على الرغم من إعلان مؤشر "نامبيو" العالمي للجريمة، أن تونس سجّلت أدنى مستويات الجريمة لديها لعام 2019، وصنّفها في المركز الـ 65 من بين 118 دولة حول العالم، إلا أن التونسيين يشعرون بأن الجريمة استفحلت بشكل غير مسبوق كما ازدادت بشاعةً وعنفاً.
وحصلت تونس على تقييم 42.29 نقطة، على مؤشّر الجريمة، و57.96 نقطة ضمن مؤشّر السلامة الأمنية. وحلّت رابعةً على المستوى المغاربي ضمن هذا المؤشر وفي المركز 22 عالمياً.
25 جريمة كل ساعة
وأكد المتخصص في علم الاجتماع، زهير العزعوزي أن "المجتمع التونسي يسجّل ما بين 20 و25 جريمة كل ساعة"، في حين ذكر وزير الداخلية التونسي، توفيق شرف الدين، أن "الإحصاءات تشير إلى تراجع منسوب الجريمة، إلا أن الشعور العام لدى التونسيين مختلف"، واعداً بتكثيف جهود الوحدات الأمنية "حتى يستعيد المواطن الإحساس بالأمن".
فهل فعلاً تفشّت الجريمة في تونس؟ وما هي أسباب تناميها؟ وهل من حلول للحدّ منها؟
"عندما الحياة تفقد معناها"
يؤكد علماء الاجتماع أن حالة الوهن والارتباك السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي، التي تعيشها تونس منذ عام 2011، ساهمت في هشاشة البنية العامة للمجتمع ولمؤسسات الدولة، وفكّكت النسيج المجتمعي، وبخسّت قيمة الحياة وأفقدتها معناها.
ويحذّر المتخصّصون في هذا المجال من خطورة "التطبيع" مع الجريمة، مؤكدين "أهمية السياسات العامة في التنشئة المتوازنة، وفي النّهل من القيم، بدايةً من الأسرة مروراً بالمدرسة ووصولاً إلى الشارع ومؤسسات الإعلام والدولة".
وقال أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، الوزير السابق، مهدي المبروك، لـ"اندبندنت عربية" إن "تتفيه الحياة (تصبح تافهة) وإفقادها معناها الأصيل، هو من أسباب تنامي الظاهرة الإجرامية في تونس، لذلك نجد خيطاً ناظماً بين الجريمة والإرهاب الذي يستهدف حياة الناس، إضافة إلى تنامي ظاهرة الانتحار. وحين تصبح الحياة بلا قيمة، يغدو إزهاق روح بشرية أمراً عادياً".
وشدّد المبروك على "ضرورة تعليم الناشئة أن الحياة عامرة بالأمل والمحبة والتعايش، من خلال سياسات ثقافية وتربوية عامة وهادفة، وذات رسائل نبيلة تعزز في الشباب الإقبال على الحياة، والتشبع بقيمتها وبقيمها، مهما تعددت الصعوبات".
هشاشة البيئة الاقتصادية والاجتماعية
وإذ أكد المبروك أن "العلوم الإنسانية والاجتماعية، لا تعترف بالحتمية والسببية، بالتالي فإن القضايا الاجتماعية، لها بيئات حاضنة، مثل التهميش الاجتماعي والاقتصادي، وتدني المستوى الثقافي، والفقر القِيمي".
وحول أدوات المعالجة، أكد الأستاذ الجامعي التونسي أن "مسؤولية الدولة الحديثة جلية، في مكافحة هذه الظواهر وغيرها، من خلال تركيز سياسات عامة، تنتج المعنى والقيم والأفكار"، مشيراً إلى أهمية "التمكين الاقتصادي، من خلال خلق الثروة، وتوفير فرص العمل لخلق أدوات الرّفاه للمواطن التونسي".
كما دعا إلى العمل على إصلاح المنظومة التربويّة، وإعطاء الأهمية لقيمة الحياة، إلى جانب الرعاية النفسية للطفولة، محذّراً من نتائج تنامي حالات الانقطاع المدرسي، حيث تؤكد إحصاءات رسمية قدمتها وزارة التربية، أن أكثر من مئة ألف طفل تونسي، ينقطعون سنوياً عن الدراسة، من دون أن تتم مرافقتهم في الحياة المهنية.
الحلّ في ثقافة الشارع
من جهة أخرى، شدّد المبروك على "أهمية تنشيط الشارع، من خلال مسرح الشارع والتظاهرات المفتوحة للعموم، وخلق فضاءات ينشط فيها الشباب، ويعبّر عن نوازعه عوض كبتها وتفريغها في قنوات أخرى محظورة اجتماعياً".
كما حذّر من تنامي ظاهرة الخطاب السياسي العنيف، الذي استشرى في تونس في الفترة الأخيرة، وهو خطاب يتسلّل إلى الأسرة، من خلال التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، يغذّي العنف وتفقد بمقتضاه النخب السياسية وجاهتها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أغلب مرتكبي الجرائم من الشباب
من جهة أخرى، ذكرت أستاذة علم الاجتماع، المتخصّصة في الجريمة والانحراف، لطيفة التاجوري أن "فئة الشباب هي الأكثر تأثراً بهشاشة الوضع الراهن في تونس"، مشيرةً إلى أن أكثر من 80 في المئة، ممَن يرتكبون الجرائم هم من الشباب (بين 18 و30 سنة)"، داعيةً إلى تكثيف الإحاطة بهذه الفئة، من خلال رؤية مجتمعية واضحة المعالم، تستهدف فئات الشباب والأطفال، باعتبارهما الأكثر تعرّضاً للاهتزازات التي تعيشها تونس بعد عام 2011، والتي أثّرت مباشرةً في منظومة الأسرة التي لم تعد تعمل بشكل طبيعي، بحسب تقديرها.
ودعت التاجوري إلى "إصلاح المنظومة السجنية، على الرغم مما تعرفه هذه المؤسسات اليوم من انفتاح على المجتمع المدني من أجل تكوين وتأهيل المساجين، إلا أن الإحاطة بكل المساجين تبقى هدفاً بعيد المنال، نظراً إلى ارتفاع أعداد السجناء، مقارنة بالمسؤولين عن مشاريع التكوين والتأهيل"، لافتةً إلى "عدم متابعة السجناء بعد انقضاء فترات محكوميتهم، وهو ما يدفع الكثير منهم إلى العودة إلى الإجرام".
واعتبرت التاجوري أن تشديد العقوبات ليس حلاً مثالياً، داعيةً إلى "جعل السجون مؤسسات إنتاج وخلق بدل إعادة إنتاج المجرمين".
الجريمة وقود الإعلام
كما أشارت أستاذة علم الاجتماع إلى أن "التناول الإعلامي ظاهرة الجريمة والإمعان في إعادة إنتاجها في شكل مشهدية للمتابعين، قد تشجّع عن غير قصد بعض الفئات الهشة على ارتكابها لأن المجرم الكامن والباحث عن ذاته في المجتمع، قد يجد في ارتكابها نوعاً من الاعتراف المجتمعي من خلال وسائل الإعلام".
وبخصوص التناول الإعلامي ظاهرة الجريمة سألت "اندبندنت عربية" أستاذ الإعلام والاتصال في معهد الصحافة وعلوم الإخبار التونسي، كمال بن يونس، فأكد ضرورة التحري في نقل الخبر والبحث عن التقاطعات الضرورية لبلورة خبر متكامل بعيداً عن الإثارة.
وعاب بن يونس على وسائل الإعلام "إطنابها في استضافة ضحايا الجريمة، وتقديمهم في مشاهد مؤثّرة من أجل استدرار عطف المشاهدين، والبحث عن نسب المشاهدة العالية من دون الالتزام بالمعايير الأخلاقية للمهنة الصحافية".
في المحصلة، تعجز المقاربة الأمنية وحدها عن الحدّ من الجريمة في تونس، على الرغم من جهودها اليومية في محاصرة الهاربين من العدالة والمجرمين، إلا أن مقاربةً شاملة يتداخل فيها الثقافي بالتربوي بالاجتماعي بالسياسي قد تنتشل فئات واسعة من الشباب الباحث عن ذاته في وضع رخو وهشّ تعيشه تونس منذ حوالى 10 سنوات.