من المتوقع أن تعارض الرئيسة التنفيذية لـ"مؤشر الرقابة" كل تهديد يطاول حرية التعبير. وبالتأكيد، من الصحيح أن ذلك يجب أن يعني معارضة كل التهديدات لحرية التعبير. في المقابل، ضمن مقالة حديثة حملت عنوان "التشريع الجديد لمكافحة الضرر عبر الإنترنت يمثّل تهديداً لحرية التعبير"، تبدو روث سميث انتقائية في شكل غريب، إذ أوردت أن الحكومة تخاطر "بالخلط بين ما هو غير قانوني بالفعل كالتحريض والتهديد، وبين التعبير الذي قد لا نتفق معه لكنه يكون ويجب أن يكون، قانونياً في مجتمع حر".
في المقابل، ثمة تهديد ضخم في الوقت الحاضر لحرية التعبير يتمثّل في انتشار الإساءة والتنمّر والمشاغبة في المنصات الرئيسة لمواقع التواصل الاجتماعي. وليس ذلك ببساطة من قبيل "التعبير الذي قد لا نتفق معه". ووثّق تقرير أصدرته الأسبوع الماضي "غليتش"، وهي جمعية خيرية لمكافحة التنمّر، ازدياداً إضافياً في الإساءة عبر الإنترنت تجاه النساء ومزدوجي الهوية الجنسية خلال الأشهر الأخيرة. وفي شكل حاسم، فصّلت الدراسة أن كثيرين من ضحايا الإساءة يغيّرون طرق تصرفهم في عدم التبليغ عن الأمر، فيتحدثون عن تلك الحوادث عبر الإنترنت. وقد تكلّم 82.5 في المئة من المستجيبين السود أو المهمشين، عن هذا الأثر [بمعنى تغيير طرق التصرف].
في ذلك الملمح، بيّن استفتاء أجرته "يوغوف" بتكليف من "منظمة العفو الدولية" قبل سنتين، وجود مستويات مماثلة من الصمت، إذ أعربت شريحة من 78 في المئة من النساء البريطانيات عن اعتقادهن بأن "تويتر" ليس مكاناً مناسباً كي يشاركن الآخرين آراءهن من دون التعرض إلى عنف أو إساءة.
واتصالاً بذلك، يفترض بهذين الرقمين الصارخين أن يذكّرا سميث بأن الإضرار بحرية التعبير ليس قصراً على الحكومات المفرطة في التدخل، بل باتت الإساءة عبر الإنترنت تحدّ الآن من حرية التعبير.
ونالت سميث نفسها نصيبها من خطاب الكراهية. وواضح أنها لم تدعه يؤثر فيها. في المقابل، كانت محظوظة بما يكفي كي تبرز كسياسية قبل وجود مواقع التواصل الاجتماعي، وقبل أن تتطلب المشاركة في العمل السياسي استخدام تلك المنصات. وليس ضرورياً أن تمتلكوا "مناعة" هائلة كي تشاركوا في العمل السياسي، ولن يكون مفيداً إذا وضعت الإساءة عبر الإنترنت حاجزاً جديداً أمام المجموعات المهمشة.
واستطراداً، ثمة تهديدات أخرى لحرية التعبير تقلّل سميث من أهميتها في معرض دفاعها عن عدم فرض تشريعات تنظيمية كثيرة على الإنترنت. وتتمثّل تلك التهديدات في الشركات الأجنبية غير الخاضعة للمحاسبة. ففي غياب التنظيم، تحدد هذه الشركات قواعدها الخاصة. وفي الأسبوع الماضي، خلال استجواب نواب ولجنة مكلّفة لوزارة "التكنولوجيا الرقمية والثقافة والإعلام"، أقرّت "تيك توك" بأنها فرضت حتى زمن قريب، قيوداً على المحتوى الخاص بالعلاقات بين أشخاص منتمين إلى النوع الجنسي ذاته، إذ أدرجت ذلك ضمن "سياسة مكافحة التنمّر" الخاصة بها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في هذه الأثناء، حظّرت صفحة "غرينبيس الولايات المتحدة الأميركية" لأيام الأسبوع الماضي. وليس من إمكانية لأن تكون المسألة الرئيسة وراء ذلك، متمثّلة في أفعال شريرة في شكل متعمّد أو خطأ ارتكبته خوارزمية رقمية معتلّة. إن هذه الفكرة تتمثل في أن شركات خاصة، تقع مقارها الرئيسة على بعد آلاف الأميال ويترتب عليها واجب إزاء مساهميها، تتمكّن من تحديد الحدود للمجال البريطاني العام.
وحالياً لدينا إنترنت تعكس الحدود ذاتها للفكرة التحررية الأميركية الخاصة بطبيعة الحرية والتحرر. وتبادر شركات عملاقة إلى تحديد هذه الحدود. ولا يتمتع الأفراد بـ"حرية التعبير"، إلا إذا كانوا أقوياء و/ أو متميزين بما يكفي لتحمّل الإساءة، أو إذا كانت أفكارهم مندرجة ضمن التيار السائد بما يكفي لعدم إثارة غضب الجمهور العام في الإنترنت.
وبشأن التعامل مع السؤال حول ما يتوجب فعله في شأن المحتوى "القانوني لكن المؤذي" على الإنترنت، لا يقترح أي شخص يتمتع بالجدية حقاً، إخضاع محتوى كهذا لرقابة حكومية، بل إنه اقتراح غير موجود. في المقابل، تشكّل معارضة وجود تشريعات تنظيمية بحد ذاتها، اختياراً للمعركة الخطأ.
واستناداً إلى ذلك، ثمة فرصة سانحة للحصول على تنظيم تشريعي يركز على وضع معايير للشركات، لا أن يكون مركّزاً على المحتوى الفردي أو المستخدمين الأفراد. وكذلك يتوجب على ذلك التنظيم بالطبع جعل الشركات تتحرك لمنع الأفعال غير القانونية على منصاتها.
واستطراداً، يتعلّق التنظيم أيضاً بكيفية تصميم الشركات منصاتها وتشغيلها ككل. فلو تركت لها حرية التصرف في أجهزتها، ستصمّم منصاتها وتشغلها مركّزة على تقليل النفقات وزيادة عوائد الإعلان.
في المقابل، يمكن أن يتطلب التنظيم منها أن تعالج إضافة إلى ذلك، العوامل الأخرى التي تهمنا كمجتمع مثل الحدّ من الإساءة الضارة والمعلومات المضلّلة، أو التأكد من أن منصاتها تشمل النساء والأقليات، أو حماية حرية التعبير، وتكون شفافة ومتسقة في سياساتها المتعلقة بالاستخدام المعتدل.
وتعدّ مقاربة المنصات مسألة إخفاء الهوية من قبل بعض المستخدمين، مثلاً بارزاً على طريقة تحسين التنظيم لأوضاع الإنترنت، إذ يشكّل إخفاء الهوية أمراً معقّداً، وقد يكون ضرورياً لتمكين كاشفي الأسرار أو المنشقين من إيصال رسالتهم إلى العلن. في منحى مغاير، قد يشكّل إخفاء الهوية أداة رئيسة في يد المسيئين عبر الإنترنت أو ناشري التضليل. وبذا، يكون الإخفاء عاملاً خطيراً يتطلب تفكيراً حذراً وإدارة استباقية. لكن لو تركت للمنصات حرية استخدام أدواتها، فستختار الأرخص، بمعنى أنها ستتبع نهجاً غير صارم ما يمكّن الحسابات الزائفة والإساءات عبر الإنترنت من الانتشار. في المقابل، يمكن للتنظيم الفاعل أن يتطلب من المنصات التكنولوجية تخفيف المخاطر المرتبطة بإخفاء الهوية، مع ضمان استخداماتها المشروعة.
فقبل 20 سنة، كان من المغري تخيّل منافع الإنترنت باعتبارها عالماً مثالياً لا تطاوله أيدي الحكومات، أو مكاناً يتساوى فيه الجميع ويستطيعون أن يقولوا ما يريدون، من دون خوف من الانتقام. والمحزن أن تلك الإنترنت التي عملت في ظل قليل من التنظيم التشريعي، لم تكن كذلك، وفق ما تبيّن لاحقاً.
نحن بحاجة إلى تنظيم تشريعي، وأيضاً إلى مناصرين متحمسين لحرية التعبير على غرار "مؤشر الرقابة"، كي يساعدوا في جعل ذلك التنظيم صائباً. وقد آن الأوان لمؤيدي حرية التعبير أن يتخلّوا عن معارضتهم التحررية للتنظيم ويتوقفوا عن تضخيم السلبيات، وأن يشمّروا عن سواعدهم بدلاً من ذلك، ويساعدوا في تحديد شكل التنظيم التشريعي الجيد، مع ما يرافقه من الضوابط والتوازنات كلها.
كريس بلاكهرست محرر سابق في "اندبندنت" وعضو في المجلس الاستشاري لـ"تنظيف الإنترنت"، وهي جمعية خيرية تنفذ حملة تطالب الحكومة وقطاع التكنولوجيا بالعمل لتحسين الكياسة والاحترام وتخفيض التنمر والمشاغبة والتهديد والتضليل عبر الإنترنت.
© The Independent