قد يكون أحد الجوانب الإيجابية للإغلاق الذي فرضه تفشي وباء "كورونا"حول العالم، الغياب الموقت للضوضاء التي يتسبب فيها البشر. فقد توقف عدد لا يُحصى من الصناعات عن العمل، وأغلقت المتاجر غير الضرورية أبوابها، فيما غرقت أغلب الشوارع والطرقات في صمت كبير.
وقد تسنى للأشخاص الذين تمكنوا من المغامرة بالخروج من منازلهم، إما لممارسة تمارينهم اليومية التي سمحت بها الحكومة، أو لاضطرارهم إلى التنقل بحكم الواجبات التي تتطلبها بعض الوظائف الرئيسة، أن يختبروا عالماً مختلفاً بشكل كامل. هذا العالم كما لاحظ كثيرون في ذلك الوقت، كان حافلاً بتغريدات الطيور وأنغامها.
وفي هذا الإطار، توصلت دراسة صدرت أخيراً إلى أن الانخفاض المفاجئ في تلوث الضوضاء لم يكن وحده السبب الذي أتاح للناس فجأةً سماع أصوات الطيور. ففي الواقع، قامت الطيور بتغيير لهجتها وتغريداتها، لتتفاعل مع صفاء محيطها الجديد، من خلال الإنشاد بنغمات مختلفة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الدراسة التي أجريت في ولاية كاليفورنيا الأميركية، بحثت في التغيرات التي طرأت على تغريدات الطيور، ولا سيما منها العصافير المهاجرة ذات التاج الأبيض في منطقة خليج سان فرانسيسكو، قبل فترة الإغلاق التي فرضها وباء "كوفيد - 19"، وبعدها، وشمل البحث بيئات مختلفة ضمن المدينة وفي الريف.
ويوضح الباحثون أن فترة الإغلاق الممددة في تلك المنطقة، أدت إلى "انخفاض لافت" في مستويات الضجيج والضوضاء في مناطق المدينة. ويعزى السبب الأساس في ذلك إلى تضاؤل حركة المرور التي كانت تحاكي نوعاً ما تلك التي سادت أجواء المدن في منتصف خمسينيات القرن الماضي.
وأظهرت دراسات طويلة الأمد خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، أن الطيور التي تعيش على مقربة من المناطق التي تشهد ازدحاماً كبيراً، قد غيرت قليلاً من طريقة تغريدها، من أجل اختراق الضجيج المستمر الصادر عن ضوضاء الطرق المحيط بها.
الكاتبة الرئيسة للبحث إليزابيث ديريبيري، وهي أستاذة مشاركة في "جامعة تينيسي" ومتخصصة في التطور السلوكي، قامت على مدى أعوام بمراقبة أسراب العصافير ذات التاج الأبيض المنتشرة في الضواحي الحضرية والريفية لسان فرانسسكو.
وقد أظهرت الأبحاث التي أجرتها مع زملائها، أنه مع تزايد معدلات الضوضاء ضمن نطاق المدن (يعود أساساً إلى الازدياد المطرد في حركة المرور)، اضطرت الطيور إلى تبديل تغريداتها بحيث لجأت إلى رفع عقيرتها بالغناء بحد أدنى من الترددات، الأمر الذي ساهم في مضاعفة مسافة التواصل في ما بينها، وكان الثمن تراجع في مستوى الإنشاد الصوتي.
هذه الظاهرة لوحظت أيضاً في المملكة المتحدة ما بين أصناف مختلفة من الطيور، بما فيها التي تنتمي إلى فصيلة Great Tits (تمتاز بلون أخضر وأصفر ورأس أسود لامع)، وتعيش على مقربة من الطريق الدائري السريع M25 الذي يحيط بلندن الكبرى.
ويرى واضعو الدراسة الجديدة أن نتائجها تقدم دليلاً قوياً على أن التغييرات التي طرأت على تغريدات العصافير في مناطق عدة، والتي تم ذكرها في وقت سابق - ولا سيما التغييرات التي أدت إلى تراجع في جودة تلك التغريدات بحيث تؤثر على قدرة الذكور منها في الدفاع عن مواطن عيشها وجذب عصافير أخرى إليها - نتجت من تزايد الضوضاء التي يسببها البشر.
نتائج البحث ارتكزت على البيانات التي تم جمعها عن تغريدات الطيور في الفترة الممتدة ما بين إبريل ويونيو (حزيران) من عام 2015، وكذلك على التسجيلات التي تم التقاطها في المواقع نفسها ما بين شهري أبريل (نيسان) ومايو (أيار) في السنة 2020.
وقد لاحظ الباحثون أن العصافير في المجموعة الأخيرة التي تعرضت لنسبة قليلة جداً من الضجيج الخلفي، أظهرت انخفاضاً في مساحة الصوت وتراجعاً في الذبذبات الصوتية الدنيا، الأمر الذي أدى إلى ما وصفته ديربيري بأنه أداء صوتي "أكثر جاذبية" لأنواع أخرى من الطيور.
ولدى سؤال الباحثة عما إذا كان هذا التطور قد حدا بالطيور إلى اختبار موسم صيف من الحب الفريد من نوعه، قالت لصحيفة "اندبندنت": "أعتقد أنه من الممتع أن نجد أن هذه التغاريد الرنانة والجذابة تحاكي مجموعة الأغاني التي سجلت في أواخر ستينيات القرن الماضي وأوائل السبعينيات، خلال فترات صيف الحب الأصيل!"
وأوضحت ديبربيري أن "تغاريد الطيور أصبحت تمتاز بنطاق أوسع من الذبذبات الصوتية أو الترددية، وبمقدار ما يكون النطاق الترددي أوسع يصبح أداء التغريد أعلى وأكثر جاذبية".
وتضيف: "الدراسة تكشف لنا أن للضوضاء تأثيراً كبيراً على التواصل ما بين الحيوانات التي تتعامل بمرونة مع المشكلة. وعندما يتم تقليل الضجيج والصخب، تعود العصافير إلى الإنشاد بأجمل مداها".
ويشير مؤلفو الدراسة إلى أن هذه التغييرات كانت أكثر بروزاً ووضوحاً لدى الطيور التي تعيش في مناطق المدن، الأمر الذي منح تلك الطيور على الأرجح، قدرةً أكبر على التنافس من أجل العثور على مواقع ملائمة لإنشاء أعشاشها والتكاثر.
ويضيف واضعو البحث في المقابل بأن النتائج تظهر كيف يمكن للطيور أن تتكيف بسرعة مع البيئات المتغيرة، وتشير أيضاً إلى أن إيجاد حلول مستديمة لها قد يفضي إلى نتائج واعدة أخرى، بما في ذلك تعزيز التنوع في أصنافها وسلالاتها.
وتخلص ديريبيري إلى القول "أعتقد أن في إمكاننا اتخاذ بعض الخطوات من أجل خفض مستويات الضوضاء الصادرة عن البشر. فلا حاجة إلى إعادة فتح جميع الطرقات، وقد تحافظ حركة مرور السيارات على وتيرتها المحدودة إذا ما واصل عدد أكبر من الناس العمل من منازلهم".
تم نشر الدراسة في مجلة Science (مجلة أكاديمية تصدرها "الجمعية الأميركية لتقدم العلوم").
© The Independent