في خفايا المحن، قد تختبئ، أحياناً، بعض النعم، وتُحصد بعض الفوائد، وإن لم تكن بحجم المصيبة والفاجعة. ينطبق ذلك على السودان حيث كان فيضان النيل كارثياً ومأساوياً. ولعل من أبرز ما خلفته كارثة فيضان 2020، من دروس وعبر، هو كشفها أوجه القصور الهندسي والإداري، وتنبهها إلى العديد من جوانب الإهمال والتفريط ونقاط الضعف.
فكما قضت كارثة الفيضانات على محصولات وبساتين واسعة، جددت حياة مساحات أخرى للزراعة والمراعي الطبيعية، وانعشت أفكاراً وقدرات ومشروعات حصاد المياه، من بين مليارات الأمتار المكعبة التي جادت بها السماء، وحملها النيل وروافده في فيضان هذا العام المدمر.
أصداء الفاجعة وملامحها لا تزال شاخصة، ترسمها وجوه ما زال يلفها وجوم الصدمة، وتجسِّدها للعيان حال الشوارع والطرق المتصدعة، ويشهد بها حطام المنازل المتهدمة وخيام معسكرات الإيواء المنصوبة، عنواناً للتشرد. فضلاً عن قوافل الغوث والمعونات الإنسانية، التي ما زالت تجوب الأنحاء والأحياء المتضررة، في ولاية الخرطوم بضواحيها وأريافها، ومعظم مدن ولايات السودان الأُخرى المنكوبة وقراها، التي لا تزال تنتظر دفقاً من الأمل تستقوى به وتقاوم المأساة، وتستمد منها قدرة تعينها على تجاوز آثار المحنة ومراراتها.
برامج إسعافية لتخفيف الأضرار
وقد بدأت وزارتا الزراعة والغابات، والري والموارد المائية، تنفيذ برامج ومشروعات إسعافية لتلافي آثار المحنة على القطاع الزراعي، وتحويل تلك المهددات والتحديات إلى فرص للاستفادة والتطوير.
ويكشف عبد المجيد محمد الطيب، مدير الإنتاج الزراعي في وزارة الزراعة والغابات، لـ "اندبندنت عربية"، أن "الوزارة تعمل على توفير مدخلات الإنتاج الزراعي، بصورة إسعافية عاجلة للمزارعين، الذين اجتاح الفيضان مزارعهم، لتمكينهم من اللحاق بما تبقي من الموسم، خصوصاً في مناطق المحصولات والمنتجات البستانية، في الجروف والسهول الفيضية، وذلك ضمن وسائل تخفيف الأضرار وسرعة التعويض عن بعض ما فُقد بسبب الكارثة".
فالوزارة، وفق الطيب، تعمل بالتعاون مع منظمة الأغذية والزراعة العالمية (الفاو) والمنظمة العربية للزراعة، على تنفيذ مشروعات وترتيبات عاجلة لتخفيف الأضرار التي لحقت بالمزارعين، مشيراً إلى أن تلك المنظمات أبدت استعدادها للمساهمة في هذا الجانب بغرض إعادة التأهيل وتوفير متطلبات اللحاق بالموسم وإنقاذ ما يمكن انقاذه من محصولات وخضر وفاكهة.
يضيف مدير الإنتاج الزراعي: "تتواصل المساعي للاستفادة من المساحات المضافة للرقعة الزراعية، خصوصاً في مناطق القاش ودلتا طوكر ومشاريع الحمره وأبوقاما، التي غمرها الفيضان وجدد الطمي خصوبتها، وتحتاج إلى الإسراع في استثمارها".
وسارعت وزارة الزراعة والغابات، بحسب الطيب، إلى تشكيل لجنة فنية متخصصة لتتولى على وجه السرعة، القيام بحصر شامل للأضرار والخسائر التي تعرض لها القطاع هذا الموسم نتيجة الفيضان والغرق وتحديد المطلوب العاجل لاستثمار تلك المساحات.
إنعاش "حصد" المياه
في السياق ذاته، يدعو المهندس عمار علي، مدير برنامج تخزين المياه في وزارة الري والموارد المائية، إلى "مشروع وطني استراتيجي لتخزين المياه، لتحقيق الاستفادة القصوى من الفيضانات والسيول والأمطار، لمصلحة المناطق البعيدة من الأنهار ومجرى النيل، التي تعاني من العطش وتحتاج إلى كل قطرة من تلك المياه لسد الفجوة في مياه الشرب، وتوظيف جزء منها في المشروعات الزراعية. ما يتطلب الشروع فوراً في تجهيز مواعين التخزين، لاستغلال المياه خلال فترتي الفيضان والخريف.
يضيف علي: "هذا المشروع الحيوي يحتاج إلى تخطيط جيد وحل المشكلات المرتبطة بالتمويل والسياسات والإدارة، والانتقال من مرحلة العواطف والأمنيات إلى خطوات عملية لتغطية مناطق العطش في عدد من المناطق في الولايات المختلفة"، مبيناً أن "السودان حقق عبر مشروعات عدة منذ عام 2018، حصاد 150 مليون متر مكعب من مياه الامطار، عبر 40 سداً على الأودية الصغيرة و450 حفرة و700 بئر جوفية، تم إنشاؤها في مناطق كانت تعاني من العطش في ولايات دارفور وشمال كردفان وشرق السودان".
تأهيل أكثر من مليون فدان
ويصف مدير تخزين المياه نسبة الاستفادة الراهنة من كميات مياه الفيضانات والأمطار والسيول، بـ"المتواضعة جداً، مقارنة مع الفرص الكبيرة المتاحة، فعلى الرغم من أن كمية مياه الأمطار السنوية في السودان تقدر بنحو 400 مليار متر مكعب، ما يعادل حصة السودان من مياه النيل وروافده بنحو 20 مرة، ومن دون شراكة من أي طرف آخر. فإن معدلات تخزينها ما زالت دون الطموحات والحاجات". مشدداً على ضرورة تخزينها وتحويلها من نقمة إلى نعمة، لمواجهة الشح الحاد في مياه الشرب للإنسان والحيوان، الذي تعيشه ولايات عدة، ما تسبب في نزوح السكان وهجرة الرعاة بمواشيهم إلى دول الجوار، وفي احتكاكات موسمية بين الرعاة والمزارعين، بصورة تؤجج الصراعات والصدامات وتهدد وحدة النسيج الاجتماعي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر علي أن "السودان تمكن في العام الماضي من تخزين كميات قليلة من المياه عبر تنفيذ ثلاثة سدود صغيرة في دارفور، بسعة 9 ملايين متر مكعب، ولدينا أفكار بإعادة حقن المياه داخل آبار جوفية". ويكشف أن "وزارة الري تخطط لرفع نصيب الفرد في الأرياف من 20 ليتراً حالياً إلى 35 ليتراً، في اليوم من مياه الشرب، على مسافة لا تزيد على نصف كلم، ومتوسط 90 ليتراً في اليوم للفرد في المناطق الحضرية عبر محطات تنقية كبيرة توزع على المدن".
وفي مجال الري الزراعي، يعلن مسؤول تخزين المياه، أن وزارة الري والموارد المائية تسعى إلى التوسع في ما يُعرف بمشاريع الأيلولة (التي آلت إدارتها إلى الولايات)، وإضافة حوالى 300 ألف فدان إلى مشروعات الري الانسيابي، وإعادة تأهيل مليون من الأفدنة ضمن المشروعات التي تروى بالمضخات المتوسطة، في ولايات في النيل الأبيض والجزيرة ونهر النيل والشمالية والنيل الأزرق، ضمن مشاريع في كل من السوكي والرهد وحلفا الجديدة.
الغطاء النباتي والمراعي الطبيعية
على صعيد متصل، يقول الدكتور سمير عبد الرسول الأمين العام للمجلس البيطري السوداني، لـ"اندبندنت عربية"، إن "مياه الفيضانات والسيول والأمطار تسهم في تعزيز كثافة الغطاء النباتي وتوسيع جودة المراعي الطبيعية ومساحاتها. ما ينعكس على صحة الحيوان بصفة عامة، ويزيد فرص التناسل ويحقق الوفرة للاستهلاك المحلي وفائضاً للتصدير".
يضيف عبد الرسول، "تعتبر المحصولات المطرية كالذرة الرفيعة والفول السوداني، من أهم المكونات الغذائية لأعلاف الدواجن والأبقار والأغنام، وبخلاف كونها مصدراً أساسياً للطاقة، هى تحسن من صحة الحيوان وترفع انتاجية الألبان".
ويلفت أمين المجلس البيطري إلى "أهمية التحسب المبكر لأمراض الخريف المتوقعة، إذ تكثر نواقل الأمراض ويزداد توالد الحشرات، ما يستدعي تكثيف العناية البيطرية والمكافحة والتطعيم اللازمين، بما يحقق الفوائد المرجوة من وفرة وجودة المراعي".
وكانت مناطق واسعة في معظم ولايات السودان تعرضت مطلع سبتمبر (أيلول) الحالي، إلى موجة أمطار وسيول وفيضانات عارمة غير مسبوقة، اجتاحت معظم المدن والقرى، وخلفت أضراراً وخسائر كبيرة في الأرواح والممتلكات والمزارع والحيوانات، وشردت آلاف الأسر التي فقدت منازلها، وتهدمت العديد من المرافق العامة، بسبب تلك الكارثة.