأن برنشتاين كانت له ولمسرحياته حظوة لا بأس بها لدى جمهور المسرح العربي في ذلك الحين).
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما يريده الجمهور
خلال الحرب العالمية الأولى جند برنشتاين في جيش الشرق، وحارب في المنطقة العربية، ومن هناك عاد وفي جعبته هوس بالشرق والعديد من المواضيع التوراتية. وكان من أهم أعماله في هذا الإطار، مسرحية «جوديث» (1922) التي حققت حين عرضت نجاحاً كبيراً، جعل برنشتاين أكثر ثقة بخطواته وأكثر قدرة على فرض احترام نصوصه على المخرجين، ثم خاصة على الممثلين. ومنذ تلك اللحظة لم يعد بإمكانه أن يقبل أي نقد يوجه إليه، وصار خصامه مع النقد خصاماً دائماً.
والحال أن برنشتاين- من وجهة نظر النجاح الفني وفاعليته- كان محقاً في موقفه، هو الذي لم يعرف أي عمل من أعماله الفشل. فهو كان شديد الحساسية إزاء ما يريده الجمهور، ومن هنا كان يصر على أن تتسم أعماله بكل تلك الوصفات التي يريدها الجمهور. ولكن ليس أي جمهور بالطبع: بل جمهور خاص كان عمله بالذات هو الذي فتح له أبوابه، وهو كان يعتمد على موقف هذا الجمهور الإيجابي منه على الدوام، لكي يحدث في عمله تلك التطويرات البسيطة التي كان يجريها على عمل بعد عمل. غير أن تلك التطويرات لم تطل، على أي حال، جوهر عمله الذي كان يعتمد على التطور السيكولوجي للشخصيات أكثر من اعتماده على تطور الأحداث. ومن هنا اعتبر مسرحه مسرحاً يشتغل على أعصاب متفرجيه، أكثر منه مسرحاً يشتغل على عقولهم.