يبدو كتاب السينمائي والروائي الفلسطيني المقيم في السويد فجر يعقوب وعنوانه "ساعات الكسل – يوميات اللجوء" (دار كنعان، دمشق 2020) أشبه بكتاب وثائقي– روائي عن رحلات قوارب الموت التي انطلقت من شواطئ تركيا الى أرخبيلات اليونان عام 2015، مما يجعل التعبير الأدبي عنها مثل تميمة مرصودة لا يمكن النفاذ اليها أو التفريط بها إلا بإعادة كتابتها. وهي هنا رحلة المؤلف الشخصية من ضمن رحلات أحد أكثر شعوب المنطقة ميلاً للاستقرار، حتى أنه برحلاته تجاوز تلك الأسطورة التي حيكت من حول إله البحرفي الأسطورة الإغريقية فوسيدون الذي يغضب على الإنسان الأرضي أوديسيوس، فيحكم عليه بالفناء المائي وبقائه محكوماً بالماء إلى الأبد.
فوسيدون، أو ما بقي منه لا يبدو معنياً هنا بالتيه في مياه البحر، على الرغم من أن السلطات اليونانية أطلقت عمليات بحرية ضخمة باسمه، لتحدّ من تدفق اللاجئين عليها من مدن تركيا المختلفة: مرمريس، بودروم، أزمير، كوشتاديسي، وأسماء مدن كثيرة أخرى ستعلق بذاكرة المؤلف، وذاكرة كل من وطأ هذه البقاع المستحيلة بقدميه.
ركوب القارب المطاطي أو "البلم"، يذكّر بالأسطورة الرومانية التي تقول إن على الموتى أن يعبروا نهر ستايكس بقوارب خاصة بهم، وعليهم أن يتزودوا بالمال من أجل دفع الأجرة للمشرفين على القوارب، وحتى يسمح الكلب المتوحش سريبيروس للموتى، بالوصول إلى قاضي الموت.
إنه كتاب عن رحلة من رحلات الرعب بعيني روائي وسينمائي تخلى عن الصورة السينمائية، ليحلّق باللغة كما يريد ويشتهي".
تحكي اليوميات التي كتبت بلغة روائية عن تجربة الكاتب الشخصية في عبور بحر ايجه عام 2015 وصولاً إلى جزيرة ساموس التي ولد فيها الفيلسوف الإغريقي فيثاغورث، وهي لم تكن أبداً "معادلة رياضية عن مثلث الحب والمشاعر والموسيقى" كما يخيل للاجئين الوافدين إليها، بل كانت سجناً عسكرياً ذا سمعة سيئة، حتى أن المهربين كانوا يتفادونها في رحلاتهم نحو الأرخبيلات اليونانية الكثيرة، ولكن للبحر أحياناً كلمته الفاصلة.
مهربون ولاجئون
اللقاءات مع "المهربين الأفذاذ" و"المبتدئين" تأخذ مساحة واسعة من الكتاب للتعرف إلى طبائعهم المختلفة، وهم في معظمهم لاجئون سابقون امتهنوا مهنة التهريب بين المدن التركية واليونانية المختلفة. وما بين مدينتي إزمير التركية وأثينا اليونانية يأخذنا المؤلف في رحلة شيقة ومحفوفة بالمخاطر أثناء الاتصال بهم والتجهيز لعملية تهريبه مع سوريين وعراقيين وأكراد وفلسطينيين، وهي عمليات امتدت نحو شهرين وألقي القبض عليه خلالها ثلاث مرات في أثينا وحدها، قبل أن ينجح ببلوغ هدفه في الوصول إلى العاصمة السويدية ستوكهولم.
يكتب فجر يعقوب عن المدن التي عبر منها بوصفها سلسلة من الصور الرخوة في مخيلة منتهكة، فمدينة إزمير تمثل في استنهاض سورها العملاق "لحظة العبور إلى فوهة اللامكان"، كما أنه لا يغفل الإشارة المهمة في إبقائه على كتاب للشاعر سليم بركات في عهدة شاب سوري تائه فيها، وينتظر الخلاص من مخيلة لم تعد ملكه في رحلة تراجيدية أقتلع فيها من ثباته رغماً عنه ومن دون إرادته.
"ساعات الكسل" يوميات حافلة بالأسماء والأمكنة والذرائع الأدبية والأوصاف التي لم يكن ممكناً أن تتشكل في نصوص، بعضها يشكل مادة بصرية خاماً من دون الإقدام على هذه الرحلة التي تدخل فيها سماسرة ومهربون كثيرون، ووضعوا لمساتهم عليها.
الكتاب مهدى إلى الباحثة التركية في جامعة أكسفورد سوزان ميريم روزيتا التي ساعدت المؤلف في الوصول إلى إسطنبول، في وقت كان ممنوعاً على الفلسطينيين دخول تركيا، ليبدأ منها رحلته إلى مدينة إزمير وبقية المدن التركية التي تنقل فيها قبيل وصوله إلى الشواطئ اليونانية.
جاء الكتاب في فصول عدة وعنوان كل فصل يدل على معالم الرحلة، المحفوفة بالمغامرة والمخاطر ومنها: سور بيزنطية المتخيل، سترة نجاة مزيفة، ساعات الكسل، الطريق إلى كوشتاديسي، النجمة لا تنطفئ في الليل، انتحار بكوب زائد من الماء...
يصدر الكتاب في أوانه، فمأساة المهاجرين تتواصل ومعاناتهم تكبر أكثر فأكثر، بل إن رقعة الهروب باتت تتسع لتشمل شواطئ لبنان التي تنطلق منها قوارب الموت. ولعل الحرائق التي اندلعت اخيراً في مخيمات الهاربين اللاجئين في جزيرة لسبوس اليونانية وشرت النازحين في العراء، دليل آخر على فداحة المأساة التي يعيشها هؤلاء الهاربون.