من المتفق عليه في تاريخ الفكر العالمي أن كتاب "الجمهورية" لأفلاطون هو أول الكتب التي تحدثت عن المدينة الفاضلة في التاريخ، ومن هنا، إذا كانت "شرائع حمورابي" تعتبر قوانين العدالة الأولى في تاريخ البشرية، و"كتاب الموتى" الفرعوني يعتبر كتاب الأسئلة الوجودية الأولى التي طرحها الإنسان على نفسه، فإن "الجمهورية" هو النص الذي فكّر الإنسان عبره في مصيره السياسي والكيفية التي يتوجب عليه أن يبني بها مدينته التي تخلو من الظلم والصراعات المتواصلة بين البشر. ونعرف طبعاً أن "الجمهورية" لم يكن كتاب أفلاطون الوحيد، بل إنه يأتي في سياق نحو 30 محاورة وأكثر خلّفها لنا أبو الفلسفة الإنسانية هذا ووصلتنا متكاملة بلغة تخلو غالباً من أي صعوبة، لتربطنا ليس فقط بفكر أفلاطون بل كذلك بالمناخ الفلسفي والاجتماعي الذي كان سائداً في زمنه، ولتقدم إلينا، فوق هذا وذلك، أفضل منصة يمكننا من خلالها الاطلاع على أفكار سقراط معلّم أفلاطون وصاحب مبدأ "إعرف نفسك" والمؤسس الحقيقي لمحاولات الإنسان الإجابة عن ألوف الأسئلة التي لا يتوقف عن طرحها على نفسه. من دون أفلاطون ومحاوراته كان من المستحيل علينا إذاً أن نتعرّف على سقراط، إلا من خلال شذرات من هنا وأخرى من هناك لا تروي أي ظمأ.
من الجمهورية إلى سياسات المدينة
ومع ذلك، ليس إيصال فكر سقراط إلينا فضيلة أفلاطون الأولى، إذ حتى لو كان سقراط هو البطل الأساسي في معظم محاورات أفلاطون، فإن هذا الأخير كان يختبئ غالباً خلف أستاذه لكي يوصل إلينا أفكاراً سياسية وأخلاقية وتربوية وعلمية ودينية، لا شك أنها كانت أفكاره هو. أما "الجمهورية"، فهو الكتاب الذي عرض فيه أفلاطون، وهنا مرة أخرى على لسان سقراط وبعض صحبه، بمن فيهم أخوان لأفلاطون نفسه يناقشان ويجادلان في... غياب أخيهما، تلك الأفكار التي كان من الواضح أنها كانت شغل المفكرين الإغريق الشاغل في الزمن الذي وضع فيه أفلاطون كتابه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مهما يكن من أمر، لا بد من أن نشير هنا إلى أن ترجمة عنوان الكتاب بـ"الجمهورية" ليست ترجمة دقيقة، وإن لم تكن مخطئة. فالعنوان الحقيقي للكتاب في اليونانية هو "بوليتيا" والمعني بها تحديداً "سياسات المدينة"، ولقد اشتغل ابن رشد الأندلسي على الكتاب ولخّصه انطلاقاً من هذا العنوان. ولكن، بالنسبة إلى كبار المتخصصين في الشؤون الأفلاطونية، لم يكن هناك فارق يُذكر بين مفهوم الجمهورية ومفهوم المدينة من منطلق سياسي. ومن هنا، عُرف الكتاب بهذا الاسم الرائج وربما تمييزاً له عن محاورة أخرى للمفكر نفسه عنوانها "السياسي" كما تمييزاً، بشكل موارب، عن كتابه الكبير الآخر "القوانين" الذي يتشارك مع "الجمهورية" في كونه من أطول كتب أفلاطون وبكونه كُتب في مرحلة نضج هذا الأخير، وهي المرحلة التي يبدو أنها أتت تالية لبلوغه أقصى درجات خيباته السياسية حين فشلت كل جهوده لإيجاد مكان له كمثقف في آلية السلطة السياسية، أي المرحلة التي كتب فيها "الرسالة السابعة" الشهيرة التي تتضمن حكاية مغامراته في صقلية وتمهيداً لشرح مجمل أفكاره السياسية. وهي بالتحديد الأفكار التي نجدها معروضة بالتفصيل، من ناحيتها القانونية والأخلاقية في "القوانين" ولكن بشكل أكثر اكتمالاً في "الجمهورية".
العدالة للجمع بين الأخلاق والسياسة
ويعيدنا هذا إلى الازدواجية التي طرحناها أول هذا الكلام حول كون "الجمهورية" كتاب أخلاق أو كتاب سياسة. والجواب أنه كان الاثنين معاً بالنظر إلى أن أفلاطون لم يكن ليرى تمايزاً بين البعدين السياسي والأخلاقي في مجال تسيير أمور الأفراد والمجتمعات. وبالنسبة إليه، كانت الكلمة المفتاح التي تجمع البعدين معاً هي: العدالة. وهو الأمر الذي لا يتوقف عن التأكيد عليه في كل لحظة من لحظات المحاورة، سقراط الذي يتحاور هنا مع مجموعة من سراة القوم في بيريه غير بعيد من أثينا، تحديداً في بيت الثري الأكبر سناً بين أفراد المجموعة، كيفالوس الذي كان قد سبق له أن جمع ثروة كبيرة من تجارة الأسلحة وها هو جالس اليوم يتأمل ويتساءل، وصولاً إلى محاولته الإجابة عن سؤال كان سقراط قد بادر بطرحه عليه منذ أول الجلسة، حول رأيه في كل خير يمتلكه بغية أن يكشف عمّا إذا كان سعيداً وما معنى سعادته إن كان كذلك. وفي سياق إجابته، تحدث كيفالوس بصورة خاصة عن "الظلم والعدالة". وهو لئن كان قد استطرد في حديثه وبدا واثقاً من أخلاقية الموضوع، لم يتمكن أول الأمر من إدراك علاقة ما يقول بالسياسة بصورة مباشرة. وهي العلاقة التي سيركّز سقراط، بالتالي أسئلته عليها، ليعبّر أفلاطون بدوره، ومن خلال تركيز سقراط، على مجمل المسائل المتعلقة بالمدينة والفضيلة والعدالة والحب والصداقة والرجل والمرأة والعائلة والإبداع الفني والفكر والصدق والوفاء... بحيث يأتي الكتاب في نهاية المطاف مختلفاً عن، وجامعاً لـ، مجمل محاورات أفلاطون السابقة واللاحقة سواء كانت "سقراطية" أو "غير سقراطية".
التوازن هو الكلمة المفتاح
لقد احتاج أفلاطون إلى أن يجعل كتابه هذا من 12 "كتاباً" كي يتمكن من استعراض مجمل أفكاره السياسية. ولعل اللافت أكثر من أي شيء آخر في هذا الكتاب هو أن أفلاطون أحدث تجديداً أساسياً عرض فيه لبنية الأمة والتوازن الاجتماعي، الذي يعزز وجودها على صورة التوازن الفردي أي توازن الإنسان الفرد مع ذاته ومع الآخرين. فبالنسبة إلى الفيلسوف، يتكوّن الفرد من ثلاثة عناصر، الرغبات الجسدية والقلب حيث مجال العواطف والنشاط الذهني. ويرى أن الحكمة التي هي أم الفضائل إنما تنتج من التوازن الذي يقوم لدى الفرد بين هذه الوظائف الثلاث. وعلى هذا النحو ذاته، يقول لنا أفلاطون على لسان المتحاورين في "الجمهورية"، لا يمكن لمجتمع ما أن يجد توازنه إلا حين تجد عناصره الثلاثة: التجارة (أي الاقتصاد موضوعاً في خدمة الرغبات) والجيش (بوصفه العنصر العاطفي الذي تمتلكه الأمة) وأخيراً الإدارة السياسية (بتماثلها مع الإمكانية العقلية) تخضع بشكل بالغ التناسق والتناغم لتراتبية مشغولة بعناية: فالمجتمع الذي لا يكون سوى مجتمع اقتصادي، سيهترئ ويموت حين لا يمتلك مثلاً أعلى يضبط فائض إنتاجه الطبيعي؛ والمجتمع يموت أيضاً حين لا يكون له جيش مكتفياً بأن يكون مجتمع تجّار. وفي المقابل، يؤكد لنا أفلاطون أن اكتفاء المجتمع بأن يكون له جيش لن يفضي إلا إلى استتباب ديكتاتورية عسكرية تقتل الجمهورية ومجتمعها، ومن ثمّ تكون الحاجة قاطعة إلى سلطة سياسية مستقلة عن الوظيفتين الأخريين. بالنسبة إلى فيلسوفنا لا تُحدّد الجمهورية إلا بالضرورة وبالفصل بين الوظائف الثلاث، أي باختصار: بقيام التوازن بين هذه الوظائف. ويرى أفلاطون أن قيام هذا التوازن هو الذي يوجد المدينة الفاضلة، وما صفحات أجزاء هذا الكتاب الكثيرة سوى عرض ليس فقط لطريق الوصول إلى مجتمع السياسة الفاضل هذا، بل كذلك لتفاصيل العناصر المكوّنة له، بما في ذلك عناصر التربية والإبداع والعلاقات العائلية. ولا بد من أن نشير هنا أيضاً إلى أنه إذا كان أفلاطون قد حدّد هنا الأسس والدوافع لقيام المدينة الفاضلة، فإنه في كتاب "القوانين"، وضع كل هذا في قوالب قانونية تشريعية وكأنه يصيغ دستوراً حقيقياً لدولة حقيقية، هو الذي وصل به الاشتغال على التفاصيل في الكتاب الأساسي "الجمهورية" إلى الحديث عن مآل الروح بعد الموت والغوص في المسائل الميتافيزيقية التي سيستعيدها آباء الكنيسة من بعده، معتبرين أنها مستكملة للأبعاد الميتافيزيقية التي ترتبط بالإيمان لديهم، تماماً كما فعل عدد من المفكرين المسلمين، الذين نظروا إلى أفلاطون كمفكر "إلهي" مقابل مادية أرسطو، لكن هذه مسألة أخرى بالطبع.