في منتصف سنوات الألفين دخلت السينما إلى السعودية عبر ثلاثة أفلام سعودية ظهرت بين عامي 2005 و2006: "ظلال الصمت" لعبد الله المحيسن، و"نساء بلا ظل" لهيفاء المنصور، و"السينما 500 كم" لعبد الله آل عياف. شيء ما بدأ يحدث. صارت الكاميرا تصور السعوديين لأول مرة في تاريخها. وراح السعوديون ينظرون إلى العدسة للمرة الأولى. كانت لحظة غير مسبوقة يشهدها الفن السابع بعد أكثر من قرن على ولادته. عندما نتحدث عن سينما، فإننا نشير إلى شقين منفصلين ومتداخلين في آنٍ واحد. هناك السينما في شقها الإنتاجي والفني (صناعة الأفلام)، والسينما في شقها التجاري (عرضها في الصالات). أحدهما يُكمل الآخر. في السعودية، غاب الشقان لفترة طويلة جداً، يعني لا صناعة، ولا عرض، وذلك لأسباب دينية اجتماعية في المرتبة الأولى، وضعت الفن الأكثر جماهيريةً في القرن العشرين ضمن دائرة المحرمات. ظلت السعودية خارج الخريطة السينمائية، لعدم وجود صالات فيها، وللغياب هذا أسباب عديدة، الأول رفض المجتمع لفكرة الصالة، والثاني عدم سماح الاختلاط بين الجنسين. المفارقة أن أياً من المحرمات لم يمنع المشاهد العاشق للشاشة من بناء علاقة متينة بالأفلام، لا بل كانت في بعض الأحيان أمتن من علاقة أي مشاهد آخر فيها.
لسنوات، التقيت عدداً كافياً من الشباب السعوديين كي ألمس عندهم هذا الشغف بالسينما الذي كان دائماً محل إعجاب لأنه يحمل في داخله رمزية.
ربما كُثُر لا يعرفون أن هؤلاء الشبان كانوا يقصدون دولة البحرين لمشاهدة الأفلام. في النقطة التي تبعد عن السعودية 500 كلم. وهذا ما صوَّره عبد الله آل عياف في فيلمه الوثائقي "السينما 500 كم"، حيث روى واقع الشباب السعودي المتعطش لمتابعة الأفلام على شاشة كبيرة. فاقتفى خطى مجموعة من هواة السينما الذين هم كالكثيرين يضطرون للذهاب إلى البحرين. كان 90 في المئة من الإيرادات في الصالات البحرينية يعود الفضل فيها للسعوديين. شاب سعودي يعلق على هذه الحقيقة بالقول: "الغريب أنه عندما تسأل هؤلاء الـ90 في المئة إذا ما كانوا يؤيدون وجود صالات سينما في السعودية، يردون بـ"لا". فبالنسبة إليهم "على الرياض أن تبقى نقية ونظيفة".
تطلعات جيل
"السينما 500 كلم" حمل تطلعات جيل عاش هذا الواقع في بلد بلا شاشات. وقد كنت شاهداً على عرضه في مهرجان نانت الفرنسي في عام 2006، ورأيت دهشة الجمهور الفرنسي عندما اكتشف معاناة الشباب السعوديين لبلوغ شيء هم يعتبرونه من أساسيات العيش. هناك أجيال عدة نشأت على المشاهدة البديلة للصالات، منها الكاسيتات التي كان يمكن استئجارها من محال الفيديو. شباب متحمسون كانوا يتطلعون إلى المستقبل لا إلى الماضي، ويأملون تخطي العقبات الاجتماعية والدينية التي تحول دون وجود صالات سينما وصناعة سينمائية في السعودية.
على مدى سنوات، بقيت على تواصل بسينمائيين ونقاد ومشاهدين سعوديين. بعضهم كان يروي لي عن مدى صعوبة الحصول على نسخ لأفلام حديثة. غياب الصالات السينمائية ولَّد أساليب مشاهدة موازية تطورت مع تعدد وسائل المشاهدة. قديماً، في الثمانينيات، كان الكاسيت، ثم جاءت مرحلة الـ"دي في دي" التي لم تكن طويلة، إلى أن وصل التحميل عبر الإنترنت، فـ"نتفليكس" ومنصات إلكترونية أخرى.
روى لي أحدهم أنه في منتصف الثمانينيات، عندما كان فيلم ما يفوز بـ"أوسكار"، ينتظر عشاق السينما سنتين ليصبح متوافراً في "السوق" على أشرطة فيديو. حتى عندما ظهر الـ"دي في دي"، كان كثيرون لا يزالون يشاهدون الأفلام بنظام الـ"في إتش إس"، وكان الكاسيت الواحد يمر على 50 شخصاً، إلى أن يفسد ويصبح غير صالح للمشاهدة. هذا الراوي كان لديه أصدقاء يعمل أقاربهم في السفارة الأميركية، فكانوا يذهبون لاستعارة الأفلام من هناك.
دخول الإنترنت إلى البيوت اعتُبر انفراجاً كبيراً. كثيرون راحوا يستعينون بموقع "أمازون" لشراء أفلام "دي في دي" واستقدامها إلى السعودية. إلا أن مشكلة أخرى بدأت تلوح: مصادرة أفلام تتضمن قبلة من هنا، ومشهد جريء من هناك. نتيجة هذه الرقابة، كان يصل فحسب ثلث ما كان يطلبه السعوديون، أما البقية فكانت تُصادر. هذه الحقبة انتهت هي أيضاً، بعدما صار من الممكن تحميل الأفلام عبر "تورنت".
التغيير لم يأتِ فجأةً ، لكنَّ كثيرين من السعوديين كانوا يعرفون أنه يبدأ من مكان ما، من نقطة محددة. وكان عليهم إقناع الناس بضرورة تعميق العلاقة مع الفن. فنشطوا في هذا المجال. هيمنة القناعة الإجتماعية جعلتهم يحتاجون إلى بذل مزيد من الجهد، بالإضافة إلى الاستحصال على القرار السياسي الصادر من السلطات يقضي السماح بافتتاح دور العرض. وكانت للكتابة النقدية في الصحف والمجلات السعودية دورها أيضاً في نشر الثقافة السينمائية ونفض غبار الأفكار المُسبقة عن السينما.
في هذا الصدد، يقول المخرج عبد الله آل عياف: "في مرة من المرات، جرت محاولة لتنظيم مهرجان، وبدأ الناس يتوافدون ويسألوننا عما نفعله من باب الفضول. وبدأوا يدركون ماذا يعني أن تكون صامتاً خلال العرض، وأن تنتظر خروج صاحب الفيلم من خلف الستار بعد سقوط الجنريك، ليقول لك كلاماً عميقاً في فيلمه".
ثقافة سينمائية
وعلى الرغم من غياب الصالات، ففي السنوات الأخيرة كان التلفزيون الرسمي السعودي قد بدأ ببث برنامجاً لنشر الثقافة السينمائية. كانت هذه سابقة في تاريخ تلفزيون الدولة، ويمكن ترتيبها في إطار محاولة السلطات لجس نبض الشارع السعودي. مباردة قد تكون أيضاً استجابة للنجاحات النسبية التي حققها بعض الأفلام السعودية خارج البلاد.
هذا كله أفضى إلى مشهد سينمائي جديد في السعودية، بدءاً من عام 2018 تجسّد في رفع الحظر عن الصالات وافتتاح أول دار عرض في الرياض من دون فصل الجنسين. في الشهر الماضي وحده افتتحت خمس صالات جديدة، 3 منها في مدن تصل إليها السينما (بهذا الشكل) للمرة الأولى، ليصل العدد الاجمالي للصالات إلى 20، بعضها في مدن رئيسة كجدة والرياض والدمام، وبعضها الآخر في مدن أصغر، علماً بأن الطموح على المدى القريب هو الوصول إلى 80 صالة. طموح قد تساهم جائحة كورونا في إرجائه بعض الوقت.
جاءت هذه المبادرة بمُوازاة الإعلان عن إقامة مهرجان سينمائي كبير هو "مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي" الذي كان من المنتظر انعقاده في شهر مارس (آذار) من هذا العام، إلا أن المسؤولين عنه اضطروا إلى إلغائه بسبب الجائحة، فتم تأجيل دورته الأولى إلى العام المقبل.
على الرغم من هذا العدد من الصالات التي أبصرت النور في فترة وجيزة، فالسعودية تحتاج إلى مزيد منها؛ إلا أن هذه الخطوة نحو بثّ ثقافة المشاهدة تُعد ثورية قياساً بما كانت الحال عليه قبل بضع أعوام. تمّ الإقتناع رسمياً بالتأثير الإيجابي للسينما في المجتمع، وسُمح لشركات محلية وعالمية بأن تتنافس بُغية تقديم شكل جديد من وسائل الترفيه والتثقيف. وقد يساهم افتتاح الصالات في تعزيز صناعة الأفلام السعودية، وهذا ما يبشر به عرض الفيلم السعودي "شمس المعارف" لفارس قدس في الصالات، وهو عمل كوميدي تجري أحداثه في عام 2010، ويحكي قصة شباب سعوديين يغير الإنترنت حياتهم. أغلب الظن أن مشاهدة أفلام تتناول الواقع السعودي تحمل في طياتها رمزية أخرى عند الجمهور السعودي. في السنوات المقبلة، لن يتسنى للسعوديين مشاهدة الأفلام فحسب، بل سيشاهدون أيضاً أنفسهم على الشاشة العريضة.