أعادت الأزمة الاقتصادية في لبنان إحياء جزء من التراث المادي للمجتمع، من خلال عودة ربات الأسر إلى تجهيز المونة الشتوية، وما لذ وطاب من أطباق غابت لعقود من الزمن عن سفرة العائلات اللبنانية.
وأسهمت أزمة الإغلاق الناتجة من تفشي فيروس كورونا، إلى سعي كثيرين لملء أوقات الحجر والفراغ بتعلم خبرات مفيدة، وخوض تجربة مزج النكهات.
أينما تسافر في الجرد اللبناني، تجد أبناء الأسر الريفية يسابقون الوقت قبل موسم الشتاء لإعداد المونة التقليدية. ولم يتأخر كثيرون عن استعادة طقوس تقليدية قديمة، وتحديداً سلق القمح وتجفيفه، وصولاً إلى تحويله إلى "مسامير الركب"، أي البرغل.
الأرض المباركة
"منذ سنوات طويلة لم نقم بتجهيز المونة في المنزل"، بهذه الجملة تختصر ياسمين فرنسيس، من بلدة زغرتا شمال لبنان، التجربة الجديدة التي تخوضها هي وصديقاتها. فمنذ فترة بعيدة توقفت معظم السيدات عن إعداد المربيات والكبيس والدبس وغيرها من المنتجات في المنزل، فقد اعتادت العائلة اللبنانية شراء السلع الجاهزة من المتاجر، إلا أن الأزمة الاقتصادية وانهيار سعر صرف الليرة اللبنانية أمام الدولار، أديا إلى انخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، فباتت "الأسعار نار، والسلع ذات الجودة الممتازة لم تعد في متناول الطبقة الوسطى". أمام هذا الواقع، أعدّت ياسمين عصير و"رب البندورة" (معجون الطماطم)، ولبن الماعز، إضافة إلى تجليد الخضروات، كما بدأت بإعداد الجبن في المنزل لأنه "أنظف وأرخص".
تُقر ياسمين بأنها لم تكن تحترف إعداد المونة، وكانت تطلب من بعض الأصدقاء إعدادها بمقابل مالي، إلا أنها قررت أن تتعلم ذلك، وبالفعل تمكنت من تجهيز الدبس و"رب البندورة" على نار الحطب وبنجاح.
تنصح ياسمين السيدات بالقيام بذلك، لأن فيه متعة كبيرة وفائدة، مشيرة إلى أنها استصلحت مع زوجها قطعة أرض قرب بيتهما، وراحت تزرع فيها التشكيلة الصيفية من البندورة والخيار والكوسا والفليفلة والبقدونس. كما تتجهز للموسم الشتوي من خلال زراعة الملفوف والبروكلي والقرنبيط والهندباء. واعتادت ربة المنزل الاعتناء بحديقتها "الكريمة"، لذلك تروي المزروعات يومياً، وتأتي بأحفادها إلى الأرض من أجل الشعور بأهمية الإنتاج المنزلي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
مورد دخل إضافي
يشكل إعداد المونة المنزلية مصدر فخر ومورد دخل، فما إن تدنو شمس أغسطس (آب) من بلوغ ذروتها، حتى تتسابق النسوة على تصنيع الطبق الأشهى في الشتاء، ألا وهو "الكشك" المؤلف من برغل القمح واللبن، إذ يمزج ويجفف تحت أشعة الشمس، وصولاً إلى فركه وطحنه. وتتفاخر النسوة في الجرود بإعداد أطيب كشك لعوائلهن وزبائنهن، إذ يبعنه لقاء مبالغ تتفاوت بحسب جودته.
ولا يتوقف الأمر عند الكشك، وإنما يتجاوزه إلى دبس الرمان والصعتر البلدي وماء الورد والزهر، وهي مكونات أساسية في المونة اللبنانية، التي تبرهن على قدرات ربات المنازل وبراعتهن.
يسهم إعداد هذه المواد الغذائية في تأمين دخل كثير من العائلات. وتؤكد السيدة تغريد لـ "اندبندنت عربية"، أنه مع أزمة الفساد الغذائي والكشف عن بيع صعتر مغشوش في السوق تدخل في مكوناته النشارة، خافت وبدأت بإعداد الصعتر البلدي، إذ تأتي بـ "الزوباع البري" من جرود الضنية، تغسله وتجففه قبل طحنه وخلطه مع السمسم المحمص، ومن ثم راحت تجهز دبس الرمان الذي ذاع صيته بين صديقاتها ومعارفهن. وتشير أم ابراهيم إلى أن إحدى الصديقات تذوقت الدبس وأقرت بجودته، فطلبت منها تجهيز بعض القوارير لها، وهكذا بدأت القصة حتى أصبح لديها عشرات الزبائن، بعضهم من خارج لبنان، يطلبون من أهاليهم إرسال الدبس المنزلي إلى أستراليا والأردن والكويت.
أمّن بيع المنتجات المنزلية حداً أدنى من دخل العائلة، وعلى قاعدة "البحصة تسند الجرة"، تحول موسم الرمان إلى محطة موسمية سنوية، تشمل قائمة من الزبائن. تشكو أم ابراهيم من ارتفاع أسعار الرمان هذا العام، ما سيضاعف ثمن الدبس. فعلى سبيل المثال، كان سعر كيلو الرمان حوالى 1000 ليرة لبنانية، ووصل العام الحالي إلى حدود 3000 ليرة، ما دفعها إلى تقليص الكمية التي تعدها، خوفاً من أن يحول الغلاء دون شراء العائلات غير الميسورة للمنتج.
وتؤكد أم ابراهيم أنها انتقلت إلى مراحل جديدة من الإنتاج، مع توزيع البيض البلدي إلى إعداد الجبن المنزلي الذي وصل سعر منافسه الصناعي إلى 50 ألفاً، ومربيات المشمش والسفرجل. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بدأت بإعداد طحينة السمسم التي تعلمت طريقتها من موقع "يوتيوب". وتتحسر لأنها لم تسمع نصيحة زوجها منذ أعوام بشراء بقرة، إذ أصبحت اليوم حاجة لكل بيت في لبنان، للحؤول دون الجوع.
تقول أم ابراهيم، "البيت الذي يوجد فيه شوال طحين، ومونة شتوية، لا يخشى الجوع"، ففي أسوأ الأحوال يتم عجن القليل من الطحين وتحويله إلى خبز أو حشوه بالزعتر أو الجبن، أو الزبدة والسكر.
التعلم في زمن كورونا
تمكنت بعض السيدات من الاستفادة من فترة الحجر المنزلي، وتحويلها إلى فرصة لتعلم مهارة الطبخ وإعداد المونة الشتوية. ولم تتأخر بعض الأمهات في تحويلها إلى فرصة للمتعة مع الأبناء. وتقدم السيدة مايا عودي نموذجاً لذلك، فقد بدأت خلال الحجر باكتساب مهارة الطبخ التقليدي، مستفيدة من تجارب الأصدقاء والأهل، فضلاً عن مجموعات الطبخ عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وقد شكل الانتساب إلى مجموعة "المطبخ الطرابلسي" فرصة ذهبية لها، إذ تعلمت الكثير من أصول الأطباق، كما كانت باحة لتقويم نجاحاتها ومشاركاتها مع المجموعة. وتجزم مايا، في حديث إلى "اندبندنت عربية"، بأن "التوفير والأزمة الاقتصادية لم يكونا السبب الأول، وإنما وقت الفراغ والاعتياد على الإنتاجية".
تعلمت مايا كثيراً من الأطباق الحلوة والمالحة، واستغنت هذا العام عن كعك العيد والمعمول الجاهز، بعدما أعدته بنفسها مع بناتها. وتعبر عن سعادتها بتطورها المستمر، إذ أصبحت منتجاتها مرضية لها ولأسرتها والمحيط، لذلك لم تعد تخجل من التعبير عن فخرها بعملها.
وأسهمت العادات المطبخية الجديدة بإخراج العائلة من دائرة الروتين، فضلاً عن اكتشاف كم كبير من الأطباق التقليدية الصحية. وتنصح مايا الأزواج بعدم الخوف و"خوض المخاطرة"، لأن "البهارات تغني وتغير نظرتهم للحياة والواقع".
استجابات مؤقتة فرضتها الأزمة
لا يعتبر الإقبال على إعداد المونة أمراً عابراً، فهو بنظر علم الاجتماع مؤشر إلى سلوك جديد للكائن الاقتصادي. ويؤكد عالم الأنثروبولوجيا الاقتصادية الدكتور سعيد عيسى، لـ "اندبندنت عربية"، أن هذه "خطوة إلى الوراء بمفهوم الابتعاد عن المجتمع الاستهلاكي"، موضحاً "أننا خلال العقود الثلاث الماضية، اعتمدنا على السوق بسبب الوفرة في الإنتاج والنقود بين أيدي الناس، لذلك ترك هؤلاء المؤونة التقليدية، واعتمدوا على شراء المعلبات والمأكولات الجاهزة".
ولا يمكن التغاضي عن أثر الأزمة الاقتصادية الكبيرة التي خلقت صدمة للمواطن اللبناني الذي خسر ودائعه وفقد مدخراته، وتلاشت القوة الشرائية لأجره، فهذا الأمر أدى إلى خلق شعور بالخوف من المستقبل وعدم الأمان، ودفع الناس إلى محاولة توفير أكبر قدر ممكن من الأموال، لذلك انتقلت العائلات إلى إعداد حاجاتها الغذائية بنفسها لتوفير النقود.
في هذا الصدد، يلفت عيسى إلى أن ظاهرة المونة ظلت حاضرة في المجتمعات الريفية، إلا أن اللافت هو انتقالها إلى الجماعات الحضرية. ويرى في ذلك "استجابة لأمر طارىء وعلاجاً مؤقتاً، وإن عادت الأجور إلى قوتها الشرائية فسيعود اللبناني إلى مرحلة الاستهلاك". وتوقع عيسى أن يبقى الأمر على حاله طالما بقيت الموارد بين أيدي المواطنين محدودة، والأجور في تدهور، وهذا ما يسمى في الاقتصاد بـ "العقلانية"، ولكن حالما تعود الأمور إلى طبيعتها، سيعود المواطن إلى السلوك الاقتصادي السابق، والقائم على الاستهلاك.