احتفلت الأوساط الفنية الروسية والعالمية هذا الأسبوع بالذكرى المئوية لسيرغي بوندارتشوك، أحد أهم أساطين السينما السوفياتية والعالمية، الحائز على كثير من الجوائز المحلية والدولية، منها جائزة الأوسكار عام 1969 عن فيلم "الحرب والسلام"، الذي استوحى قصته وأحداثه من رائعة الأديب الروسي العالمي ليف تولستوي الصادرة بالاسم نفسه مطلع القرن الـ 20.
منذ نعومة أظافره تبدّى ولع سيرغي بوندارتشوك جلياً واضحاً بمجالات الفنون والسينما على وجه الخصوص، بالرغم من ابتعاده عن معاقل صناعتها في العاصمة السوفياتية موسكو، فلم يكن ثمة من يتوقع أن تسفر هذه المرحلة من حياة ذلك الشاب الحالم، القادم من مجاهل الريف السوفياتي، عما أسفرت عنه من توهج وفرادة أسهمتا في انطلاقته التاريخية نحو العالمية، وهو لا يزال في مقتبل حياته الفنية التي توّجها بحصوله على فنان الشعب للاتحاد السوفياتي، ولم يكن تجاوز الـ 32 من العمر في 1959.
ولد سيرغي بوندارتشوك في قرية بيلوزيركا الأوكرانية، لكن انتقاله إلى مدينة تاجانروج التي شب فيها وترعرع كان نقطة تحول محورية في حياته، سرعان ما حملته إلى ساحات الفن المحلية هاوياً في البداية، ومحترفاً لبعض الوقت في فترة لاحقة شهدت بوادر انطلاقته.
كانت البداية بالمدرسة المسرحية في روستوف جنوب روسيا، حتى انتقاله قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بسنوات معدودات، ممثلاً في مسرح "الجيش الأحمر" بالعاصمة الشيشانية غروزني شمال القوقاز.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
شاءت الأقدار أن تصقل مشاركته في الحرب مقاتلاً في صفوف الجيش الأحمر السوفياتي مواهبه وتوجهاته، لتكون أساساً لكثير من إنجازاته في عالم السينما، التي ارتبط معظمها بأسماء أبرز مشاهير الأدب الروسي والسوفياتي، مثل ليف تولستوي وميخائيل شولوخوف الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1965. ولذا لم يكن غريباً أن تكرمه الدولة السوفياتية بمنحه لقب "فنان الشعب للاتحاد السوفياتي"، بما تبع ذلك من فتح كل الأبواب وتسخير كل الطاقات، لتحقيق ما كان ينشده من مشاريع فنية تعكس أعماق وأبعاد الروح القومية السوفياتية. وكان بوندارتشوك استهل نشاطه السينمائي بعدد من الأعمال الفنية ذات الصبغة الوطنية التي عادت عليه بكثير من الشهرة والتقدير محلياً وعالمياً، ومنها المشاركة في بطولة فيلم "الحرس الفتي" عن قصة الأديب السوفياتي ألكسندر فادييف الصادرة بالعربية في جزءين عن "دار التقدم" بموسكو.
ويذكر له التاريخ أيضاً فيلم "مصير إنسان" عن قصة ميخائيل شولوخوف، الصادرة تحت الاسم نفسه، وهو الفيلم الذي أكسبه جوائز دولية عدة، ويذكر شهود العيان أن شولوخوف غادر قاعة السينما لدى مشاهدة العرض الأول للفيلم، والدموع تنزلق على وجنتيه، تأثراً بأداء بوندارتشوك تمثيلاً وإخراجاً، فيما توقف النقاد السينمائيون عند نجاح الفيلم في إعادة الاعتبار للآلاف من الأبرياء الذين وقعوا أسرى الجيش الألماني من جنود القوات المسلحة السوفياتية، ممن كان ستالين اعتبرهم في عداد "الخونة". وكان بوندارتشوك استوحى كثيراً من مشاهد ذلك الفيلم من واقع مشاركته في الحرب العالمية الثانية، فيما حقق الكثير من النجاح بقدراته المميزة على تحريك مشاعر أبطال الفيلم، ممن عاشوا ويلات تلك الحرب، ما أضفى على مشاهده ملامح الواقعية بكل أبعادها.
واللافت في هذا الصدد هو تمسك سيرغي بوندارتشوك بما حبته به الأقدار من مواهب عدة، جعلته غير قنوع بالاكتفاء بأدوار المخرج والمشاركة في كتابة السيناريو، ليلحق بهما بطولة هذه الأعمال الفنية، الأمر الذي عاد عليه بتقدير الأوساط الفنية والرسمية. وعلى النحو نفسه من تميز وفرادة، عكف بوندارتشوك على إعداد وتصوير وإخراج رائعته "الحرب والسلام" المستوحاة من رواية تولستوي التي تحمل الاسم نفسه، وفاز عنها بجائزة الأوسكار الأميركية عن أفضل فيلم أجنبي عام 1969.
وتوقف كثير من المراقبين والنقاد السينمائيين عند مشاهد هذه الرواية التي استغرق تصويرها سبع سنوات، وتناولت غزو نابليون لموسكو عام 1812، فضلاً عما تخلل ذلك من استعراض لمشاهد مقاومة سكانها، التي بلغت بهم حد الإقدام على إحراقها، في الوقت الذي كان ينتظر فيها إمبراطور فرنسا تسلم مفاتيحها، ما دفعه إلى شد رحال العودة لباريس.
لكن أهل موسكو كانوا أعدوا العدة لشأن آخر، تمثل في خطة "ثعلب" الإمبراطورية الروسية المارشال ميخائيل كوتوزوف، لانتظاره خارج المدينة عند بلدة بورودينو التي كانت عنواناً للمعركة التاريخية وبداية نهاية الإمبراطور الفرنسي، وذلك ما أبدع بوندارتشوك في تصويره وإخراجه أثناء "معركة بورودينو" بأطراف موسكو، بما اتسمت به من فرادة وتميز، و"عالمية وعبقرية" الإخراج والتصوير، في زمن لم يكن يُعرف بعد "استخدام "الجرافيك" والحيل السينمائية الحديثة.
وكانت "القناة الأولى" للتلفزيون الروسي أعدت بمناسبة الذكرى المئوية لمولد الفنان سيرغي بوندارتشوك فيلماً وثائقياً تناول ضمناً ما قاله شهود عيان وعدد من أبطال هذه الأسطورة الفنية ممن هم على قيد الحياة، في شأن قدرات مدير تصوير فيلم "الحرب والسلام" ونجاحه في تسخير الإمكانات المحدودة للكاميرات التي كان وزنها يزيد على 80 كيلو غراماً، لتسجيل ما اعتبره خبراء السينما الأميركية من "إعجازات" العصر.
وأشار هؤلاء أيضاً إلى سوء نوعية الشرائط التي استخدمها بوندارتشوك في تصوير هذا الفيلم، وما اعتراها من قصور دفعه إلى إعادة تصوير 32 مشهداً من مشاهده في ظل ظروف شديدة الوطأة، وصعوبة حشد الطاقات وتكرار "التوصل إلى فورة المشاعر والأحاسيس ذاتها" لدى أبطال الفيلم وبقية المشاركين فيه، ممن تجاوزت أعدادهم عشرات الألوف لدى تصوير المعارك الحربية.
ولعل ذلك أو بعض ذلك، هو ما دفع السينما الإيطالية إلى دعوته عام 1970 لإخراج فيلم "ووترلو" الإيطالي السوفياتي المشترك، الذي يمكن اعتباره امتداداً لأسطورة "الحرب والسلام"، من واقع اعتبار معركة بورودينو بضواحي موسكو، وهزيمة نابليون في حربه ضد الإمبراطورية الروسية عام 1812، بداية النهاية التي حلت مع 1815 في ووترلو.
ومن طرائف القدر أن تشهد السنوات السبع التي استغرقها هذا الفيلم، وشاركت فيه الزوجة إيرينا سكوبتسيفا، مولد الابنة يلينا في السنة الثانية من بدء تصوير الفيلم، فيما ولد الابن فيدور في السنة الخامسة، ليكونا من أهم وأشهر فناني السينما الروسية خلال الوقت الراهن.
وشهدت سبعينيات القرن الماضي "ذروة نجاح" ذلك الفنان من خلال ما أبدعه من أفلام سينمائية ونشاط فني مميز مع قرينته إيرينا سكوبتسيفا في مختلف المجالات، منها رئاسة أقسام التمثيل والإخراج في معهد الدولة للسينما "فجيك" أحد أكبر وأشهر المعاهد الفنية السوفياتية، إلى جانب نشاطه السياسي والحزبي، الذي سرعان ما كان سبباً باشتعال فورة الغضب والإدانة في أول مواجهة مباشرة أعقبت إعلان الزعيم السوفياتي ميخائيل جورباتشوف لنهجه الجديد تحت شعارات "البيريسترويكا والجلاسنوست" عام 1985. وكان ذلك سبباً في إطاحته من منصبه كأمين اتحاد السينمائيين السوفياتي بالمؤتمر الخامس للاتحاد عام 1986، لكنه سرعان ما جمع شتات ما بقي من جهد وعزيمة ليستعيد بعضاً من وهج الماضي مع نهاية ثمانينيات القرن الماضي.
آنذاك قرر بوندارتشوك تنفيذ حلمه الذي طالما راوده حول إخراج رواية "الدون الهادئ" رائعة شولوخوف، والتي فاز عنها بجائزة نوبل للأدب عام 1965، وهو الفيلم الذي لم يظهر إلى النور إلا بعد وفاته بما يزيد على عشر سنوات.
واللافت هو نجاح سيرغي بوندارتشوك في تسخير مواهبه المتعددة التي جعلته غير قنوع بالاكتفاء بأدوار المخرج والمشاركة في كتابة السيناريو، ليلحِق بهما بطولة هذه الأعمال الفنية. وكان بوندارتشوك استهل نشاطه الفني وأعماله السينمائية بالمشاركة في بطولة فيلم "الحرس الفتي" عن قصة الأديب السوفياتي ألكسندر فادييف، التي أثارت حينها كثيراً من الجدل، بعد أن انتقدها ستالين مرات عدة. فقد كان المؤلف يعود بعد كل منها إلى مراجعة مشاهدها بسبب تقصيره في تصوير دور الحزب الشيوعي في قيادة جموع الشباب من أعضاء "الكومسومول" بمشاركتهم في حركة المقاومة ونشاط الفدائيين، على حد قول ستالين، وهو ما كان سبباً في إقدامه على الانتحار هرباً من مواجهة ستالين.
ولعل كثيراً من جوانب شخصية بوندارتشوك وما حفلت به من مفارقات، حدد مسار حياته على الصعيدين الشخصي والفني، فمن هذا المنظور استهل قائمة نجاحاته المميزة ببطولة عدد من الأفلام التي حققت له شهرة جابت الآفاق، سواء كممثل، مثل فيلم "تاراس شيفتشينكو" عن حياة الشاعر الأوكراني الشهير، وذلك قبل أن يتحول إلى الإخراج في فيلم "مصير إنسان" عن رائعة شولوخوف الصادرة تحت الاسم نفسه.
ويذكر التاريخ ذروة نجاحات بوندارتشوك في رائعته "الحرب والسلام". ومن اللافت أن اختياره لرائعة تولستوي هذه، وما عادت به عليه من شهرة طاغية وجوائز عالمية، ترك الكثير من بصماته على حياته الشخصية. فقد كان بوندارتشوك آنذاك مرتبطاً برباط الزوجية مع إينا ماكاروفا إحدى أجمل وأشهر فنانات العصر. لكن الهوى أقر قوانينه، بمصادفات جمعت بينه وغيرينا سكوبتسوفا "جميلة جميلات السينما السوفياتية" التي اختارها مهرجان كان السينمائي الدولي "حسناء دورته عام 1956، ولم تكن تحمل في جعبتها أدواراً فنية كثيرة. كما أن ارتباطها بأحد أهم صحافيي ذلك العصر وهو ألكسي أدجوبي زميل الدراسة في جامعة موسكو الحكومية، لم يحل دون مصادفات القدر التي جمعتها لاحقاً مع "حبيب العمر" بوندارتشوك على محطة الأتوبيس قريباً من أستوديوهات جوركي للسينما بأطراف العاصمة موسكو.
وتحكي جميلة جميلات السينما السوفياتية إيرينا سكوبتسيفا قصة تعارفها على بوندارتشوك منذ ذلك اللقاء، وما جمعهما من أدوار مشتركة لاحقة، منها "ديدمونة" في رائعة وليام شكسبير "عطيل". وبالرغم من حرص سكوبتسيفا على عدم الكشف عن أسرار تلك المرحلة من حياتها الشخصية، فإن حياة المشاهير في معظم جوانبها لم تكن لتظل طويلاً وراء الأقفال، إذ سرعان ما علمت العامة قبل الخاصة تحول قرينها ألكسي أدجوبي، الذي شغل لاحقاً منصب رئيس تحرير "ازفيستيا"، الصحيفة الرسمية الثانية والأكثر شهرة ونفوذاً بعد "البرافدا" لسان حال الحزب الشيوعي السوفييتي، صوب "رادا" ابنة الزعيم السوفياتي الأسبق نيكيتا خروشوف. وكان أدجوبي تعرف إليها في جامعة موسكو، وسرعان ما ارتبط بها بزيجة لم تنفصم عراها حتى نهاية العمر، الأمر الذي أتاح الفرصة أمام سيرغي بوندارتشوك لينسج مع إيرينا سكوبتسيفا، بداية "أسطورة غرام" امتدت ربع قرن حتى وفاته عام 1994، أنجبا خلالها كثيراً من نجوم السينما والفن، ممن يتصدرون الساحة الفنية الروسية حتى اليوم. ومن هؤلاء، بل في صدارتهم، فيدور بوندارتشوك الممثل والمخرج والمنتج صاحب الأعمال المميزة التي نشير منها إلى فيلم "ستالينغراد"، الذي سبق ورشحته موسكو لنيل جائزة الأوسكار، وفيلم "بوريس جودونوف"، أحد أبرز حكام الإمبراطورية الروسية، الذي جمع بين كثيرين من أخلاف بوندارتشوك، ومنهم زوجته إيرينا سكوبتسوفا فنانة الشعب لروسيا الاتحادية، وابنته يلينا، وابنه فيدور، وعدد من أحفاده.