أسدلت محكمة مصرية الستار على احتفال ديني يهودي يقام سنوياً منذ نحو قرن من الزمان في إحدى قرى دلتا النيل شمال مصر، إذ حكمت الدائرة الأولى في المحكمة الإدارية العليا برئاسة المستشار محمد حسام الدين، رئيس مجلس الدولة، باعتبار الطعن المقام من جهة الإدارة (الدولة) ضد حكم محكمة القضاء الإداري بمنع الاحتفالات بمولد الحاخام اليهودي يعقوب أبو حصيرة «كأن لم يكن»، وبذلك يصبح الحكم الصادر في 29 ديسمبر (كانون الأول) 2014 نهائياً وباتاً.
تفاصيل الحكم
وكان الحكم الصادر قبل ست سنوات في الإسكندرية برئاسة المستشار محمد عبدالوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة تضمن خمسة بنود، أولها إلغاء قرار وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني الصادر عام 2001 باعتبار ضريح الحاخام اليهودي يعقوب أبوحصيرة بقرية ديمتوه بمحافظة البحيرة ضمن الآثار الإسلامية والقبطية، واعتبرت القرار خطأً تاريخياً جسيماً، لأنه ليس من الآثار الإسلامية ولا المسيحية، كما أن مقبرة الحاخام والمقابر اليهودية المحيطة ليست لها قيمة أو أهمية تاريخية، ولا تعد من مظاهر الحضارات المختلفة على أرض مصر، ولا يجوز اعتبارها من رفات السلالات البشرية، لعدم معاصرة أصحابها الحضارة المصرية في عصورها المختلفة، وبالتالي فهي مجرد مدافن عادية لأشخاص عاديين، ما يجعل قرار وزير الثقافة مخالفاً للقانون .
وألزم الحكم وزير الآثار بشطب الضريح من سجلات الآثار، ونشر قرار الشطب في الصحيفة الرسمية حفاظاً على التراث المصري. ووصف الحكم قرار وزارة الثقافة بإدراجه ضمن الآثار الإسلامية والمسيحية بأنه تزييف للتاريخ، وإهدار لحضارة وتراث الأمة المصرية، كما أن الحاخام اليهودي وأصحاب المقابر المجاورة لا يدينون للإسلام أو المسيحية، وبالتالي فإن وصف المقابر اليهودية بالأثر الإسلامي والقبطي، ربما يثير فتنة بين أتباع الديانات السماوية الثلاث، وتساءل نص الحكم، "كيف يكون الأثر إسلامياً وقبطياً حال كون ديانة صاحبه يهودية؟".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ونص البند الثالث للحكم على إلزام وزارة الآثار بإبلاغ لجنة التراث العالمي في منظمة "يونيسكو" بشطب الضريح من سجلات الآثار الإسلامية والقبطية، مع موافاة المنظمة بترجمة معتمدة من الصورة الرسمية لحكم المحكمة.
ورفضت محكمة القضاء الإداري في حكمها طلباً إسرائيلياً مقدماً إلى منظمة "يونيسكو" لنقل رفات الحاخام اليهودي إلى إسرائيل، مؤكدة أن ذلك يتعارض مع الإسلام باعتباره دين الدولة في مصر، وما تمثله الشريعة الإسلامية من مصدر رئيس للتشريع، والذي يحترم الأديان السماوية، وينبذ نبش قبور أصحاب تلك الأديان تطبيقاً لسماحة الإسلام. وأضاف الحكم أن غير المسلمين يتمتعون في مصر بالحقوق والحريات كافة، ومنها حرية العقيدة. وأوضحت المحكمة أن أوراق القضية خلت من أية حجة قانونية أو ضرورة تقضي نقل الرفات إلى إسرائيل، وبذلك يصبح الطلب غير مستند إلى أساس سليم، مما يتعين رفضه.
منع تهويد القدس
وأشارت المحكمة إلى أن بحث طلب النقل يتطلب من المحكمة التعرف على ما إذا كانت الأرض المطلوب نقل الرفات إليها ملكاً لدولة إسرائيل، أم أرضاً فلسطينية محتلة، مؤكدة أنه وفقاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة، فإن القدس أرض فلسطينية، وإسرائيل سلطة احتلال.
وأضاف نص الحكم أن "القصد من طلب الجانب الإسرائيلي لمنظمة "يونيسكو" نقل رفات رجل دين يهودي، هو تهويد القدس العربية، وبهذه المثابة فإن الأرض محل الطلب الإسرائيلي المبدى لمنظمة "يونيسكو" لنقل رفات الحاخام اليهودي إليها أرض مغتصبة من سلطة الاحتلال الإسرائيلي، والأرض المحتلة لا ترد عليها تصرفات الدولة الغاصبة، ولا تدخل في سيادتها، ولا يكسبها ذلك حقاً مهما طال الزمان، ولا يجوز نقل الرفات إليها".
وفي آخر بنود الحكم، ألغت المحكمة إقامة الاحتفال السنوي لمولد الحاخام اليهودي يعقوب أبو حصيرة بصفة نهائية، لمخالفته النظام العام والآداب، وتعارضه مع وقار الشعائر الدينية وطهارتها، موضحة أن أوراق القضية ثبت بها قيام اليهود المحتفلين الزائرين للضريح "باحتساء الخمر وارتكاب الموبقات والمحرمات"، بما يتعارض مع التقاليد الإسلامية، ويشكل مساساً بالأمن العام وخروجاً سافراً على ما تتمتع به الشعائر الدينية من وقار وطهارة. وأكدت المحكمة أن الدستور المصري كفل حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية، ويحمي تلك الحريات مادامت لا تخل بالنظام العام، ولا تنافي الآداب، وألا تكون سبباً في الاحتكاك بين الطوائف الدينية وإثارة الفتن بينها.
يهودي أم مسلم؟
يرجع المقام محل القضية إلى حاخام يهودي اسمه يعقوب بن مسعود، ولد في العقد الأول من القرن الـ 19، واستقر في مصر خلال رحلة عودته من فلسطين، حيث أقام في قرية "دميتوه" قرب مدينة دمنهور في محافظة البحيرة التي سميت باسم تاجر يهودي كان يملك معظم أراضيها، وكانت علاقته وطيدة بالحاخام الذي دفن في القرية، وأقيم له ضريح بعد وفاته عام 1880، ويعتقد اليهود أن له "كرامات"، ما دفعهم لإقامة احتفال سنوي بمولده منذ عام 1907 في الفترة من 26 ديسمبر وحتى 2 يناير (كانون الثاني) عند ضريحه المقام على تل يحوي قبور يهود آخرين، وإن كانت تلك الاحتفالات برزت خلال عهد الرئيس السابق حسني مبارك.
ويرجع اسم "أبو حصيرة" إلى قصة متداولة لا يعرف مدى صحتها، وتدور حول غرق السفينة التي كانت تقله من المغرب إلى فلسطين، وأنه تعلق بـ "حصيرة" في البحر قادته إلى شاطئ سوريا، ثم توجه إلى فلسطين قبل مجيئه إلى مصر.
وعكس المعروف عن يهودية "أبو حصيرة"، تتداول أسطورة أخرى بين أهالي قرى البحيرة أن يعقوب ليس يهودياً من الأساس، وإنما مسلم مغربي كان في طريقه لأداء فريضة الحج، وصادف وجوده في دمنهور وقوع اضطرابات اضطرته للبقاء وعدم استكمال رحلة الحج، ثم عمل "إسكافياً" بجوار محلج قطن يملكه تاجر يهودي، تعهد "يعقوب" بالرعاية، ووفر له السكن في قرية "دميتوه"، وبعد وفاته ردد اليهود أنه حاخام وأقاموا له الضريح. ولا توجد أية مصادر تؤكد صحة تلك القصة المتداولة شعبياً.
مبارك تجاهل حكماً مشابهاً
يعد الحكم القضائي الصادر عام 2014 الذي تم تأييده السبت الماضي ثاني حكم من نوعه، إذ قضت محكمة بالإسكندرية عام 2001 بحظر الاحتفال بمولد "أبو حصيرة" وإزالة الضريح من قائمة الآثار، لكن السلطات المصرية في عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك تجاهلت الحكم، وسمحت باقامة المولد سنوياً، عدا عام 2008 لتزامنه مع حملة عسكرية إسرائيلية على قطاع غزة.
وتوقف الاحتفال بمولد "أبو حصيرة" منذ اندلاع ثورة 25 يناير 2011، حيث أبلغت مصر السلطات الإسرائيلية بصعوبة إقامته نظراً للظروف الأمنية في البلاد.
سعادة شعبية
ونقلت وسائل إعلام مصرية عن أهالي قرية "دميتوه" بالبحيرة سعادتهم بتأييد حكم منع إقامة المولد اليهودي في قريتهم، حيث كانوا يعانون من حال طوارئ أمنية تصاحب أية زيارات لمسؤولين إسرائيليين أو يهود للقرية، كما يروون أن فترة المولد كانت تشهد قدوم مئات المحتفلين اليهود بخاصة من إسرائيل وفرنسا والمغرب، وترددت شائعات حول قيام المحتفلين بممارسة "أفعال غير أخلاقية" تؤدي إلى غضب الأهالي. لكن الثابت أن المحتفلين كانوا يقومون بذبح الخراف، وهو ما أفاد تجار المنطقة.
وكان حكم محكمة القضاء الإداري صدر بناء على دعوى أقامها محام من أبناء قرية دميتوه لإلغاء الاحتفال بمولد "أبو حصيرة" اليهودي، وذلك لمخالفته آداب وأخلاق الريف المصري.
وفي تصريحات تليفزيونية أكد مدير منطقة آثار البحيرة الإسلامية والقبطية واليهودية سمير رزق، أن مظاهر الاحتفال تتعارض مع مظاهر الشعائر الدينية وطهارتها، وتتعارض مع "الآداب العامة"، وأن الضريح لا يحمل أهمية تاريخية أو أثرية، وصاحبه شخص عادي، والمدافن الموجودة بجوار الضريح عادية جداً.
رد الفعل الإسرائيلي
ولم يصدر حتى الآن تعليق من السلطات الإسرائيلية حول قرار تأييد حكم إلغاء الاحتفال اليهودي، ورفض طلب نقل الضريح إلى إسرائيل، ولكن حين صدر الحكم المؤيد في 2014، أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إيمانويل نحشون، أن الوزارة تدرس حيثيات الحكم وستناقشه مع السلطات المصرية، "للتأكيد على أهمية حرية العبادة"، كما وصفت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية حينها حظر السلطات المصرية الاحتفال بمولد أبو حصيرة بـ "التعسفي"، وأضافت أنه يحدث للمرة الأولى منذ توقيع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979.
وكان السفير الإسرائيلي السابق بالقاهرة ديفيد جوفرين، قام بزيارة مفاجئة للضريح عام 2017، بالرغم من صدور الحكم الأولي بإلغاء اعتباره ضمن الآثار.