ألقى الصراع بين أذربيجان وأرمينيا بظلاله على الساحة الإقليمية، لا في القوقاز وحسب، ولكن أيضاً في منطقة الشرق الأوسط التي تختلط فيها ملفات التاريخ بالوقائع اليومية على الأرض، على نحو خلط المزيد من أوراق الدولتين المتصارعتين على الإقليم الحساس بينهما.
ما يزيد الملف تعقيداً، هو التدخل التركي السريع، وانحيازه الصريح إلى حكومة أذربيجان بحجة أنها صاحبة الحق في الإقليم المتنازع عليه، إلا أن عدداً من المراقبين يرون في موقف أنقرة استجابة لحزازات التاريخ القريب والبعيد مع الأرمن كشعب، وسط خشية من استغلالها الأحداث لتصفية حساباتها مع أمة تتهم دول عدة تركيا بممارسة مذابح في حقها، والتي تحل ذكراها السنوية في 25 أبريل (نيسان).
لكن هذا المنحى التاريخي لا يكفي لفهم ما يجري هناك، فبحسب وكالة "بلومبيرغ" الدولية، يكون ميدان أرمينيا وأذربيجان هو الصراع السابع الذي تنخرط في أتونه الجمهورية التركية، إذ يأتي خوض غماره بعد استنفار أنقرة عتادها وجنودها والميليشيات أحياناً، في كل من سوريا والعراق وقبرص واليونان وقطر وليبيا، مما خلق نقمة كبيرة ضدها، وسط شرائح واسعة من الشعوب العربية، ناهيك عن دولهم التي نددت بتدخلات أنقرة في شؤونها، وفقاً لبيان سابق لجامعة الدول العربية في جلستها الأخيرة.
خيوط متشابكة
مع ذلك، فإن رفض التدخل التركي في النزاع القوقازي لا يبدو أنه يحظى بالحجم نفسه من الإجماع عربياً، ويرجع ذلك إلى احتفاظ دول كبرى مثل السعودية بعلاقات متينة آخذة في التطور مع حكومة أذربيجان، ذات الموقع الاستراتيجي بحكم قربها من إيران المؤرقة بسياساتها لعرب الخليج والمنطقة.
لذا سارعت منظمة التعاون الإسلامي إلى الاصطفاف مع باكو، بوصفها عضواً في المنظمة التي تتخذ من جدة، غرب السعودية، مقراً لها. وقالت في بيان "تندد الأمانة العامة بشدة بالاستفزازات والاعتداءات المتكررة للقوات العسكرية لجمهورية أرمينيا، وتجدد تضامنها مع جمهورية أذربيجان، وتذكر بقرارات ومقررات منظمة التعاون الإسلامي وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة، وتطالب بالانسحاب الكامل وغير المشروط للقوات الأرمينية من الأراضي الأذربيجانية المحتلة، واعتماد الحوار للتوصل إلى حل سياسي للنزاع بين البلدين على أساس احترام سيادة جمهورية أذربيجان وسلامة أراضيها، وحرمة حدودها المعترف بها دولياً".
أما السعودية منفردة، ودول الخليج ممثلة في مجلس التعاون، فاختارت بدلاً من ذلك الدعوة إلى التهدئة من دون انحياز إلى طرف دون آخر، لأنها وفقاً للباحث السعودي المتخصص في الشأن التركي محمد الرميزان، "تدرك حقيقة الصراع الذي بدأ منذ أوائل التسعينيات وحتى الآن، والذي يستلزم الحل الدبلوماسي في قضية المناطق المتنازع عليها، لاسيما التي تسيطر عليها أرمينيا في منطقة قره باغ".
المعنيون بالصراع
ولفت إلى أن سياق الصراع "ليس مقتصراً على دولتين حيال ملكية أراض لا تتجاوز 4 آلاف كيلو متر مربع، ولكن يجب فهمه ضمن الصراع الإقليمي بين إيران وتركيا من جهة، وضمن الصراع الدولي بين روسيا وحلفائها والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وحلفائهم من جهة أخرى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا يزال الصراع مستمراً إلى هذه اللحظة، والمعلومات المنشورة لوسائل الإعلام من قبل الطرفين "قد تكون جزءاً من حرب المعلومات والحرب النفسية لكسب الجمهور المحلي والدولي"، بحسب الرميزان، الذي كان بحث في وقت سابق فرص تنامي العلاقة بين الرياض وباكو في "شرق أوسط متغير".
في الجانب الأرميني، تحاول السلطات هناك توظيف خلاف العرب مع الأتراك في الضغط على أنقرة، وتحضهم على الاعتراف بالمذابح التي تُتهم بها في حق الأرمن.
ويؤكد وزير خارجية أرمينيا زوهراب مناتساكانيان، أن الدور التركي في قضية ناغورني قره باغ لا يتعلق فقط بالعداء التاريخي بين الأرمن والأتراك، بل بالطموحات الإقليمية التوسعية للرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفي هذا الصدد قال في حديثه مع "اندبندنت عربية"، إن بلاده تلاحظ أن "تركيا تحاول بناء قدرات عسكرية في منطقة القوقاز، والحشد العسكري المستمر في أذربيجان، المصحوب ببعض التقارير عن تجنيد مقاتلين إرهابيين أجانب من سوريا بهدف نقلهم إليها، يشكل مصدر قلق خاص"، لافتاً إلى أن أنقرة "لم تكن قط قوة استقرار سواء في الشرق الأوسط أو شمال أفريقيا أو شرق البحر المتوسط، وفي أماكن أخرى من حولها، ونلاحظ أدوات إظهار القوة من خلال استغلال الصراعات وتأجيجها، ودعم الجماعات الإرهابية وقيادتها، وإقامة الوجود العسكري".
أطماع جيوسياسية
بدوره يرى الباحث الرميزان، أن الانخراط التركي في الملف وملابساته أعقد بكثير، فالأتراك كانوا ولا يزالون داعمين للأذريين "لأسباب جيوسياسية وتاريخية وعرقية، كون الأذريين امتداد للترك، وتجمعهما لغة وثقافة متشابهة. ولذلك كان الدعم على مستويات عدة، كالتعاون العسكري والدبلوماسي، خصوصاً خلال تصاعد الصراع منذ بداية الأسبوع الحالي".
من أمثلة الدعم التركي ومحاولته التأثير في هذا الصراع بين أذربيجان من جهة وأرمينيا من جهة أخرى، وفقاً للباحث، تناول أردوغان في خطابه أمام الأمم المتحدة، وإشارته لهذا الصراع المستمر لنحو ثلاثة عقود، والذي لم يتم حله حتى الآن. وكذلك زيارة وزير الخارجية التركي مولد جاويش أوغلو وأحد ممثلي حزب العدالة والتنمية لمقر السفارة الأذربيجانية في تركيا، والذي يعبر عن المستوى العالي للحكومة التركية في دعم أذربيجان.
وكانت تقارير دولية نقلتها وكالة "رويترز"، أشارت إلى أن تركيا "دعمت أذربيجان بإرسال ميليشيات ومقاتلين سوريين، وقدرت العدد بين الألف والأربعة آلاف"، الأمر الذي تدعيه أرمينيا، وتنفيه أذربيجان.
وأكد مستشار للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أن بلاده لا ترى في الوقت الحالي أية ضرورة ملحة لإرسال قواتها إلى إقليم قره باغ المتنازع عليه بين أرمينيا وأذربيجان، إلا أن رئيس البلاد أعلن قبل ذلك دعمه لباكو التي قال إن لها الحق في إعلان "وقت الحساب مع أرمينيا"، وأنها باتت مضطرة لحل كل مشكلاتها بنفسها.
أما مكاسب تركيا من التصعيد، فإنها في اعتقاد الباحث السعودي "عدة، ويمكن التركيز على استخدام هذه الأحداث لكسب تأييد شعبي من قبل المواطنين الأتراك لهذه القضية، وإشغال الرأي العام عن قضايا محلية مهمة كانخفاض الليرة التركية وصراع الأحزاب السياسية".
وتشهد الحدود الأذربيجانية الأرمينية اشتباكات مسلحة مستمرة منذ 12 يوليو (تموز) الماضي، إلا أن المواجهات بين البلدين شهدت تصعيداً كبيراً الأسبوع الماضي، على خلفية النزاع التاريخي بينهما على إقليم "قرة باغ" الذي تعترف الأمم المتحدة بتبعيته لأذربيجان، بينما تدعي أرمينيا حقها فيه، بذريعة الدفاع عن عرقية الأرمن التي تسكنه، وتطالب باستقلاله.